في مقال تحليلي نشرته الاثنين، تناولت صحيفة "نيويورك تايمز"، الأسباب التي تحول دون تمكّن الصين من إنقاذ الاقتصاد الروسي في ظل التداعيات التي طالته جراء العقوبات الغربية المكثفة، معتبرة أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "أساء تقدير كل شيء عندما قرر غزو أوكرانيا".
وتبنّى كاتب المقال، الأستاذ في جامعة نيويورك، بول كروجمان، والحائز على جائزة "نوبل" في العلوم الاقتصادية عام 2008، استنتاجاته على افتراض أن الرئيس الروسي "المتضخم" بالغ في تقدير قوة بلاده العسكرية، بينما "بخس بشدة القوة النفسية والبراعة العسكرية" لجارته الصغيرة، أوكرانيا.
ويقول إن "بوتين فشل في توقع عزم وتصميم الحكومات الديمقراطية وردة فعلها على غزو جيشه لأوكرانيا، بما في ذلك إدارة بايدن، التي أدت عملاً رائعاً على جميع الأصعدة، بدءاً من تسليح أوكرانيا، وصولاً إلى حشد الغرب حول العقوبات المالية".
"احتضار التجارة الروسية"
رغم ذلك، لا يعبأ المقال بما يتردد حول قيام القوات الروسية بإعادة تجميع صفوفها، واستئناف تقدمها على نطاق واسع في غضون يوم أو يومين، خاصة وأن هذه المقولات تتردد "يوماً بعد يوم، لأكثر من أسبوع".
وإنما يذهب إلى التركيز، بدلاً من ذلك، على تحليل تأثير العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، وعلى وجه التحديد الإجابة على سؤال: هل تستطيع الصين، من خلال تقديم نفسها كشريك تجاري بديل، إنقاذ اقتصاد بوتين؟ لكنه سرعان ما يبتّ بالأمر بأن "هذا الاحتمال غير وارد على الإطلاق".
وفي تحليله لتداعيات تلك العقوبات، يؤكد كروجمان أن "الشيء الوحيد الذي لم يفعله الغرب هو محاولة منع المبيعات الروسية من النفظ والغاز، التي تُمثل الصادرات الرئيسية للبلاد".
ويشير إلى أن حظر الولايات المتحدة لواردات النفط الروسي، هو "مجرد إجراء رمزي"، فالنفط يتم تداوله في السوق العالمية، ولهذا فإن ذلك سيؤدي فقط إلى "فرض بعض التعديلات على هذه التجارة"، وفي جميع الأحوال، فإن الواردات النفطية الأميركية من روسيا تمثل حوالي "5% فقط" من الإنتاج الروسي.
مع ذلك، يتابع المقال "لقد منع الغرب إلى حد كبير وصول روسيا إلى النظام المصرفي العالمي، وهو إجراء له ما بعده، فالمُصدرين الروس قد يكونوا قادرين على إخراج بضاعتهم من البلاد، ولكنهم الآن غير قادرين على تقاضي ثمن هذه البضائع".
والأهم من ذلك، بحسب تحليله، أنه بات من الصعب على روسيا سداد ثمن وارداتها، كما أن التجارة الروسية التي لا يزال مسموحاً بها تبدو في واقع الأمر وكأنها "في حالة احتضار"، حيث تنخرط الشركات الغربية التي تخشى من فرض مزيد من القيود، ومن ردود الفعل السياسية، في "معاقبة الذات".
ما أهمية ذلك؟
في معرض الإجابة على هذا السؤال، يقول الأكاديمي الأميركية في مقاله بـ"نيويورك تايمز"، إن النخبة الروسية "ربما تستطيع العيش من دون حقائب (برادا) باهة الثمن، لكن الأدوية الغربية لها وقع آخر".
ويتابع "في جميع الأحوال، فإن البضائع الاستهلاكية لا تُمثل سوى "ثلث الواردات الروسية تقريباً"، أما الثلثين الآخرين فسلع رأسمالية، وسلع وسيطة، أي مكونات تستخدم في إنتاج سلع أخرى، ومواد خام.
ولعلّ هذه السلع، وفقاً لكروجمان، هي ما تحتاج إليه روسيا للمحافظة على اقتصادها، والتي قد يتسبب غيابها في توقف قطاعات مهمة، حيث هناك بالفعل اقتراحات تفيد، على سبيل المثال، بأن منع قطع الغيار والخدمات قد يؤدي سريعاً إلى إصابة الملاحة الجوية المحلية في روسيا بالشلل التام، ما يمثل مشكلة كبيرة في بلد بحجم روسيا.
أين الصين؟
ولكن، هل تستطيع الصين مد شريان الحياة للاقتصاد الروسي؟
وفقاً للمقال التحليلي، يبدو هذا الأمر غير متاح، وذلك لعدد من الأسباب، أولها، أنه "على الرغم من كون الصين قوة اقتصادية هائلة، إلا أنها ليست في وضع يسمح لها بتوفير بعض الأشياء التي تحتاج إليها روسيا، مثل قطع غيار الطائرات المصنعة في الغرب، ورقائق أشباه الموصلات المتطورة".
ويشير السبب الثاني إلى أنه رغم أن الصين ليست منطوية في قائمة الدول التي فرضت عقوبات أخيرة، إلا أنها منخرطة بقوة في الاقتصاد العالمي. وهذا يعني أن البنوك والأنشطة التجارية الصينية الأخرى، مثل الشركات الغربية، قد تنخرط في "معاقبة الذات"، أي أنها ستُحجم عن التعامل مع روسيا، خوفاً من ردة فعل المستهلكين والمنظمين في الأسواق الأكثر أهمية.
أما ثالث الأسباب، فيكمن في "بعد الصين الجغرافي عن روسيا، فرغم أن الدولتين تتشاركان أحد حدودهما، لكن معظم الاقتصاد الروسي يقع غرب جبال الأورال، في حين يقع معظم الاقتصاد الصيني على مقربة من ساحلها الشرقي".
ويتابع: "كما تقع بكين على مسافة 3500 ميل من موسكو، والطريقة العملية الوحيدة لنقل السلع عبر تلك المساحة الشاسعة ممكنة عبر عدد قليل من خطوط القطارات المنهكة بالفعل".
بينما يلخّص الكاتب السبب الأخير الذي يحول دون قدرة الصين على إنقاذ الاقتصاد الروسي، في أن هناك "اختلافاً شديداً في القوة الاقتصادية بين البلدين"، ففي حين لا يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لروسيا 2 ترليون دولار، يقارب الناتج المحلي الصيني الـ16 ترليون دولار سنوياً.
"ثمن فادح بالمال والدم"
ويلفت المقال إلى أن بعض السياسيين يحذرون من "تشكل (قوس استبداد) محتمل، يُعيد إلى الذاكرة محور الحرب العالمية الثانية. وبالنظر إلى الفظائع التي تُرتكب حالياً، فإن هذه المقارنة تبقى مقبولة. لكن الشركاء في هذا القوس سيكونون غير متكافئين على نحو فج"، وفق تعبيره.
ويضيف الحائز على جائزة "نوبل" في الاقتصاد أن بوتين "ربما يحلم باستعادة إرث الحقبة السوفيتية، لكن الاقتصاد الصيني الذي كان يُعادل تقريباً حجم اقتصاد روسيا قبل 30 عاماً، يبلغ الآن 10 أضعافه. وعلى سبيل المقارنة، كان الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا ضعفين ونصف ضعف الناتج المحلي الإجمالي الإيطالي عندما تشكل "المحور" الأصلي".
لذلك، يضيف كروجمان: "إذا كنت تتصور إعادة إنشاء تحالف (نيو فاشستي) جديد، (ومرة ثانية لم يعد هذا يبدو وكأنه لغة متطرفة)، فستُمثل فيه روسيا الشريك الأصغر بدرجة كبيرة، وربما أقرب في واقع الأمر إلى دولة عميلة للصين".
ومن المفترض، وفقاً للمقال، أن "هذا ليس ما يفكر فيه بوتين الحالم بالإمبرطورية".
ويختم الأكاديمي الأميركي تحليله بتأكيد إجابته على السؤال الذي انطلق منه، "إذن، لا تستطيع الصين عزل روسيا عن عواقب غزوها لأوكرانيا"، فصحيح أن الضغط الاقتصادي على روسيا سيكون أكثر إحكاماً، في حال انضمت الصين إلى العالم الديمقراطي في معاقبة العدوان، لكن هذا الضغط يبدو الآن محكماً حدّ القسوة حتى من دون مشاركة الصين.
ويذهب كروجمان إلى أن روسيا "ستدفع ثمناً فادحاً، بالمال والدم، بسبب جنون العظمة الذي يعاني منه بوتين".