هل يقف تهريب العملات الصعبة من البنوك اللبنانية إلى خارج البلاد، وراء انهيار النظام المصرفي اللبناني؟ ومن هرّب؟ ومن سهل هذه العملية؟
هذه التساؤلات التي يسعى وثائقي باسم "الخديعة الكبرى" الإجابة عليه، وهو من إنتاج "الشرق للأخبار" عام 2021، وبثته قناة "الشرق" وشقيقاتها من المنصات الجمعة 6 مايو.
وثائقي "الخديعة الكبرى" في برنامج "أمام الكواليس" من "الشرق للأخبار" ، يتقصى على مدى ساعة تلفزيونية، خبايا اختفاء مليارات الدولارات من المصرف المركزي في لبنان، ليكشف استناداً إلى وثائق حصرية يتم الكشف عنها للمرة الأولى، أماكن اختفاء هذه الأموال، والمتورطين في تلك التجاوزات التي أدت إلى انهيار اقتصادي لم يشهده لبنان من قبل.
أصل الحكاية!
استفاق اللبنانيون أواخر عام 2019، ليجدوا أنّ الجزء الأكبر من أصل ودائعهم المصرفية قد تبخر، وبلغت قيمة تلك الأصول نحو 120 مليار دولار، تحولت الى أرقام وهمية. دولاراتٌ، باتت موجودة كأرقام فقط في سجلات المصارف من دون إمكانية للحصول عليها.
ومع حلول خريف العام 2021، بقي في القطاع المصرفي اللبناني أقل من 20 مليار دولار، إذ تبخّرت المبالغ الأخرى من العملات الأجنبية، في انهيار اقتصادي شامل، اعتبره "البنك الدولي" الأسوأ في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، إذ اختف أكثر من 100 مليار دولار من الودائع المصرفية من دون سابق إنذار، حتى أطلقت صحيفة "لوموند" الفرنسية على ما جرى اسم "سرقة القرن".
ومنذ العام 2019، أصبح المودعون في المصارف اللبنانية رهائن لتلك المأساة / "الجريمة"، فمن ارتكبها؟ وأين اختفت مليارات اللبنانيين، ومعها نمط عيشهم وأحلامهم؟
احتجاجات 2019
في ليل 17 أكتوبر 2019، اندلعت احتجاجات شعبية كبيرة في لبنان عرفت باسم احتجاجات "17 تشرين". وأعلنت المصارف إقفال أبوابها على خلفية تلك الاحتجاجات، وهو ما استمرّ لفترة غير مسبوقة في تاريخ لبنان.
وخلال مشاركته في وثائقي "الخديعة الكبرى"، قال الخبير الاقتصادي حسن مقلد: "للمرة الأولى في تاريخ لبنان تُغلق المصارف مدة 15 يوماً. لقد تعرضنا لاجتياحات إسرائيلية، على غرار عام 1982، لكن رغم ذلك لم تغلق المصارف آنذاك أكثر من 3 أيام على التوالي".
بدوره اعتبر رئيس مجلس إدارة بنك "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" علي حجيج، أن "قرار إغلاق المصارف بعد 17 أكتوبر 2019، كان مدمراً وخاطئاً، وبمثابة الضربة القاضية للقطاع المصرفي اللبناني".
وبعد أن فتحت المصارف أبوابها، فُوجئ اللبنانيون بفرضها قيوداً قاسية على المودعين مانعة إياهم من سحب ودائعهم.
وفي رده على سؤال بشأن قرار إغلاق المصارف، قال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لـ"الشرق"، إن ذلك لم يكن قرار البنك المركزي، إنما "هذا واقع بسبب إقفال الطرقات وتوقف الاقتصاد".
بينما وصف النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري، القرار بأنه "كان خطأ فادحاً نتج عنه بعض النتائج السلبية"، ما عكس، وفق قوله، "انعداماً بالوزن بالنسبة إلى إدارات المصارف، وبالتالي باتت القرارات التي تؤخذ عشوائية أو غير مدروسة".
ولم يخرج أي مسؤول رسمي لبناني ليُخبر المواطنين عن حقيقة الكارثة التي حلّت ببلادهم، أو يُفسر للمودعين أين ذهبت أموالهم. أما الليرة، العملة الوطنية التي عمل بقيت قيمتها ثابتة على مدى 22 عاماً، فقد بدأت تتهاوى، وحينذاك انتشرت معلومات عن قيام سياسيين وأصحاب مصارف بتحويل أموالهم إلى خارج البلاد خلال فترة الإقفال.
وتحدّث المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية وعضو المجلس المركزي لمصرف لبنان لـ19 عاماً آلان بيفاني، عن أن النخبة المالية "هرّبت مبالغ ضخمة من لبنان".
وفي حديثه لـ"الشرق"، قال بيفاني: "سبق وذكرت لصحيفة (فاينانشيال تايمز البريطانية) خروج نحو 6 مليارات دولار خلال فترة ما، ولم أذكر هذا الشيء لمعرفتي بالأشخاص القابعين وراء الأمر أو المبلغ، فقد اطّلعت على الأرقام ورأيت المقارنة بين الودائع والقروض ووجود الدولار والنقد، فاستنتجت رقماً إجمالياً تبيّن أنه قليل".
تهريب أكثر من 6 مليارات
الخبير المالي اللبناني مروان إسكندر تحدث في 2019 خلال مقابلة صحافية، عن تهريب 6.5 مليار دولار، لتضجَّ البلاد بتلك المعلومات ويسودَ اعتقاد بأنّ سبب الانهيار هو تهريب الأموال إلى الخارج، وهكذا بدأ القضاء اللبناني بالتحقيق.
وفي الوثائق التي حصلت عليها "الشرق"، والصادرة عن مؤسسات رسمية مالية وقضائية لبنانية، تبيّن أنّ الجهات المعنية بدأت تحقيقين: الأول داخلي مع مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بالإضافة إلى لجنة الرقابة على المصارف.
أما التحقيق الخارجي فتمثّل بطلب جهات التحقيق اللبنانية مساعدة قضائية من سويسرا، لتزويدها بمعلومات عن تحويل مبالغ مالية من لبنان إلى مصارف.
وقال المدعي العام التمييزي في لبنان غسان عويدات في حديثه لـ"الشرق": "طلبنا من السلطات السويسرية مساعدة قضائية، لأن الخبير الاقتصادي مروان إسكندر صرّح يومها بأنه اجتمع بصحافية أو مذيعة تلفزيونية في سويسرا، وأخبرته بتحويل 6 مليارات دولار لأشخاص مهمّين في لبنان إلى سويسرا، من دون تحديد هويتهم".
وبعد فتح تحقيق، وأخذ قرار إفادة مروان إسكندر، تراجع الأخير عن مبلغ الستة مليارات، ليصبح 3 مليارات ثم مليارين، كما لم يُحدد أي اسم من هؤلاء الأشخاص، لعدم معرفته بأي منهم بحسب ما ذكر في التحقيق.
وحصلت "الشرق" على وثيقة أخرى من المحاضر الرسمية كشفت أن التحقيقات، التي كانت مستمرة حتى وقت تصوير هذا التحقيق، توصّلت إلى أنّ 31 مصرفاً حوّل إلى الخارج في الفترة التالية لاحتجاجات 17 أكتوبر، وقبل نهاية العام 2019، نحو 160 مليون دولار من حسابات أشخاص نافذين سياسياً.
لكن هذه الوثيقة لا تُظهر إلا جزءاً من إجمالي المبالغ التي هُرِّبت من لبنان، وتوصل التحقيق فيها إلى عدد من النتائج، فمصرف لبنان، لا يتعاون بالقدر الكافي مع جهات التحقيق. والقضاء ممنوع من الاطلاع على المعلومات المتعلقة بالودائع وحركة الأموال، بسبب قانون "السرية المصرفية"، والذي تنص المادة الثانية منه على أن مديري ومستخدمي المصارف ملزمون بكتمان السرّ المصرفي بشكل مطلق.
وقال مدير عام وزارة المالية اللبنانية سابقاً آلان بيفاني، إن "هناك مؤسسة واحدة قادرة على رفع السريّة المصرفية، يرأسها حاكم مصرف لبنان، وليس أمامه إلا إصدار لائحة بكل من أخرج نقوداً، وحتى أولئك الذين سلكوا طريقاً مغايراً، حيث تم الدفع للبعض عن طريق مراسلين، وبإمكانه التحدث مع المراسلين أو مع المصارف المحلية، ويصدر لائحة إسمية ورقمية لكل حساب تحولت نقوده إلى الخارج. لمن هذا الحساب وما هو المبلغ الذي تم تحويله؟ وهكذا تصبح الأمور واضحة، ومن ثم نتوقف عن معاملتها كما لو أنها سر غامض".
"حلقة مفرغة"
ووفقاً لوثائقي "الخديعة الكبرى"، لا يزال التحقيق القضائي في لبنان يدور في "حلقة مفرغة"، ففي وقت لم يتمكن من اكتشاف أين ذهبت الأموال، أعلن المصرف المركزي السويسري في يونيو 2021، أن ودائع اللبنانيين ازدادت في سويسرا بأكثر من 2.7 مليار دولار في عام 2020 وحده.
وتمكنت "الشرق" خلال بحثها عن مسار الأموال المهربة من الوصول إلى وثيقة صادرة عن رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، والتي تُبيّن أنّه في غضون أقل من 3 أشهر بعد احتجاجات 17 أكتوبر، خرج من المصارف اللبنانية إلى سويسرا وحدها 2.2 مليار دولار.
واتضح أن أكثر من 60% من هذا المبلغ مرتبط بما يسمى "عقوداً ائتمانية"، أي أنّ أصحابها أودعوا أموالهم في مصارف أجنبية، ثم طلبوا إيداعها في المصارف اللبنانية طمعاً بالفوائد المرتفعة، وبذلك تظهر الوديعة في لبنان كما لو أنها ملكٌ للمصرف الأجنبي.
وقال رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين كريم ضاهر في حديثه لمعدي تحقيق "الخديعة الكبرى": "إن كان لدينا مسؤول سياسي، لم يشأ أن يعرف أحد بوجود أمواله في المصارف اللبنانية، وأن لديه أرصدة كبيرة. نضع أموالنا في سويسرا بعقود ائتمانية، والمصرف السويسري يودع هذه الأموال في المصارف اللبنانية، ويأخذ عليها (فائدة) 8 أو 9%. كما يأخذ عليها أيضاً عمولة 1 أو 2%، ثم يعطي المبلغ بعقود ائتمانية".
وهذا النوع من "العقود" إنما هو تحايل يستخدمه نافذون من أجل إحاطة حساباتهم المصرفية بالمزيد من السرية، بحيث تمنحهم أفضلية إخراج ثرواتهم من لبنان عند وقوع أي خطر. وفي هذه الحالة، بحسب الوثيقة نفسها، حتى لجنة الرقابة على المصارف لا يحقّ لها رفع السرية المصرفية، والاطلاع على هوية أصحاب تلك الحسابات.
من جانبه، أشار النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري في حديثه لـ"الشرق"، إلى أن "المودعين طلبوا تحويل ودائعهم إلى الخارج، ما يُعتبر تصرفاً غير أخلاقي، وبالطبع هو غير أخلاقي. أنا أسميه غير أخلاقي وغير دستوري أيضاً".
بينما يرى بيفاني الأمر بمنظور آخر: "أولاً قبل إغلاق المصارف، لا يستطيع أحد أن يلقي اللوم على من أخرج أمواله، لأن هكذا هو النظام اللبناني، لكن بعد 17 أكتوبر، أصبحت المسؤولية على عاتق المصارف التي أخرجت أموال البعض جزائية، لماذا؟ ليس بسبب خروج الأموال بحد ذاتها، بل لأن هذه المصارف لديها خسائر، ما يعني تحمّل المودعين خسائرها بشكل كامل. لذلك عندما يقوم مودعون بتهريب أموالهم دون البقية، سيتحمّل الخسائر أولئك الذين أبقوا على نقودهم في الداخل. هذا هو الوضع".
الهروب إلى سويسرا
البحث عن مصير الأموال اللبنانية، دفع "الشرق" إلى التدقيق في الأرقام التي يُعلنها مصرف لبنان المركزي للمتغيرات التي تطرأ شهرياً على موجودات القطاع المصرفي بالعملات الأجنبية. فعبر عملية حسابية بسيطة، يتبين أنّ العام 2020 شهد خروج أكثر من 14 مليار دولار من القطاع المصرفي اللبناني.
وأكثر من نصف هذا المبلغ لم يُستخدَم لتمويل الاستيراد، تبعاً لما قالته الحكومة ومصرف لبنان، لكونهما أعلنا أنّ دعم الاستيراد كلّف أقل من 7 مليارات دولار في العام نفسه. وهذا الرقم يُمكن اعتباره نموذجاً لقراءة كيفية تعامل الجهات الرسمية في لبنان مع الأزمة، ففي خضم الانهيار الاقتصادي، كانت المصارف تمنع اللبنانيين من تحويل الأموال إلى الخارج، ولو لإجراء عملية جراحية لمريض أو دفع كلفة دراسة طالب.
وبرغم ذلك، خرج من البلاد 7 مليارات دولار! ولم يتمكن أحد من كشف أين ذهبت ولصالح من حُوِّلت.
وقال كريم ضاهر، رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين: "لدينا شكوك بأن الأموال التي تحولت إلى سويسرا لم تنتج فقط عن الاختلاس، بل عن استعمال المعلومات المميزة، حيث هناك قانون 160 لعام 2011، حيث معرفة المصرفيين بانهيار القطاع المصرفي بشكل مسبق، يدفعهم لتحويل أموالهم إلى الخارج، مصرفيين أو مساهمين أو مدراء، ما يجعل المصارف اليوم في حالة إعسار، لعدم قدرتها على سداد المبلغ للمودعين، في حين أن أموالهم في مأمن من أي خطر أو مساءلة".
وتُعد سويسرا.. مخزن أموال المودعين من كل أنحاء العالم، منذ أن بدأ ملوك فرنسا الكاثوليك في القرن 18، ينقلون أموالهم هرباً من رقابة النظام المصرفي البروتستانتي. وفي جنيف، جرّم "مجلس جنيف الكبير" عام 1713 كشف المعلومات المالية حول الطبقة الأرستقراطية الأوروبية.
هناك كل شيء يبدو دقيقاً، جميلاً، وواضحاً، لكن في أقبية البنوك السويسرية تختبئ أموال أثرياء لبنان محميةً بقانون السرية المصرفية للعام 1934.
وخلال تصريحات أدلى بها لوثائقي "الشرق"، قال النائب في البرلمان السويسري فابيان مولينا: "أشعر بالخجل من أن بلادي، وبالتحديد البنوك السويسرية، متورطة في جرائم مرتكبة من قبل بعض الفاسدين اللبنانيين، سياسيين ونخباً، ولذلك شعرت بثقل المسؤولية لأن أفعل كل ما بوسعي لجلب هؤلاء إلى العدالة، وإعادة الأموال التي سرقوها إلى الشعب اللبناني".
وبرغم ما أسماه النائب السويسري "سرقة أموال الشعب"، إلا أن السلطات السويسرية لم تتعاون مع سلطات التحقيق في لبنان لكشف مهربي الأموال.
وأوضح المدعي العام التمييزي في لبنان غسان عويدات، أن السلطات السويسرية "لم تتعاون مع السلطات القضائية اللبنانية كما كنّا نعتقد أو نأمل، وقد يعود ذلك إلى جمود نظامهم المصرفي أكثر من نظامنا، وقد يكون ذلك لأسباب أخرى، لا نعرف. لكن إلى الآن، لم نر التعاون الذي كنّا في انتظاره".
وعجز التحقيق القضائي الذي بدأ في ديسمبر 2019، عن الوصول إلى نتائج ملموسة أو نهائية، بل لا تزال تظهرُ معطياتٌ عن استمرار عمليات تهريب المليارات إلى الخارج.
وأضاف: "قمنا بطلب الأسماء خلال آخر مراسلة لهيئة التحقيق الخاصة ولجمعية المصارف، حيث طلبنا الأسماء في البداية، ولجأنا إلى الإثراء غير المشروع الذي تسقط بموجبه السرية المصرفية، ما يعني أنه لا أحد يستطيع التذرع بالسرية المصرفية عند عدم إعطاء هذه المعلومات أو عدم الإفصاح عن الأسماء".
وكانت نقمة المودعين تزداد على البنوك التي اتهموها بسرقة أموالهم، حتى وصل الأمر بالمصارف إلى حد احتجاز تبرعات مالية حُوّلت من الخارج إلى جمعيات خيرية، ما اضطر إحداها إلى اقتحام أحد المصارف بهدف إرغام موظفيه على تحويل التبرعات، تحت وطأة التهديد، لتمويل إجراء عمليات جراحية في الخارج.
أموال المودعين العرب
في جزء كبير منه، قام النظام المصرفي اللبناني على أموال المودعين العرب، إذ استفاد لبنان من أزمات المنطقة منذ منتصف القرن الـ20، فكانت تأتي تحويلات مالية من دول الجوار وتستقر في المصارف.
وليس بعيداً عن العاصمة اللبنانية، يدير رجل الأعمال الأردني طلال أبو غزالة من عمّان شبكة واسعة من الأعمال في مجال المحاسبة والتكنولوجيا وتقنية المعلومات والخدمات القانونية والتعليم والترجمة والنشر.
وقد انتهى الأمر بالرجل الذي تخرج من الجامعة الأميركية في بيروت قبل عقود، في أروقة المحاكم في دعوى رفعها ضد مصرف "سوسيتيه جنرال" لاسترداد ملايين الدولارات.
واعتبر أبو غزالة خلال مشاركته في وثائقي "الخديعة الكبرى"، أن هناك "تواطئ ثلاثي في لبنان، بين المصارف والبنك المركزي اللبناني من خلال القضاء".
وتابع:"من الصعب أن أتهم القضاء، لكن هذه الأمور الاستثنائية التي يتناولها القضاء اللبناني بطريقة غريبة عجيبة تحدث بالتواطئ مع المصارف. فكيف يمكن لأي مصرف مركزي في العالم أن يأخذ أموالاً، شيكات بإسمي، ويودعها لديه من دون علمي؟ فلنفترض أن المصرف لم يرد التعامل معي مباشرة، إنما أراد التعامل من خلال المصرف المركزي".
وخاطب أبو غزالة مصرف لبنان: "يا بنك لبنان.. يا مصرف لبنان.. لديك شيكات بـ23 مليوناً، ليس بالمبلغ البسيط. أين توجد هذه الأموال؟ ليشرحوا لي أين أموالي؟. لقد أخذت حكماً رائعاً من قاض رائع، بالحجز على أموال المصرف وأموال رئيسه وأعضاء مجلس إدارته ومدرائه. وعندما ذهب القاضي الجديد إلى الاستئناف، سألني: كيف تريد أن تأخذ أموالك من المصرف؟ وقال لي: أنت لا تملك السلطة بأن تأمر المصرف بالدفع لك. المصرف هو من يقرر ذلك".
وأضاف رجل الأعمال الأردني: "المهم لدي، النظام القضائي اللبناني، إذا كنت قادراً على تحمّل هذا التصرف 20 سنة، فلتبق القضية 20 سنة.. دون تنازل أو خسارة، سأستمر بالمطالبة مع الفوائد كاملة إلى 100 سنة".
وقد تكرر الأمر نفسه مع عشرات المودعين.. وهكذا بدا كأن قسماً من القضاء يريد حماية حقوقهم، بينما قسم آخر يستميت في حماية المصارف.
"موقف لا علاقة له بالقانون"
وقال رئيس مجلس إدارة بنك "أدكوم" سابقاً، هنري صقير: "خلال 24 ساعة يجب أن تحكم المحكمة بإفلاس البنك، إذا كان هناك شيك لحساب جار، من واجب المحكمة أن تُعلن إفلاسه، وحينها لو أعلنت إفلاسه أو هدّدت بذلك، لما استطاعت جمعية المصارف أخذ موقف لا علاقة له بالقانون، ولا يستند على أمر قانوني".
من جانبه، أوضح عويدات: "لا يعرف قانون الإعسار إن كانت المصارف معسرة أو لا، من دون خبرة أو مراقبة ما يوجد في السجلات، أو ما يوجد من ودائع، أو إن كانت ودائعهم الموجودة في البنك المركزي لا تزال لهم. لذلك لا نستطيع أن نتكلم عن الإعسار الآن، لكن الشروط، إن كانت موجودة، للإفلاس، فتشترط طلباً من حاكم مصرف لبنان".
ودفع اشتداد الضغط الشعبي بالنيابة العامة المالية إلى إلقاء الحجز على أصول المصارف، وأملاك أصحابها. لكن الضغط السياسي المقابل أدى إلى التراجع عن القرار، بذريعة أنّه سيؤدي إلى وقف تعاملات المصارف الأجنبية مع المصارف اللبنانية.
وأضاف المدعي العام التمييزي في لبنان: "وردني اتصال من رئيس الجمهورية بأن الوضع كارثي، وطلب مني معالجة هذا الموضوع، لاسيما مع بدء (الشاشات) الخارجية بقطع علاقتها مع لبنان، ما يعني وصولنا إلى كارثة اقتصادية ومالية، عزلت لبنان عن القطاع المصرفي العالمي".
ماذا يقول سلامة؟
في رده على التساؤلات التي طرحتها "الشرق" في الوثائقي، قال حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة إن "النظام بقي صامداً. صحيح أصبح من الصعب تحويل الأموال من الخارج، وأصبحت هناك سوق سوداء للّيرة اللبنانية، إضافة إلى أنه لا يمكن سحب النقد بالدولار كما كانت الحال قبل أكتوبر 2019، لكن المصارف لم تُفلس، وأموال المودعين، بعكس ما يُقال، لا تزال موجودة في المصارف".
لكن أين ذهبت حقاً مليارات المودعين؟ سؤال تزداد صعوبة الإجابة عليه، فرغم أن حاكم المصرف المركزي اعتبر أنّ الودائع لا تزال موجودة. لكنه عاد وتحدث لـ"الشرق" في المقابلة نفسها، شارحاً أين اختفت تلك الأموال.
وقال: "خلال السنوات الثلاث الأخيرة، 2016 و2017 و2019، استورد لبنان بقيمة 66 مليار دولار. هذه الدولارات التي ذهبت. لم تذهب الأموال إلى مصرف لبنان ولا إلى أي مكان آخر. ذهبت للاستيراد. وخلال عام منذ وقت الأزمة إلى اليوم، انسحب من القطاع المصرفي 31 مليار دولار من الودائع، واستعمل 20 مليار دولار ليتم إغلاق القروض، و10 مليارات دولار سُحبت نقداً.
بدوره، قال عضو مجلس إدارة جمعية المصارف اللبناني تنال الصباح، إنه "قمنا بتسليف السوق بما يُعادل 50 أو 60 مليار دولار، وساهمنا بالنهضة العمرانية والتجارية والاقتصادية في لبنان. وعاش اللبنانيون راحة اقتصادية. ذوو الدخل المحدود، كما لو أنهم كانوا يصرفون أموال كبار المودعين. هذا شيء مضحك، لكنه الواقع".
بينما يرى النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري، أن "الدولة هي المسؤولة عن أموال المودعين. هي التي هدرت أو سرقت أموالهم".
ومن جانبه، قال رئيس مجلس إدارة بنك "أدكوم" سابقاً هنري صقر، إن "مسؤولية السلطة السياسية تكمن في محاولة استفادة كل شخص من الهندسات المالية، ومن الرخاء الموجود في المصارف، لذلك، لن تعود السلطة السياسية لمحاربة المصارف وإجبارهم على الخضوع للقانون، أو أن تُجبر المحاكم بالتعاطي بحسب القانون مع هذه المصارف".
وأضاف بيفاني أنه "إذا أراد أحد إلقاء اللوم، لا يقوم بتحميل المسؤولية على الدولة والمطالبة بأخذ الأصول الثابتة. إن كان الحق على الدولة، فلتخبرنا بأسماء الأشخاص ليتم محاسبتهم قانونياً، وكذلك إن كنا في صدد الحديث عن سياسات الحكومة، بالطبع هناك مسؤوليات هائلة على عاتقها، لكن هذه السياسات الحكومية وسياسات مصرف لبنان، هي نفسها. نحن نرغب أحياناً في نسيان أن سياسات مصرف لبنان هي جزء من الدولة. هناك مسؤولية على الحكومة أيضاً لأنها كانت تساعد سياسات حكومية وتسايرها".
وكان بيفاني على مدى 19 عاماً، مديراً عاماً لوزارة المالية، وعضواً في المجلس المركزي لمصرف لبنان، فهل نبّه إلى الانهيار القادم؟
يجيب لـ"الشرق" عن هذا السؤال قائلاً": "في عام 2018 أبلغت رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وتحدثت مع حاكم مصرف لبنان، وقلت إن العجز أصبح 4 أضعاف، وإذا تواصلت وتيرة العجز كما هي، إضافة إلى الأوضاع العامة في العالم والمنطقة التي لم تعد تسمح بتغطية هذا الوضع، نحن ذاهبون إلى كارثة حتمية".
اقتصاد السلم
لا تقتصر المشكلة في لبنان على المسؤولية الجزائية للأفراد أو المؤامرة الخارجية، فأحد أوجه الأزمة الاقتصادية هو النموذج الاقتصادي الذي اعتُمد بعد الحرب الأهلية كما يذهب عدد من خبراء الاقتصاد إلى القول.
الخبير الاقتصادي حسن مقلد أشار إلى أن "النموذج الاقتصادي الذي اختاره لبنان بعد الحرب واتفاق الطائف، راهن على أن السلم سيستمر في المنطقة، وبالتالي عدم حاجة لبنان إلى صناعة أو زراعة، بل إلى خدمات مالية وعقارية وسياحية، أي أن لبنان استراحة للمحيط الإقليمي، وليس بلداً منتجاً. وقد أعلن عن هذه الخيارات رسمياً".
ومنذ الاستقلال اعتمد لبنان نظاماً ليبرالياً إلى حد كبير في المعاملات المالية، لكن في قلب عاصمة الاقتصاد الحر، في واشنطن حيث تتجاور المؤسسات المالية مع مراكز صنع القرارات السياسية ومجموعات الضغط المتصارعة، صدرت تباعاً عقوباتٌ طالت مصارفَ وأفراداً لبنانيين.
تحذير أميركي
خلال مشاركته في وثائقي "الخديعة الكبرى"، قال ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط سابقاً: "لطالما حذّرت الولايات المتحدة الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان بشأن الملائمة المالية لمصارف عدة، وهذا أمر بدأ منذ وقت طويل. وبالمناسبة كافة الأطراف بما في ذلك الفرنسيون والألمان والمجتمع الدولي، جميعهم كانوا يتحدثون إلى لبنان منذ وقت طويل للتحذير من الممارسات المصرفية غير السلمية التي لاحظَها الجميع في لبنان بشأن طبيعة البرنامج الاحتيالي، القائم على استدانة مصرف لبنان من البنوك المحلية، مقابل نسب فائدة مرتفعة، وتلك ممارسة غير آمنة بالطبع، ولذلك لم يكن سراً المصير المحتم الذي كان يتجه إليه القطاع المصرفي".
ويقدّم كلام شينكر جزءاً من الإجابة على السؤال الذي انطلق منه وثائقي "الشرق": أين اختفت أموال اللبنانيين؟ فسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي على مدى أكثر من 22 عاماً، شجّعت المصارف على إقراض الدولة بالليرة، ما ساهم في زيادة الدين العام حتى تجاوزت نسبته في 2019 عتبة الـ174% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي ظلّ تراكم عجز الميزان التجاري على مدى 3 عقود، وعجز ميزان المدفوعات بصورة متواصلة بعد عام 2011، أغرى مصرف لبنان المصارف بفوائد مرتفعة لاستقطاب الجزء الأكبر من الأموال المودعة لديها، وبدلاً من استخدام الودائع الضخمة للاستثمار في الاقتصاد اللبناني، بات مصرف لبنان وجهة الاستثمار لأكثر من 65% من الدولارات المودعة في المصارف، حيث كان جزء من دولارات المودعين يُستخدم لدفع فوائد على هذه الأموال نفسها ولتمويل الاستيراد، فيما استعمل المصرف المركزي جزءاً منها لتمويل حاجات الدولة بالعملات الأجنبية، وللحفاظ على ثبات سعر صرف العملة الوطنية.
وقال آلان بيفاني، إن "تحسين سعر صرف الليرة كما جاء، وتثبيته لاحقاً على مستوى مرتفع، جعل اللبنانيون يرون أن الاستيراد أوفر من شراء الإنتاج المحلي، إذ كان سعره أقل، بسبب قوة عملتهم، فبدأت حركة الاستيراد، الأمر الذي فاقم سوء وضع القطاعات المنتجة، وحدث ارتفاع هائل لعجز الحسابات الجارية.. الأمر الذي لم يأتِ أحد على ذكره من قبل. وكان دائماً ما يتم تأجيل الحديث بهذا الموضوع في كل مرة كنت أذكره. ثم بدأ يكبر هذا العجز ويتراكم، وبات من الصعب التعويض عنه، إلا بتدفق الأموال الدائم باتجاه الاقتصاد اللبناني".
وفي حديث لـ"الشرق"، قال نديم المنلا مستشار رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الحريري: "أنا أعتقد أنه كان من الممكن تحرك سعر الصرف ضمن هوامش مقبولة من دون التأثير على الاستقرار الاجتماعي، في حال باشرت الدولة اللبنانية بإصلاح مالي وهيكلي للاقتصاد اللبناني. للأسف استقرار سعر الصرف أصبح الأداة الوحيدة للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي".
بدوره اعتبر محمد بعاصيري، النائب السابق لحاكم مصرف لبنان، أن "تثبيت سعر الليرة هو سياسة حكومات، وأنا أشهد على ذلك منذ عام 1990 ولغاية اليوم، حيث لا يوجد حكومة، سواء رئيس الوزراء أو الوزراء أو المجلس النيابي ورؤساء الجمهورية، أي السلطة مجتمعة، كانت تنادي بثبات الليرة، لكن كما يُقال، للنجاح 100 أب، والفشل ليس لديه أي أب. عندما تكون الأمور على ما يُرام، والحفلة في منتصفها سيتبناها الجميع، ولهذا السبب أضاع الناس من قام بسياسة تثبيت الليرة".
حماية سياسية
في نيسان 2019، بدأ سعر صرف الليرة اللبنانية بالانهيار ببطء، قبل أن تتسارع الوتيرة في العام التالي.
وأمام انهيار الليرة، وفي ظل الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر 2019، استقالت حكومة سعد الحريري، ليُكلّف بعد أسابيع حسان دياب بترأس الحكومة، والذي وصف لبنان في أول خطاب له، بأنه "في العناية الفائقة".
وفي مارس 2020 أعلن دياب توقف لبنان عن دفع ديونه بالعملات الأجنبية. وحينها، عكفت الحكومة على وضع خطة للإنقاذ بالتعاون مع شركة "لازار" العالمية، سُميت بخطة التعافي المالي، لكن سرعان ما أسقطتها قوى سياسية من داخل الحكومة ومن خارجها.
وعلق المنلا على ذلك قائلاً: "أعتقد أن حكومة حسان دياب تسرعت بطرح خطة من المفروض أن يتم تداولها داخلياً ومع صندوق النقد، والإجماع عليها قبل طرحها بالطريقة التي طُرحت بها".
وكانت خطة التعافي تلك مبنية على توزيع الخسائر على أصحاب الودائع المتوسطة والكبيرة وعلى الدولة وعلى المصارف. ونصّت على تحرير مضبوط لسعر صرف الليرة اللبنانية لكي لا يتجاوز الدولار في عام 2024 سقف 4500 ليرة، وبعد إفشال خطة الحكومة لامس الدولار 25 ألف ليرة عام 2021.
أما بيفاني، فاعتبر أن "من ضمن الذين أسقطوا الخطة أولاً سياسيون ومستفيدون ومساهمون، وأولئك الذين لا يرغبون بوجود إصلاحات وتغيير النظام. وللأسف كافة الأحزاب المشاركة في السلطة تقع على عاتقها مسؤولية هائلة في هذا الصدد".
انفجار مرفأ بيروت
في الرابع من أغسطس 2020، انفجر مرفأ بيروت لتستقيل حكومة حسان دياب على وقع احتجاجات شعبية عارمة، وليصرح آنذاك رئيس الوزراء المستقيل بأنه اكتشف أن "منظومة الفساد أكبر من الدولة"، مضيفاً في بيان رسمي متلفز: "فعلاً.. يلي استحوا ماتوا".
وهكذا، عاد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة صانعاً حصرياً للسياسات المالية والنقدية والاقتصادية، على حدّ وصف "البنك الدولي"، علماً أن الرجل الذي أصبح مسؤولاً عن تنفيذ إجراءات إنقاذ البلاد، هو نفسه، متهم أول، مع هذه السلطة، بالتسبب بالانهيار. وهو نفسه أيضاً، مشتبه فيه أمام القضاء في لبنان وعدد من الدول الأوروبية، بتهم "الاختلاس وغسيل الأموال".
وعرض وثائقي "الخديعة الكبرى"، وثيقة خاصة بالنيابة العامة الاتحادية السويسرية في برن، يرد فيها للمرة الأولى اسم رياض سلامة بوصفه مشتبهاً فيه، وفي هذا الملف طلبت السلطات السويسرية مساعدة السلطات القضائية اللبنانية لكشف تفاصيل تورط حاكم المصرف المركزي اللبناني، وشقيقه رجا سلامة، بـ"اختلاس مبالغ" قُدّرت بأكثر من 300 مليون دولار على نحو يُضرّ بمصرف لبنان على حد قولها.
وقال رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين كريم ضاهر: "هناك شيء غير طبيعي، حيث يتم فتح حساب لبنك مركزي بتوقيع شخص، ولا يوجد شفافية أو تفاصيل، ولا يوجد شيء شيء اسمه قمنا بالتحويل من هنا إلى هنا. وواضح وجود تضارب في المصالح. فمثلاً شركة فوري، المستفيد الاقتصادي منها هو رجا سلامة".
بدوره أكد النائب في البرلمان السويسري فابيان مولينا، أن "أموال رياض سلامة مُجمّدة وستبقى كذلك إلى حين استكمال الإجراءات القانونية في سويسرا، لكن إلى الآن لم تُظهر الحكومة السويسرية أية إرادة سياسية للتصرف بهذا الخصوص، ولذلك نحتاج إلى أن نبقي الضغوطات عالية، ونحن في حاجة إلى مزيد من الأدلة، التي لا تمنح المدعي العام السويسري أية فرصة للانسحاب من هذا الموضوع الساخن".
وعلى إثر الطلب السويسري، فتح القضاء اللبناني تحقيقاً مع سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويك، وفي هذه الوثيقة التي حصلت عليها "الشرق"، يُخبر المدعي العام اللبناني رئيس الحكومة عن إجراءات التحقيق، وقد دوهمت مكاتبُ رجا سلامة.
وكانت تلك الإشارة الأولى إلى أنّ رياض سلامة، "البطل الذي حافظ على ثبات الليرة طوال 30 عاماً"، لم يعد أسطورة بعد الآن، كما طلبت النيابة العامة اللبنانية تجميد أمواله وممتلكاته في فرنسا وسويسرا وألمانيا.
ثم بدأت تظهر تعقيدات فُسّرت على أنّها دليل حماية سياسية لا يزال يحظى بها الحاكم وأسرته. فالسلطات السويسرية لم تستجب لطلب حجز ممتلكات سلامة وأمواله لحساب الدولة اللبنانية. كما لم تُزوّد الجانب اللبناني بمعلومات كان قد طلبها.
"لا حماية أميركية لسلامة"
وخلال حديث لـ"الشرق"، اعتبر ديفيد شينكر أن "لا حكومة الولايات المتحدة ولا المجتمع الدّولي يوفّر حماية لرياض سلامة. رياض سلامة هو موظّف لدى الحكومة اللبنانيّة، وإذا قررت الحكومة اللبنانيّة إزاحة رياض سلامة عن منصبه فذلك قرارها".
من جانبه لفت مولينا إلى أنه "بحسب معلوماتي فإن الطلب الرسمي للتعاون الدولي الذي تقدّمت به السلطات اللبنانية بشأن سلامة لم يكن مستوفياً للشروط بالنسبة للسطات السويسرية، وهو ما أعطى انطباعاً بأن لبنان غير جاد في استكمال التحقيق في تلك القضية، ومن الناحية الأخرى فإنه كان يتعين على سويسرا وفق المعاهدة العالمية لمكافحة تبييض الأموال، أن تمد يد المساعدة إلى لبنان. ولذلك كلا الطرفين قصّر بالفعل في أداء واجبه، وتبادل اللوم لا يخدم العدالة ولا مصالح الشعب اللبناني".
وأشار المدعي العام التمييزي في لبنان غسان عويدات، إلى أن "السلطات اللبنانية قامت بالحجز على 50 مليوناً، لكن حجم المعاملات التي كانت تحدث تتعدى ذلك".
وتكشف وثيقة رسمية صادرة عن السلطات الفرنسية حصلت عليها "الشرق"، أنّ سلامة هو أحد الذين يدور حولهم تحقيق في دعوى مقامة ضد "عصابة أشرار"، يُعتقد أنّها ارتكبت أعمال تبييض أموال، ما يعني أن حاكم مصرف لبنان المركزي ليس ملاحقاً في لبنان وسويسرا فقط.
وعلّق كريم ضاهر قائلاً: "التحقيق في فرنسا يجري على مجموعة أشرار. بالمطلق رياض سلامة هو أحد التفاصيل.. أي أنه إجراء في هذا الملف، وليس ملفاً بحد ذاته. التحقيق هو دعوة ضد مجهول لجمعية أشرار ساهمت بالوضع الحالي في لبنان، وحرمت المودعين من أموالهم".
وصدرت الوثيقة الفرنسية بعد أن ضبطت سلطات الجمارك في مطار لوبورجيه، قرب باريس، يوم 13 يونيو 2021، مبلغاً نقدياً يصل إلى نحو 90 ألف يورو، في حقيبة حاكم مصرف لبنان، لم يكن قد صرّح عنها.
وتابع ضاهر: "المخالفة التي جرت في فرنسا هي مخالفة في فرنسا وفي لبنان، لكن الأخطر أننا نتحدث عن حاكم مصرف لبنان، أي عن رئيس هيئة التحقيق الخاصة المعنية بمسؤولية مراقبة الأشخاص الذين يخالفون القانون 42 لعام 2015، والذي بدوره يفرض على كل شخص يخرج أو يدخل من لبنان أن يُصرح إن كان بحوزته أي قيمة مالية عامة، تفوق 15 ألف دولار".
ولم تقتصر ملاحقة سلامة على سويسرا وفرنسا وما تعلق بها من تحقيقات لبنانية، إذ أن القضاء اللبناني فتح ملفي تحقيق جديدين مع حاكم المصرف المركزي، الأول متعلّق بتهريب أموال نقداً من لبنان إلى الخارج، فيما بات يُعرف بملف شركة "مكتّف" للصيرفة.
أما التحقيق الثاني فيتمحور حول الاشتباه بتواطؤ المصرف المركزي مع مصارف خاصة على التلاعب بالعملة الوطنية، وتُنسب وثائق التحقيق السري التي حصلت عليها "الشرق" إلى المصرف المركزي إعطاء مليارات الليرات إلى مصارف خاصة عدة عبر مدير العمليات النقدية في مصرف لبنان.
وكانت تلك المصارف تشتري الدولارات من السوق، وتشحنها نقداً إلى الخارج، تُضاف هذه المبالغ إلى نحو 7 مليارات دولار خرجت من مصرف لبنان في عام 2020، والتي قالت المصارف إنها استخدمتها لتسديد التزامات متوجبة عليها لمصارف أجنبية.
وقال وزير العمل اللبناني السابق شربل نحاس في تصريحاته لـ"الشرق"، إن "جريمة رياض سلامة أنه اقتنع مثل كثيرين أن لا بديل عن النموذج الاقتصادي الاجتماعي السياسي الذي أتى لخدمته. جريمته في الأساس وليس في بعض التنفيعات هنا أو هناك التي لا أعفيه منها أبداً، هي أنه أعطى أولوية لإطالة أمد هذا النموذج، وأكرر المالي الاقتصادي السياسي الاجتماعي".
بدوره اعتبر رجل الأعمال الأردني طلال أبو غزالة أن سلامة "تلبس شخصية الحاكم حقيقة، وظن أنه يحكم لبنان، وما ساعده على هذا الشعور هو أن السياسيين وصانعي القرار ومن يملكون السلطة كانوا يحتجانوه وكان سخياً معهم، ولا أزعم أنهم جميعاً، لكن هناك مجموعة كان يشتريها بما يسيطر عليه من سلطات، وليس فقط السلطة المعتادة للمحافظ"، وفق قوله.
الانهيار الاقتصادي
سرعان ما وصل لبنان إلى الانهيار الاقتصادي الشامل، إذ بات عاجزاً عن استيراد حاجاته من محروقات ودواء ومواد غذائية، أما العملة الوطنية، فقد فقدت في عامين أكثر من 90% من قيمتها، في حين تجاوز تضخّم الأسعار خلال أيلول 2021 عتبة الـ 600%، مقارنة بما كان عليه قبل بدء الانهيار، كما أن الحد الأدنى للأجور انخفضت قيمته من 450 دولاراً إلى 37 دولاراً شهرياً.
وقال آلان بيفاني، المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية وعضو المجلس المركزي لمصرف لبنان، إن "المسؤولية هنا هائلة، ليس فقط لوجود خسائر، بل لوجود خسائر مخبّأة ومتراكمة على مدى سنوات، لطالما أعلن عنها مصرف لبنان على أنها موجودات. وفي وسط جهاز مصرف لبنان، أي الأكثرية الساحقة من الناس، لا تعرف ما هي هذه الموجودات. هذا القرار لا يتم التستر عليه من السلطات العليا ومجلس النواب ورئيس الجمهورية ورؤساء الحكومة.. لا، هذا قرار فردي من شخص اعتبر أنه قادر على أن يتخذ قراراً بالبوح بالخسارة أم لا".
بدوره اعتبر نديم المنلا، مستشار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، أن "الطبقة السياسية مسؤولة لأنها كانت تتدلل، ولطالما اعتقدوا بأن مواجهة أي مشكلة سيستطيع القطاع المصرفي ورياض سلامة أن يجدوا حلاً سحرياً لها. لكن في الواقع لم يعد هناك حلول سحرية".
وفي دفاعه عن موقفه رداً على الاتهامات التي تطال مصرف لبنان، قال رياض سلامة: "ليس مصرف لبنان من غيّر الأمور، فلم نضع نحن بنك (الجمّال) على لائحة المصارف المعاقبة (أميركياً). ما يخلق خضّة في القطاع المصرفي. ثم تلقينا صدمة أخرى، كورونا.. التي أثرت على حركة تحويل الأموال إلى لبنان، لأن كورونا ضرب العالم كله فتضاءلت الحركة الاقتصادية في جميع أنحاء العالم، وأصبحت التحويلات المالية أقل، وهذه أمور لا يقف وراءها مصرف لبنان أو حاكم المصرف، ثم وقع انفجار بيروت (المرفأ)، الذي كلّف بدوره الدولة ما يقارب 5 مليارات دولار، بحسب البنك المركزي".
بينما يعتقد ديفيد شينكر، مساعد السابق لوزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، أن "اللوبي السياسي (في لبنان) جميعه عمل بالتضامن على الامتناع عن تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية أو مكافحة الفساد".
وقال عضو مجلس إدارة جمعية المصارف اللبناني تنال الصباح: "خطأ المصارف يكمن في التمادي بالتوظيف، والمصارف بالتأكيد لديها جشع كبير، ومع الفوائد أخذ هذا الجشع بالازدياد، لكن في النهاية الأمول مع من؟ مع الدولة اللبنانية".
ودعا طلال أبو غزالة اللبنانيين إلى عدم الاستسلام، قائلاً إن "صغار المودعين الذين لا يملكون مبالغ كبيرة، لا تقولو ليس لديكم إلا الله، وابدؤوا الخطوة الأولى بإزالة هذا المحافظ. لا تطردوه. أوقفوه عن العمل".
ويوضح وثائقي "الخديعة الكبرى" أن النموذج الاقتصادي السيء، والسياسات الخاطئة والفساد وسوء الإدارة، والمحاصصة الطائفية والمذهبية، والنظام السياسي المعطّل والأحداث الأمنية الداخلية، والاتهامات بالفساد والسرقة، إضافة إلى عوامل خارجية أبرزها العقوبات الأميركية والحرب في سوريا، وتراجع مستوى علاقة بعض الدول العربية بلبنان، ربطاً بالموقف من "حزب الله"، كان لكلٍّ من تلك العوامل نصيبٌ في الدفع نحو الانهيار.
وأوضح علي حجيج أنه "بين العامين 2014 و2015، مع بدء مروحة العقوبات، بدأ القطاع المصرفي اللبناني بالتأثر، وبدأت كتل فوائد النقد بالتراجع".
من جهته، قال شينكر: "الحقيقة أن العقوبات الأميركية تلك لم يكن لها تأثير يُذكر في انهيار القطاع المصرفي اللبناني. وقد انتظرت الولايات المتحدة قبل الإعلان عن العقوبات لما بعد صدور تقييم (ستاندرد اند بورز) للكفاءة الماليّة، ووقتها هوى لبنان إلى مستوى سلبي لتصدر العقوبات بعدها بيومين. كما لم يحدث تدني تقييم لبنان بسبب فرض العقوبات الأميركية، إنما بكل بساطة لأن البنوك اللبنانية لم تطبق المعايير المطلوبة، لأن النظام المصرفي اللبناني لم يكن مستقراً، ولأن جهات بمن فيهم حزب الله، كانت تُسيء استخدام النظام المصرفي اللبناني بشكل مستمر".
بدوره اعتبر المنلا أن اللبنانيين بدؤوا تدريجياً بالشعور بتخل عربي ودولي عن لبنان، وتابع: "لا يمكن للبنان أن يعيش اقتصادياً من دون عدد من الثوابت، أولها انفتاحه على محيطه لأننا غير قادرين على العيش بمفردنا، فوجهة صادراتنا الأولى هي الدول العربية، ومصدر خدماتنا الأساسي هي للدول العربية، وبالتالي محيطنا هو جزء لا يتجرأ من تعافينا الاقتصادي والانطلاق منه".
أما رياض سلامة فعاد ليؤكد موقفه قائلاً: "أحب المواجهة. هكذا هي طبيعتي. أعتقد عند وجود الأزمات، وهو وضع لا بد من أن يمر فيه كل اقتصاد في وقت ما، يجب أن نكون مدركين لهذه الأمور، بوضع خطط تستطيع أن تنقذ الدولة من الأزمة، بدل أن يتم الهرب منها. وبالفعل لم أفكر في الاستقالة بالرغم من كل الصعوبات. لقد اخترت المواجهة".
واعتبر شربل نحّاس أن "المسألة أخطر من السرقة. المسألة تدور حول المكابرة على رهانات ظهر فشلها".
من جانبه قال حسن مقلد: "لقد كانت المصارف جزءاً من المنظمة. القول إن المصارف هي شريك السياسيين، وإن السياسيين شركاء عضويون فيها، هذا يعني أن السياسة المالية التابعة للدولة جزء من التفكير فيها، وبالتالي السياسيون لن يضروا مصالحهم، ولهذا السبب عشرات السياسات التي اتخذت، كانت لمصلحة المصارف والعكس صحيح".
وحتى اللحظة لم تُظهر النخب المالية أو السياسية اللبنانية أي رغبة بتغيير النموذج الذي أدى إلى أسوأ أزمة اقتصادية في التاريخ الحديث. ولا تزال السلطة السياسية التي شاركت المصارف في إفقار الشعب اللبناني تُصرّ على إيكال مسألة العلاج إلى المصرفيين أنفسهم، المسؤولين عن "الخديعة الكبرى".
ويخلص تحقيق "الشرق" عبر الوثائق الحصرية، وملفات التحقيقات في لبنان وخارجه، وشهادات مسؤولين لبنانيين ودوليين، وإفادات مودعين لا تزال دعواهم القضائية في أروقة المحاكم، إلى ثبوت تهريب مليارات الدولارات عبر مسارات متعددة، وإهدار مبالغ أكبر من خلال تبني سياسات نقدية غير رشيدة، وغياب الرقابة والمحاسبة والرغبة في الإصلاح إلى درجة التواطؤ، لتكون النتيجة الحتمية هي الانهيار الاقتصادي التام.
بالتالي، لم يكن مفاجئاً انهيار الاقتصاد اللبناني بعد كل هذا، ولكن ما يبعث على الدهشة هو أن لحظة الانهيار تأخرت كلَّ تلك السنوات.