قد يكون إلغاء حق الإجهاض في الولايات المتحدة، بقرار من المحكمة العليا، مجرد معركة في حرب أوسع، تمسّ مناحي أخرى في حياة الأميركيين، ويُرجّح أن تؤجّج استقطاباً شديداً تشهده البلاد.
كتب القاضي المحافظ في المحكمة العليا، كلارنس توماس، في نصّ يوافق فيه على قرار المحكمة: "في قضايا مستقبلية، يجب أن نعيد النظر في كل سوابق الإجراءات القانونية الموضوعية للمحكمة.. نظراً لأن أيّ قرار موضوعي بشأن الإجراءات القانونية هو (خاطئ بشكل واضح).. علينا واجب (تصحيح الخطأ) المنصوص عليه في تلك السوابق".
توماس حدّد ثلاثة أهداف في هذا الصدد، هي قرار "جريسوولد ضد كونيكتيكت"، الذي شرّع حق الأزواج في استخدام وسائل منع الحمل في عام 1965، و"لورنس ضد تكساس"، الذي يحمي الحق في الاتصال الجنسي مع شخص من الجنس ذاته، في عام 2003، و"أوبرجيفل ضد هودجز" الذي شرّع زواج المثليين، في عام 2015.
واعتبر توماس أن البتّ بتلك القضايا، التي يسمّيها بعضهم قضايا "إجراءات قانونية واجبة"، تم بشكل خاطئ لأن المحكمة فسّرت التعديل الرابع عشر للدستور، الذي أُقرّ في عام 1868 لضمان "الإجراءات القانونية الواجبة" و"الحماية المتساوية للقوانين"، على أنه ترسيخ لحقوق لم يقصدها الآباء المؤسّسون للولايات المتحدة.
مخاوف من توماس
حرص القاضي في المحكمة العليا، بريت كافانو، وهو محافظ أيضاً، على النأي عن رأي توماس في هذا الصدد، متجنّباً ذكر اسمه، إذ كتب، في رأي مؤيّد منفرد لقرار المحكمة: "أؤكد ما تقوله المحكمة اليوم: إن نقض رو (ضد ويد) لا يعني إلغاء تلك السوابق، ولا يهدد تلك السوابق أو يلقي بظلال من الشك عليها".
لكن ذلك لم يطمئن القضاء الثلاثة الليبراليين في المحكمة، وهم ستيفن براير وسونيا سوتومايور وإيلينا كاجان، الذين كتبوا: "رأي اليوم سيؤجّج قتالاً من أجل إخراج الحصول على وسائل منع الحمل، وأيّ ملفات أخرى ذات بعد أخلاقي، من التعديل الرابع عشر وفي الهيئات التشريعية للولايات". ونبّه هؤلاء إلى "وجوب ألا يكون أحد واثقاً من أن هذه الأغلبية (في المحكمة) قد أنجزت عملها".
كذلك انتقد جيم أوبرجيفل، المدعي الأساسي في قضية "أوبرجيفل ضد هودجز"، القاضي توماس، معتبراً أن "الملايين من الأزواج المحبين الذين لديهم الحق في المساواة بالزواج لتكوين أسرهم الخاصة، لا يحتاجون إلى أن يفرض كلارنس توماس أخلاقه الفردية الملتوية عليهم".
ووَرَدَ في رأي الأغلبية بالمحكمة، الذي صاغه القاضي صامويل أليتو، أن حقوق الإجهاض ليست "متجذرة بعمق" في تاريخ الولايات المتحدة.
وحذرت نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، من تبعات هذا الرأي، بقولها: "من خلال التأكيد على أنها ليست متجذرة بعمق في تاريخنا، فإن قرار اليوم بشأن هذه النظرية، يدعو إلى التشكيك بالحقوق الأخرى التي اعتقدنا بأنها راسخة، مثل الحق في استخدام وسائل منع الحمل، والحق في الزواج من الجنس ذاته، والحق في الزواج بين الأعراق".
"عبوة ناسفة ثانية"
صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية رأت في نصّ توماس "عبوة ناسفة ثانية مخبأة داخل قرار المحكمة العليا"، الذي وصفته بأنه "قنبلة". وأضافت أن القاضي "أثار مخاوف أميركا الليبرالية، من أن تتحرّك أعلى محكمة في البلاد لإلغاء سوابق قضائية أرست حقوقاً دستورية، وفقاً لمبادئ مماثلة لرو ضد ويد".
وأشارت إلى أن "كثيرين من الأميركيين قلقون الآن من أن قرار (المحكمة) ينذر باتخاذها مزيداً من الخطوات، للتراجع عن عقود من التقدّم الاجتماعي".
واعتبر لورنس جوستين، وهو أستاذ في كلية الحقوق بجامعة جورجتاون ومتخصّص في قانون الصحة العامة، أن "نبذ توماس باعتباره ذئباً منفرداً سيكون سهلاً"، مستدركاً أن ذلك سيكون خطأً. وحذر من "انهيار الحقوق الأخرى" بعد إسقاط قانون "رو ضد ويد".
لكن سارة بارشال بيري، وهي محامية في معهد "هيريتيدج" المحافظ، عمِلت في إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، استبعدت أن يرغب المحافظون بمراجعة حقوق باتت راسخة ومقبولة في الولايات المتحدة، معتبرة أن "الإجهاض مختلف بطبيعته".
وأضافت أن المحافظين ركّزوا دوماً على إلغاء "رو ضد ويد"، إذ يعتقدون بأنه يمسّ حق، ليس الفرد فحسب، ولكن أيضاً حق الجنين في الحياة. ورجّحت أن تتلقى المحكمة العليا التماسات لمراجعة القضايا التي ذكرها القاضي توماس، مستدركة أن التكوين الحالي للمحكمة يشير إلى أن هذه الالتماسات ستُرفض بسرعة.
لكن مايكل كلارمان، وهو أستاذ التاريخ القانوني الأميركي في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، رأى أن "ما يريده كلارنس توماس هو (برنامج) راديكالي وليس محافظاً".
الرئيس الأميركي جو بايدن، اعتبر أن توماس "دعا صراحة إلى إعادة النظر في حق المساواة بالزواج (و) حق الأزواج في اتخاذ خياراتهم بشأن وسائل منع الحمل"، منبّهاً إلى "مسار متطرف وخطر تسلكه المحكمة الآن".
رمز لليمين في المحكمة
رأت "فاينانشال تايمز" أن "توماس كان رمزاً لليمين في المحكمة العليا منذ عام 1991، بعدما رشّحه (الرئيس الراحل) جورج بوش الأب وثبّت مجلس الشيوخ (ترشيحه)، في مواجهة مزاعم بتحرّش جنسي من مساعدته السابقة أنيتا هيل". وأضافت أنه خاض طيلة سنوات "معارك قضائية يمينية، إلى جانب القاضي المحافظ الراحل أنتونين سكاليا".
وذكّرت بأن توماس كان جزءاً من الأغلبية بالمحكمة، في "انتصارات للمحافظين"، مثل إعلان فوز الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش الابن على خصمه الديمقراطي آل جور، في انتخابات الرئاسة عام 2000، وتأكيد حقوق حمل السلاح في عام 2008.
وأشارت إلى اعتراضه على قرارات أقرّتها المحكمة، بدفع من قضاتها الليبراليين، مثل تأييدها قانون الرعاية الصحية الصادر خلال عهد الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما. كذلك كان الصوت المعارض الوحيد هذا العام، عندما رفضت المحكمة العليا مساعي ترمب لمنع الكونجرس من الاطلاع على سجلات البيت الأبيض خلال اقتحام أنصاره مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021.
زوجة القاضي وترمب
وكان توماس أعرب، في مارس الماضي، عن مخاوفه بشأن التداعيات المديدة لاتجاهات مثل "ثقافة الإلغاء"، وانعدام وجود نقاش مدني. وانتقد وسائل إعلام، لنشرها انطباعات غير دقيقة عن شخصيات عامة، بما في ذلك عنه، وزوجته فيرجينيا توماس، وأنتونين سكاليا.
ويشير القاضي بذلك، إلى تقارير أفادت بأن زوجته أرسلت رسائل نصية طيلة أسابيع، حضّت فيها أبرز موظفي البيت الأبيض خلال عهد ترمب، مارك ميدوز، على العمل لإلغاء نتائج انتخابات الرئاسة عام 2020.
وفي 10 نوفمبر، بعد 3 أيام على الاقتراع وإعلان وسائل إعلام أميركية فوز بايدن، أرسلت فيرجينيا توماس، وهي ناشطة محافظة، رسالة نصية إلى ميدوز، ورد فيها: "ساعد هذا الرئيس العظيم على الوقوف بحزم، مارك!!!... الغالبية تدرك أن بايدن واليسار يحاولان (تنفيذ) أعظم سرقة في تاريخنا".
وأقرّت فيرجينيا توماس بمشاركتها في مسيرة "أوقفوا السرقة" التي دعا إليها ترمب، وسبقت اقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021، علماً أنها نفت أيّ تضارب في المصالح بين نشاطها وعضوية زوجها في المحكمة العليا. وبعد 4 أيام على أحداث الكونجرس، كتبت فيرجينيا توماس إلى ميدوز: "إننا نشهد ما يشبه نهاية أميركا".
في فبراير 2021، رفضت المحكمة العليا طعون حملة ترمب بنتيجة الانتخابات، في قرار اعترض عليه القاضي توماس، الذي أشاد به السيناتور الجمهوري تيد كروز، معتبراً أنه "يدافع عن الدستور!". وكتب على "تويتر" أن توماس "لا يعرف الخوف"، كما أنه "محارب سعيد".
مجلة "ذي إيكونوميست" أوردت أن نشاط فيرجينيا توماس بدأ قبل عهد ترمب، مشيرة إلى أنها تمقت الحركة النسوية وتعتقد بأن "أميركا تخوض معركة شرسة من أجل مبادئها التأسيسية" ضد "الدولة العميقة" و"اليسار الفاشي". وأضافت أن توماس كانت تُعرف في البيت الأبيض أثناء عهد ترمب، باسم "كرة التدمير"، نتيجة إصرارها على الضغط على الرئيس.
"انقلاب لمتطرفين في المحكمة"
في عام 2021، انتقد كلارنس توماس قضاة آخرين، معتبراً أنهم باتوا يؤدون دور مشرّعين وساسة، ومشدداً على وجوب ألا يمارس القضاة السياسة، أو يتخذوا قرارات استناداً إلى مشاعرهم الشخصية أو معتقداتهم الدينية. وقال: "كان يُعتقد بأن المحكمة هي الفرع الأقلّ خطورة (في مؤسسات الحكم بالولايات المتحدة)، وربما أصبحنا الأكثر خطورة. وأعتقد بأن هذا يشكّل مشكلة".
سُئل توماس هل اضطر إلى تسوية مسائل قانونية تتعارض مع عقيدته الكاثوليكية، علماً أن الكنيسة الكاثوليكية تعارض الإجهاض، فأجاب أن ذلك لم يشكّل مشكلة بالنسبة إليه. واستدرك أن بعض القضايا كانت صعبة جداً، خصوصاً في وقت مبكر من حياته المهنية، وتابع: "هذا ليس دور القاضي. أنت تؤدي عملك وتبكي بمفردك".
في عام 1993، أوردت صحيفة "نيويورك تايمز" أن توماس أبلغ كتّابه القانونيين آنذاك، أنه يرغب في العمل بالمحكمة العليا حتى عام 2034. توماس الذي كان عمره 43 عاماً لدى تثبيت تعيينه عضواً في المحكمة، قال لمساعديه: "جعل الليبراليون حياتي بائسة لمدة 43 عاماً. وسأجعل حياتهم بائسة لمدة 43 عاماً".
كان لافتاً أن مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون في ولاية جورجيا، صوّت في فبراير الماضي على إقامة نصب تذكاري لكلارنس توماس، وهو من مواليد جورجيا، بعد نقاش حاد واعتراضات من أعضاء من أصل إفريقي في المجلس، وصف أحدهم القاضي بأنه "منافق وخائن".
كتبت المعلّقة في "نيويورك تايمز"، ماورين دود: "بينما كانت زوجته تساعد ترمب في انقلابه، تزعّم توماس انقلاباً لمتطرفين في المحكمة. انتزعوا السلطة من (رئيس المحكمة) جون روبرتس ويتحدّون إرادة الأغلبية في هذا البلد بطرق مرعبة. المحكمة خارجة عن السيطرة. نشعر بالعجز عن فعل أيّ شيء حيال ذلك". واتهمت توماس بقيادة الأميركيين "إلى ما نحن فيه، مع متطرفين غير خاضعين للمساءلة يفرضون علينا كيف نعيش. وهذا مقزز".
اقرأ أيضاً: