أثار الظهور العلني لعلي كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية السودانية (المرجعية التنظيمية لحزب المؤتمر الوطني المنحل) في الخرطوم، جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية، وطرح تساؤلات عما إذا كان ظهوره في شوارع العاصمة مقدمة لعودة تيار الإسلام السياسي إلى المشهد مرة أخرى.
في المقابل يرى مراقبون أنَّ مسألة عودة الإخوان تم تضخيمها أكثر مما يجب، وأنه ليست هناك علاقة استراتيجية بينهم والجيش، فالأخير يستخدمهم كفزاعة لتسجيل أهداف في مرمى المعارضة.
وعلى الرغم من أن "كرتي" مطلوب في عدة قضايا، أبرزها قضية "انقلاب 1989" التي ما زال يحاكم فيها الرئيس السابق عمر البشير وأعوانه، إلى جانب اتهامات بارتكاب تجاوزات سياسية، فإن أمين الحركة ظل طليقاً رغم صدور أوامر بالقبض عليه.
ووزّع كرتي في نوفمبر 2020 أشرطة كاسيت في الخرطوم بصوته، يحرض فيها جماعته على الخروج إلى الشوارع لاستعادة السيطرة وإرجاع النظام السابق.
وفي فبراير 2021، نشرت وسائل إعلام سودانية، تفاصيل ما وصفته بقيادة "كرتي" لاجتماعات بهدف حشد 10 آلاف جندي من قوة هيئة العمليات والأمن الشعبي (الجهاز الخاص للحركة الإسلامية) للتجمهر أمام مقر القيادة العامة للجيش من أجل تغيير الحكم.
ولم يعلق النائب العام السوداني على سبب عدم اعتقال كرتي، خصوصاً أن النيابة العامة سبق وأصدرت في مارس 2020 منشوراً بالقبض عليه مع 5 آخرين، كانت قد صدرت بحقهم أوامر اعتقال من لجنة التحري والتحقيق في انقلاب 1989.
وكان تقرير بريطاني اعتبر في مايو الماضي أن "المجلس العسكري في السودان يستعين بقادة تيار الإسلام السياسي من جميع الأطياف (...) وليس فقط من حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقًا".
ولفت التقرير إلى إطلاق سراح رئيس حزب "المؤتمر الوطني" بالإنابة إبراهيم غندور وقادة الصف الأول من الحزب الحاكم السابق.
وذكر التقرير أنه "كان من الممكن اعتقال (كرتي) بسهولة سابقاً، لولا صلاته الوثيقة بالقوى الأمنية".
واعتبر محللون أن ظهور كرتي في الآونة الأخيرة وإجراء حوار مع قناة محسوبة على جماعة الإخوان من الخرطوم، بمثابة إعلان خفي عن عودة تيارات الإسلام السياسي إلى المشهد، خصوصاً مع فشل محاولات تشكيل حكومة قادرة على احتواء قوى المعارضة التي تتظاهر أسبوعياً منذ انقلاب أكتوبر 2021، وإعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان إجراءات استثنائية وإبعاد المكون المدني بقيادة عبد الله حمدوك حينها.
"الدولة العميقة"
الصحافي السوداني المقيم في بريطانيا نميري حسين مجاور، يرى ظهور قيادات تيار الإسلام السياسي وتبرئة وإطلاق سراح آخرين، أمراً متوقعاً، لأنَّ "عناصرهم ما تزال تتحكم في مفاصل الدولة العميقة"، على حد تعبيره.
أما الدكتور الرشيد محمد إبراهيم، الخبير في أكاديمية الدراسات الأمنية في الخرطوم، فيقول إن "هناك صلة بين المؤسسة العسكرية وتلك التيارات، ولكنها ليست سيطرة".
ويضيف لـ"الشرق"، أنه "إذا اعتمدنا معيار العلاقة، يمكننا القول إنَّ الأمين العام للحركة الإسلامية (المختفي حالياً) علي كرتي تربطه علاقة ما بالمؤسسة العسكرية السودانية".
ويوضح إبراهيم أن كرتي "لم يعمل ضابطاً في المؤسسة العسكرية، وإنما كلفه التنظيم (الإخوان) بمهمة الإشراف على الضباط الإسلاميين داخل الجيش، وكان ذلك في الثمانينات، قبل استيلاء البشير على السلطة بانقلاب العام 1989".
ويتابع: "انطلاقاً من هذه الخلفية تصبح علاقة كرتي (ممثل تيار الإسلام السياسي) بالجيش مستمرة، خصوصاً أنه كلف أيضاً بالعمل منسقاً لقوات (الدفاع الشعبي) التي كانت تضم مقاتلي الإخوان الذي كانوا يعملون مع الجيش كقوات احتياط".
ويضيف إبراهيم: "من الطبيعي أن يكون لعلي كرتي حضور داخل الجيش، وأن يتحرَّك وسط حقوله المليئة بالألغام كونه يملك مفاتيح قديمة وصلات بضباط قد يكون بعضهم وصل لرتبة عليا (...)، ولكن هذا لا يعني أن يكون نفوذه لا يزال قوياً مثل ما مضى خصوصاً مع مستجدات الثورة السودانية".
ويوضح قائلاً: "كرتي لن يستطيع أن يكون مؤثراً كما كان في السابق، فالظروف اختلفت، وحدثت تغييرات كبيرة في المؤسسة العسكرية بعد الثورة، كما أن هذه المؤسسة تخوض معركة سياسية مع المدنيين تفرض عليها عدم العودة مجدداً لحضن تنظيم الإسلامويين المرفوض من أصدقاء الجيش وحلفائه الإقليميين، ناهيك عن المجتمع الغربي".
"صناعة أسطورة"
الباحث في شؤون تنظيمات تيار الإسلام السياسي في السودان، بابكر فيصل، يصف ظهور قيادات تيارات الإسلام السياسي في الإعلام مؤخراً، وبينهم كرتي، بأنها "محاولات من الإسلامويين لتضليل الشعب وإقناعهم بأنهم ما زالوا يسيطرون على مفاصل القوى في السودان".
ويقول: "الخصائص الأساسية لأيديولوجيا تيارات الإسلام السياسي، تزود من يعتنقها بقناع يحجب عنه رؤية الحقيقة المجردة كما هي، ويخلق له واقعاً بديلاً (خيالياً) يعيش فيه، وذلك عبر إعمال خطاب يشتمل على أدوات عديدة لحجب الحقيقة، وإحلال الصور المرغوب فيها، فالأمر يشبه حياكة أسطورة أو تزييف واقع".
ويرى فيصل أن "ما يتردَّد حالياً من سيطرة حزب المؤتمر الوطني المنحل على الجيش السوداني، وإمساكه بتلابيبه، وأن أمين الحركة الإسلامية ما يزال مسيطراً على القوات المسلحة ما هي إلا محاولات لبث الفتنة بين القوى التي قامت بالثورة. فتيارات الإسلام السياسي هُزمت وتشتت ويصعب عليها توحيد حزبها، ناهيك عن السيطرة على الجيش السوداني".
الجيش والسياسة
وتعتبر علاقة تيارات الإسلام السياسي بالمؤسسة العسكرية جزءاً مما يشار إليه في السياسة السودانية بظاهرة "اختراق القوى السياسية للجيش"، وهي ظاهرة حديثة نسبياً بحسب المتخصصين.
وباستعراض تاريخ العلاقة بين الشعب والجيش منذ عام 1925 -تاريخ تأسيس "قوة دفاع السودان" على يد الحاكم العام البريطاني السير جيوفري آرشر الذي حكم البلاد بين عامي 1924 و1926- تبرز "قوة دفاع السودان" كمؤسسة عسكرية خالصة لا تتدخل في الشأن السياسي لا من قريب ولا بعيد، وتمثلت وظيفتها الأساسية في حماية الدولة من الاعتداء الخارجي، والمحافظة على الحدود البرية والمياه الإقليمية، والمجال الجوي.
الكاتب الدكتور بكري الصائغ يقول لـ"الشرق"، إن "قوات دفاع السودان" كانت تتدخل فقط في حالة فشل أجهزة الأمن المدنية، في السيطرة على الأوضاع الأمنية داخل الدولة.
ويضيف أن "من عاصر زمن (قوة دفاع السودان) يعرف أنها لم تنحز في يوم إلى الأحزاب السياسية التي كانت موجودة في البلاد، وكانت علاقة الشعب مع جيشه أشبه ببريطانيا حالياً، حيث لا يتدخل الجيش هناك في الشأن السياسي، ولا في شؤون الناس".
ويشير الصائغ في حديثه مع "الشرق" إلى أنه منذ الاستقلال عام 1956، تمَّت "سودنة" قوة دفاع السودان، وتبديل الاسم القديم بآخر جديد هو "الجيش السوداني"، ولم يتدخل الجيش منذ "سودنته" وحتى 16 نوفمبر عام 1958 في السياسة، حتى يوم 17 نوفمبر عام 1958 حين استولى على السلطة عبر الانقلاب، الذي قاده إبراهيم عبود.
العسكر والأحزاب
رئيس تحرير صحيفة "إيلاف" الدكتور خالد التيجاني النور، يشكك في الحديث عن اختراق القوى السياسية السودانية للجيش والتحكم في بوصلته وتوجيه مساره.
ويعتبر أن ما يقال عن سيطرة الأمين العام للحركة الإسلامية علي كرتي على الجيش السوداني "ضرباً من الخيال والمبالغة، وأن من يزعم ذلك لم يراع التقلبات و(الانفجارات) الضخمة التي أحدثتها الثورة في بنية كل المؤسسات بالسودان".
ويذكر النور، لـ"الشرق" أنَّ "عبدالله خليل القيادي بحزب الأمة القومي الذي سلم الجيش الحكومة في العام 1958 كان مصيره أن أودع السجن حبيساً بجنوب البلاد، بعد سيطرة الجنرال الفريق إبراهيم عبود على مفاصل الدولة".
ويضيف: "الحزب الشيوعي السوداني بعد حلِّه وطرد نوابه من البرلمان في العام 1965 لجأ إلى التغيير العسكري، وشارك بقوة في انقلاب جعفر النميري عام 1970، ولكن سريعاً ما انهار تحالفه مع النميري وتحولت (ثورة مايو) من ثوار حمراء إلى ثورة أكلت بنيها من الحزب الشيوعي وقتلت حتى سكرتير الحزب وعرابه عبدالخالق محجوب".
ويتابع النور قائلاً: "ظنَّ قادة تيار الإسلام السياسي أنهم الأكثر حنكة واقتداراً دون غيرهم، وعمدوا إلى خطة استراتيجية بدأت في العام 1978 لاختراق المنظومة الأمنية في السودان. وعندما انقلب البشير على الصادق المهدي في عام 1989، اتبع الإسلاميون سياسة التمكين لاستهداف القوات المسلحة التي لم يكتفوا بالنفاذ إلى أقبيتها، بل أنشأوا أجهزة موازية كالدفاع الشعبي، وسيطروا على جهاز الأمن والمخابرات".
ويشير الكاتب السوداني إلى أنه "على الرغم من كل هذه التدابير، فإن العلاقة بين عراب الإخوان حسن الترابي والرئيس السابق عمر البشير، لم تسر على ما يرام، وانتهى شهر العسل في 1999 حين حلّ البشير البرلمان الذي كان يترأسه الترابي، لتتوتر العلاقة بعد ذلك، ويسجن الترابي الذي كان يقول إنَّ الفترة التي أمضاها مسجوناً في عهد البشير، تعد من أطول الفترات التي قضاها محبوساً طيلة نشاطه السياسي في مواجهة الأنظمة الأخرى".
ويقول النور: "صحيح أن أنصار كرتي يرون أنه يتحكّم في المنطقة الفاصلة بين المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية من جهة، ويؤثر تأثيراً واضحاً في اتجاه بوصلة الوطني والحركة في تعاملهما مع المنظومة العسكرية والأمنية التي تتحكّم في مفاصل الدولة ودولاب الحكم بعد سقوط الإنقاذ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ما الجديد الذي أحدثه ظهور كرتي؟".