مع اقتراب موعد حسم معركة زعامة "حزب المحافظين" في بريطانيا مطلع سبتمبر المقبل، تظهر التحديات الاقتصادية كأحد أبرز القضايا الأساسية التي تحدد اتجاهات التصويت بين وزيرة الخارجية ليز تروس ووزير المالية السابق ريشي سوناك.
وبينما يرسم "بنك إنجلترا" (المركزي) "صورة سوداوية" بقوله إن دخل السكان الفعلي سينخفض بنسبة 3.7% خلال العامين الجاري والمقبل، وتوقعه انضمام 900 ألف شخص إلى قوائم البطالة، ووصول نسبة الفائدة إلى 3%، يقدم كلا المرشحين نفسه كمنقذ لملايين السكان.
وتوضح المؤشرات السلبية للاقتصاد الوطني أن تحديات الحكومة المقبلة "كبيرة جداً"، وأن الوعود الكثيرة التي يطلقها سوناك أو تروس، ستبقى سيفاً مسلطاً حتى انتخابات عام 2024، التي ستشهد المواجهة الكبرى بين "حزب المحافظين" الحاكم و"حزب العمال" المعارض.
ميزانية طوارئ
وتنادي وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس بـ"ميزانية طوارئ" تحاصر من خلالها الركود وتمنع غرق البلاد فيه، وتطمح من خلالها إلى زيادة الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة والصحية، كما تسعى إلى دفع الاقتصاد نحو النمو وعدم الاستسلام لحالة الركود التي يحذر منها المركزي البريطاني.
وتقول تروس في مقالة نشرتها بصحيفة "تلجراف"، يوم 6 أغسطس الجاري، إنها ستخفض ضريبة الدخل، وتلغي الزيادة التي أقرها منافسها على التأمين الوطني عندما كان وزيراً للمالية قبل أشهر. هذا بالإضافة إلى تعليق الضريبة على فواتير الطاقة.
وأيّد زعيم "العمال" الأسبق جوردون براون، فكرة تروس الخاصة بالميزانية الطارئة، حتى أنه طالب بالاتفاق عليها مع رئيس الوزراء المستقيل بوريس جونسون وسوناك فوراً، محذراً من أن الانتظار قد يعرض البلاد إلى "انفجار مالي" حين ترتفع فواتير الطاقة مجدداً في أكتوبر المقبل.
وتؤكد تروس على أن الفرص التي فُتحت أمام المملكة المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، "لابد أن تُستثمر"، مشددة على أهمية تجاوز تداعيات جائحة كورونا، والحرب الأوكرانية، وأعباء "الاقتصاد الأرثوذكسي" المتعب على حد وصفها.
كما تعهدت المرشحة التي يمكن أن تصبح المرأة الثالثة التي تقود "المحافظين" منذ تأسيسه، بإعادة النظر في خارطة الإنفاق الحكومي بين مدن الشمال والجنوب، وإعادة النظر أيضاً في مصادر تمويل خزينة الدولة، وخاصة تلك الواردة من الضرائب بكل أشكالها ومستوياتها.
العلاقة مع المركزي
الجزء الأخطر في مقال تروس دار حول العلاقة مع "بنك إنجلترا"، إذ قالت إن التضخم بدأ بأسباب عالمية، لكن تداعياته الداخلية تفاقمت "نتيجة السياسة النقدية التي اتبعها البنك".
وذكرت وزيرة الخارجية أن "تفويض بنك إنجلترا بالتعامل مع السياسة النقدية تجدد آخر مرة في 1997 تحت قيادة الزعيم العمالي جوردون براون في ظروف اقتصادية مختلفة عما يجري اليوم"، مضيفة أنه "لابد من إعادة النظر في محددات هذا التفويض التي مر عليها 25 عاماً، مع الحفاظ على الاستقلالية التامة للبنك".
عثرات محتملة
وفي حديث مع "الشرق"، يقول الباحث الاقتصادي رياض مطر إن ميزانية الطوارئ التي تريدها تروس قد تواجه بعض العثرات على أبواب المركزي، وهو ما دفع تروس إلى إرسال "تهديد مبطن" للبنك عبر إعادة النظر ببعض جوانب تفويضه في ضبط السياسة النقدية للدولة. وهو أمر يمكن أن تقوم به مع وجود أكثرية مطلقة للمحافظين في البرلمان.
ويوضح مطر أن نسبة كبيرة من المعارضة في البرلمان قد تدعم توجه تروس لتخفيف كلفة المعيشة على السكان، ودفع الاقتصاد الوطني نحو النمو. ولكن المشكلة برأيه، أن الخطة ترتبط بالقطاع الخاص من جهة، وبالظروف الدولية والعلاقات الخارجية لبريطانيا من جهة أخرى.
وأضاف مطر أن تروس قد "تجبر" الشركات الكبرى على تقديم الدعم للدولة والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، لكنها "ربما تعجز عن تجاوز الضغوط الدولية على الاقتصاد الوطني. وخاصة حال فشلها في تسوية الخلافات مع الاتحاد الأوروبي، وتعثرها في إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع دول وتكتلات كبيرة مثل الولايات المتحدة والهند وأستراليا".
ويرى مطر أن الإجراءات الاقتصادية التي تخطط لها تروس أو سوناك، قد لا تكون عامل الحسم الوحيد في انتخابات زعامة المحافظين بعد أقل من شهر، ولكنها ستكون معيار الحكم والتقييم على أداء الحزب وحكومته المقبلة خلال الانتخابات البرلمانية عام 2024.
وقال الباحث الاقتصادي إن "ما يجري اليوم من سجالات بين المرشحين لقيادة الحكومة المقبلة، هو في الحقيقة اختبار لمزاج الناخب البريطاني في الاستحقاق الكبير بعد أقل من عامين".
الدعم أو الدين
وتعتمد خطة تروس بشكل عام على زيادة الدين الحكومي من أجل تحريك عجلة الاقتصاد، وتحسين مستوى معيشة البريطانيين.
ويتوقع "المعهد الوطني للاقتصاد والأبحاث الاجتماعية" في تقرير حديث، أن يكون الدين العام وعجز الميزانية أقل كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، مشيراً إلى احتمالات انخفاض العجز إلى حوالي 5% في 2022 - 2023 و1% في 2023 - 2024، ما يعني أن الحكومة لديها مساحة أكبر للاقتراض، للتخفيف من آثار الصدمات التي تعرض لها الاقتصاد الوطني.
واقترح المعهد استخدام جزء من هذا الحيز المالي الإضافي لإعادة توزيع الموارد على الأسر الأكثر ضعفاً مالياً.
3 صدمات
وبحسب المعهد، اجتمعت ثلاث صدمات تسببت في تحويل الدخل الحقيقي للدولة إلى مسار منخفض بشكل دائم.
وبيّن المعهد أن الصدمة الأولى تمثلت في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مما أدى إلى زيادة تكلفة الواردات الأوروبية، وحفزت الأسر على التحول نحو السلع والخدمات المنتجة محلياً الأكثر تكلفة.
وأضاف أن الصدمة الثانية تمثلت في ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، ما عقّد شروط التبادل التجاري للمملكة المتحدة مع الخارج، بالإضافة إلى التشدد المالي للدولة في أعقاب صدمة الجائحة، ما تسبب في تقليل الموارد المتاحة للقطاع الخاص وزيادة أزماته ومشكلاته.
"أحلام غير قابلة للتحقق"
على الضفة المقابلة، يرفض منافس تروس اللجوء إلى زيادة الدين العام من أجل مواجهة الركود وانخفاض القيمة الحقيقية للأجور، إذ يعتقد سوناك أن حزم الدعم المالي للأسر البريطانية، هي الطريقة المثلى لتجاوز الأزمة الراهنة في البلاد.
وأرجع السبب إلى أنها "تمثل إعانة مباشرة وسريعة لاحتواء التضخم وارتفاع كلفة الطاقة، وخاصة عندما تزيد فواتير الكهرباء والغاز على السكان في شهر أكتوبر المقبل".
ويصف سوناك خطته بـ"الرهان على الواقع، وليس على الأحلام غير القابلة للتحقق"، في إشارة إلى وعود منافسته.
من جانبه، رأى الدكتور طارق الرفاعي، الرئيس التنفيذي لمركز "كوروم" للدراسات، في تصريحات لـ"الشرق" أن سوناك يحاول استنساخ التجربة الحكومية في دعم الاقتصاد خلال فترة الجائحة.
وأضاف الرفاعي أن "الظروف الراهنة مختلفة عن أزمة وباء كورونا. ولا يبدو أن تقديم الدعم المباشر للأفراد والشركات هو الحل الأمثل لتجنب الركود التضخمي الذي بدأ يتسلل إلى الاقتصاد البريطاني"، منبهاً إلى أن "البنك المركزي البريطاني لا يبدي اهتماماً بدعم الأسواق حالياً، وإنما يركز جهوده على معالجة التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة أكثر فأكثر".
وذكر الرفاعي أن "الدعم المالي المباشر للأفراد والشركات عادةً يرفع معدلات التضخم"، قائلاً إنه "حتى إذا لم يحدث ذلك بسبب ابتلاع تكلفة المعيشة لأي أموال دعم تقدمها أو ستقدمها الحكومة، سيكون الأمر بمثابة تأجيل للمشكلة وليس محاولة حلها".
"إجراءات جريئة"
وقال الرئيس التنفيذي لمركز "كوروم" إن تجاوز الأزمة الاقتصادية في بريطانيا "يحتاج إلى جملة من الإجراءات الجريئة"، مشدداً على أن الأزمة "لا ترتبط فقط بالظروف الداخلية".
وأوضح أن "اضطرابات الاقتصاد العالمي في قطاعات الطاقة، وسلاسل التوريد، وارتفاع الأسعار، ومعدلات التضخم، تنعكس كلها على اقتصاد بريطانيا".
وأضاف الرفاعي أن الحكومة المقبلة تحتاج لمعالجة "العديد من المشكلات التي شابت علاقاتها مع العالم"، وخاصة الاتحاد الأوروبي بعد "بريكست".
ويتوقع المعهد الوطني أن يدخل الاقتصاد البريطاني حالة ركود خلال الربع الثالث من عام 2022، على أن يستمر حتى الربع الأول من 2023. كما رجح أيضاً تجاوز نسبة البطالة 5% خلال 12 شهراً، ووصول تضخم مؤشر أسعار المستهلكين إلى ذروته قرب 11% في الربع الرابع من العام الجاري، ليعود إلى حوالي 3% بعد عام.