أظهر استطلاع حديث أنَّ الصين تحظى بشعبية أكبر من الولايات المتحدة وسط شعوب الدول العربية، مرجحاً استمرار التنافس بين بكين وواشنطن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خلال السنوات المقبلة.
يأتي ذلك، في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة، المنهكة بعد عقود من الحرب والاضطرابات في الشرق الأوسط إلى الحد من مشاركتها بالمنطقة، بينما تعمل الصين على تعميق علاقاتها مع كل من أصدقاء واشنطن وأعدائها في جميع أنحاء المنطقة.
وخلص الاستطلاع، الذي أنجزته شبكة "الباروميتر العربي" البحثية المستقلة، إلى أنَّ نسبة الآراء الإيجابية تجاه الصين أعلى من الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لكنه أشار إلى تأثر الصورة العامة للصين بضعف سمعة الشركات الصينية التي تنجز مشاريع في المنطقة.
وشمل الاستطلاع 23 ألف شخص في كل من العراق، الأردن، لبنان، ليبيا، موريتانيا، المغرب، فلسطين، تونس والسودان، فيما قال "الباروميتر العربي" إن هامش الخطأ في النتائج يبلغ نقطتين مئويتين في كل دولة.
وأرجعت الدراسة "التراجع النسبي" لشعبية الولايات المتحدة إلى "قلق" بشأن القوة الاقتصادية الأميركية ورفض بعض المبادرات السياسية لواشنطن في المنطقة.
في المقابل، أوضحت الدراسة أن من ضمن أسباب شعبية الصين كونها قوة "غير استعمارية" فضلاً عن عدم وجود تدخلات عسكرية مباشرة لها في المنطقة.
بكين أعلى تقييماً
وأظهرت النتائج أنَّ المغرب هو البلد الوحيد الذي يفضل فيه المواطنون الولايات المتحدة على الصين بنسبة 69%، وذلك بفارق بسيط، إذ عبر 64% من المستجوبين عن آراء إيجابية تجاه الصين.
وبينما حصل البلدان على نسبة التأييد ذاتها 51% في الأردن، تفوقت الصين بفارق بسيط في لبنان، حيث بلغت شعبتها 51% مقارنة بـ42% لصالح الولايات المتحدة، وكذلك في السودان بنسبة 60% مقابل 57% لصالح الولايات المتحدة.
في المقابل، حققت الصين مستويات شعبية أعلى بكثير من الولايات المتحدة في تونس 50% مقابل 33%، وفي ليبيا 49% مقابل 37%، وفي العراق بـ 54% مقابل 35%، وكذلك في موريتانيا بـ 63% مقابل 50%.
أما في فلسطين، فحققت الولايات المتحدة أدنى معدل تأييد بنسبة 15%، مقارنة مع 34% لصالح الصين، حسبما أظهرت النتائج.
ورجحت الدراسة تراجع آراء المواطنين تجاه الصين خلال السنوات العشر المقبلة، مشيرةً إلى أن الشباب بين 18 و29 عاماً أقل تقبلاً للصين من البالغين من العمر 30 عاماً فأكثر وذلك في معظم الدول، باستثناء موريتانيا وفلسطين، حيث يفضل الشباب الصين أكثر من الفئات العمرية الأكبر.
التوسع الاقتصادي
اقتصادياً، وعلى الرغم من أنَّ تجارة الصين مع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تفوق مثيلتها الأميركية، إلا أنَّ المواطنين عبر المنطقة لا زالوا أقل إقبالاً على اعتبار التوسع الاقتصادي الصيني تهديداً لدولهم، مقارنة بالولايات المتحدة.
وبينما رأى الثلث أو أقل في كل الدول المشمولة بالاستطلاع أن القوة الاقتصادية الصينية تمثل تهديداً خطراً، بما في ذلك 21% في المغرب، و20% فقط في لبنان، ذهب الثلث على الأقل إلى أن القوة الاقتصادية الأميركية تمثل تهديداً خطراً بما في ذلك أكثر من النصف في العراق وفلسطين (53%).
ووفقاً للاستطلاع، يلاحظ أنه لا توجد في أي دولة مشمولة بالاستطلاع أراء أكثر تعتبر الصين تهديداً اقتصادياً أكبر من الولايات المتحدة.
ومع تشابه مواقف المستطلعة آراؤهم في الدول العربية تجاه المساعدات الصينية والأميركية إذ اعتبروا جميعاً أن الهدف منها هو "كسب النفوذ"، إلا أن مواطني المنطقة كانوا أقل اشتباهاً وريبة إلى حد ما في المساعدات الصينية مقارنة بالأميركية.
عوامل التراجع الأميركي
وفسَّر خبراء تحدثت إليهم "الشرق" هذا التراجع في شعبية الولايات المتحدة بتأثر صورتها بشكل عام لدى الرأي العام العربي نتيجة لعدد من العوامل.
وقال الخبير في العلاقات الدولية والشؤون الأميركية في "مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية" الدكتور أحمد سيد أحمد لـ"الشرق"، إنَّ أسباب التراجع النسبي في شعبية الولايات المتحدة لصالح الصين في منطقة الشرق الأوسط تعود إلى عوامل تتعلق بأميركا ذاتها أكثر من الصين.
يبرز من بين هذه العوامل، بحسب سيد أحمد، "الازدواجية الغربية والأميركية في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية".
وقال سيد أحمد إنه "في الوقت الذي انتفضت فيه الولايات المتحدة، وجرَّت معها أوروبا لدعم أوكرانيا في مواجهة العملية العسكرية الروسية، ومارست كل أشكال الحصار على روسيا من عقوبات اقتصادية وغيرها، إلا أنها، خصوصاً في عهد الرئيس جو بايدن، لم تتخذ مواقف في حالات مشابهة".
وأشار في هذا الصدد إلى أنه عندما "قامت إيران ووكلاؤها في المنطقة، خاصة ميليشيا الحوثي في اليمن، بمهاجمة السعودية، واستهداف منشآت النفط، ومنشآت الرعاية المدنية، وأيضاً استهداف الإمارات، ومطار أبوظبي، لم يحرك الغرب ولا الولايات المتحدة ساكناً، كما أن الأخيرة لم تقم لا بإدانة إيران والإرهاب الإيراني أو إرهاب الميليشيا الحوثية"، على حد تعبيره.
فلسطين واللاجئين
واعتبر سيد أحمد أن هناك ازدواجية أخرى مهمة كشفت الولايات المتحدة، "ففي الوقت الذي دعمت فيه أوكرانيا، فإنها وقفت صامتة أمام العدوان الإسرائيلي المتكرر على الفلسطينيين في قطاع غزة، والضفة الغربية، وتوسيع المستوطنات، وتهويد القدس، واقتحام المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية".
وأشار إلى أن أميركا ومعها الغرب "دائماً ما يتخذون مواقف مؤيدة لإسرائيل على حساب الفلسطينين، ودائماً ما يقدمون التبريرات بحجة أنَّ إسرائيل تدافع عن نفسها، بينما الحقيقة أنَّ هناك عدوان على الشعب الفلسطيني".
وبحسب سيد أحمد، مثَّل الموقف الأميركي والغربي من اللاجئين الأوكرانيين تناقضاً آخر، فعندما يأتي المهاجرون من الشرق الأوسط ومن دول العالمين العربي والإسلامي الذين لجأوا أصلاً بسبب الحروب الأميركية والتدخلات الغربية في المنطقة، نجد الغرب يضع سداً أمامهم ويعتبرهم مذنبين ومجرمين وليسوا ضحايا، على حد تعبيره.
وأضاف سيد أحمد: "في المقابل، تعامل الغرب وأميركا بشكل مختلف مع اللاجئين والمهاجرين من أوكرانيا باعتبارهم بيض، وضمن المنظومة الغربية، وبالتالي هنا برزت الازدواجية الغربية"، على حد وصفه.
دعم القضايا العربية
وتمثل المواقف المتباينة للبلدين تجاه العديد من قضايا الشرق الأوسط عاملاً آخر في تعزيز شعبية الصين في المنطقة، بحسب خبراء.
وقال عامر تمام الباحث في الشأن الصيني، إنَّ موقف بكين في كافة قضايا المنطقة "داعم للمواقف العربية، فالصين منذ البداية كانت ضمن معسكر عدم الانحياز، ومنذ البداية كانت داعمة للقضية الفلسطينية بشكل كبير للغاية، وحتى الآن هذا الدعم لا يزال موجوداً".
بدوره، اعتبر سيد أحمد أنَّ الصين دائماً ما تصوت في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح القرارات المتعلقة ببعض القضايا العربية، والدعم العربي، وخاصة ما يتعلق برفض الممارسات الإسرائيلية، على حد وصفه.
سيادة الدول
كما تحضر قضية سيادة الدول في صلب المواقف في المنطقة تجاه الصين والولايات المتحدة خصوصاً في ظل الاتهامات المتكررة الأخيرة بعدم احترام سيادة الدول.
واعتبر عامر تمام أن الصين تدعم مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو مايكسبها شعبية لدى الحكومات ولدى الشعوب أيضاً، مشيراً إلى أنها تقر العمل وفقا لمبدأ "النفع المشترك".
وأكد سيد أحمد أنَّ "الصين لا تتدخل في الشؤون العربية، وتحترم مبدأ السيادة، ولا تتورط في صراعات المنطقة كما تورطت دول كبرى مثل أميركا وروسيا، وإقليمية مثل إيران وتركيا".
وأضاف: "أيضاً الصين كانت متوافقة مع الدول العربية فيما يتعلق برفض استخدام حقوق الإنسان كأداة في السياسة الخارجية للدول"، لافتاً إلى أنه "فيما يتعلق بتفتيت الدول، خلافاً للولايات المتحدة، دعمت الصين مفهوم الدولة الوطنية العربية، والحلول السلمية والسياسية للنزاعات، والصراعات الأهلية في منطقة الشرق الأوسط".
مخاطر الحياد
لكن على الرغم من هذه المكاسب الصينية على مستوى الرأي العام العربي، إلا أنَّ إصرار بكين على التزام الحياد، وتساهلها مع مساعي إيران لامتلاك السلاح النووي، وبرنامجها الصاروخي، وما تمثله من تهديد إقليمي، قد يؤثر بحسب، سيد أحمد، على صورتها في الشارع العربي.
وقال سيد أحمد إنه "على الصين أن تكون أكثر وضوحاً في سياستها وأكثر انحيازاً لمواجهة التهديدات المختلفة، خاصة التهديدات الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، لأن الموقف الصيني مهم، وعدم اتخاذ موقف ربما يساهم في تشجيع إيران على الاستمرار في سياسة الحرب بالوكالة، واستخدام أذرعها العسكرية الإرهابية في المنطقة".
وأضاف: "بالتالي ربما يمثل هذا ثغرة في السياسة الخارجية الصينية، لكن الصين بشكل عام تسعى إلى إقامة علاقات متوازنة، وربما أسهم هذا في تزايد في شعبيتها، لكن في نهاية المطاف مثل هذه الثغرات في التعامل مع بعض التهديدات، من قبيل التهديد الإيراني، قد تفضي إلى نتائج عكسية فيما يتعلق بشعبية الصين، أو تؤثر على هذه الشعبية".
"علاقة ندية ومنفعة مشتركة"
ورأى عامر تمام أن الصين لن تكون بديلاً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكنه قال إن دورها "سيكون فاعل ومواز للدور الأميركي"، مشيراً إلى أن "بكين لا تريد القيام بدور رجل الشرطة"، إذ أنه "ليس لديها رغبة أو نية للتواجد عسكرياُ أو الهيمنة الأمنية في المنطقة، كما هو حال الولايات المتحدة".
وتابع الباحث السياسي أن الصين "لديها رغبة في التعاون"، وأنها "ترى دول الشرق الأوسط قادرة على إدارة شؤون المنطقة وليس دولاً خارجية"، مبيّناً أن الصين "لديها رغبة في علاقة ندية ومنفعة مشتركة".
وعبر عامر تمام في تصريحاته لـ"الشرق" عن اعتقاده بأن "الدور الأميركي سيظل موجوداً، لكن في وجود دور صيني وازن وفاعل في المنطقة".
الرد الصيني
ورداً على الاستطلاع، قال المتحدث باسم الخارجية الصينية وانج وين بين، إنه لم يفاجأ بهذا الاستطلاع الذي أظهر أنَّ الصين تحظى بشعبية أكبر من الولايات المتحدة في الدول العربية.
وحسب المتحدث باسم الخارجية الصينية، فإنَّ بكين تتبع دائماً مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتلتزم بمبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المتبادلة، مضيفا أن الصين لعبت دائماً دوراً بناءً في العالم العربي.
وصرح وانج بأن الصين تدعم الدول العربية والدول الأخرى في الشرق الأوسط في معالجة قضايا الأمن الإقليمي من خلال التضامن والتنسيق، وتدعم شعوب المنطقة في استكشاف مسار التنمية الخاص بهم بشكل مستقل.
وأوضح الدبلوماسي الصيني أن بلاده لا تسعى أبداً لتحقيق مصالح جيوسياسية، وليس لديها أي نية لملء ما يسمى بـ"فراغ السلطة".
وقال وانج إن الصين مستعدة للعمل مع الدول العربية لدعم التنمية الوطنية وتنشيط بعضهما البعض، وحماية السلام والاستقرار في الشرق الأوسط بشكل مشترك، وتعزيز التعاون العملي بشكل مطرد في مختلف المجالات.
وأشار إلى أن هذا يمكن أن يعود بالفائدة على الشعبين الصيني والعربي مع الدفاع عن التعددية الحقيقية والعدالة والإنصاف الدوليين.
تناول أميركي
وحظي الاستطلاع باهتمام في وسائل الإعلام الأميركية التي تناولته باعتباره دليلاً آخر على مساعي بكين لإيجاد أرض خصبة في منطقة تركت فيها واشنطن إرثاً معقداً.
وأشارت مجلة "نيوزويك" الأميركية، التي كانت أول وسيلة إعلامية تكشف نتائج الاستطلاع، إلى أنَّ هذا المسح للرأي العام العربي يظهر تقدم الصين على الولايات المتحدة من حيث الشعبية بين شعوب سبع دول عربية على الأقل.
ونقلت عن مايكل روبينز، المدير والباحث الرئيسي المشارك في "الباروميتر العربي"، قوله إن "الصين عادت إلى الظهور مؤخراً كقوة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا".
وأضاف: "دخلت الصين بعدد من المزايا، مع القليل من التشابكات الإقليمية، والرغبة المعلنة في البقاء بعيداً عن السياسة في المنطقة. ومن خلال مبادرة الحزام والطريق، زادت الصين مستويات مشاركتها الاقتصادية في جميع أنحاء المنطقة".
لكن رويبنز اعتبر أنَّ "الصين ليست طرفا محايداً حقاً، وأنَّ شروط مشاركتها الاقتصادية هي تلك التي تميل إلى تفضيل بكين بشدة على السكان المحليين، كما أدرك الكثيرون مؤخراً، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في سريلانكا وباكستان" على حد وصفه.
وأضاف روبينز: "يبدو أنهم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدأوا في التوصل أيضاً إلى النتيجة نفسها، وهو أنَّ المشاركة الاقتصادية ليست هدف الصين الوحيد"، وذلك بحسب ما نقلته المجلة الأميركية.
اقرأ أيضاً: