بالتفاصيل.. هكذا دفعت ضغوط واشنطن شركة "هواوي" خارج أوروبا

هاتف ذكي يحمل شعاري هواوي وشبكة الجيل الخامس - REUTERS
هاتف ذكي يحمل شعاري هواوي وشبكة الجيل الخامس - REUTERS
دبي-الشرق

ذكرت مجلة "بوليتيكو" الأميركية، أن شركة الاتصالات الصينية العملاقة "هواوي" تعمل على التخلص من جماعات الضغط الغربية الخاصة بها، فضلاً عن تقليص عملياتها الأوروبية، لتعلق طموحاتها في الريادة العالمية. 

وقالت المجلة نقلاً عن مقابلات أجريت مع أكثر من 20 موظفاً حالياً وسابقاً ومستشارين استراتيجيين للشركة قولهم، إن "أسباب القيام بذلك لا علاقة له بالإمكانات التجارية للشركة، إذ لا تزال هواوي قادرة على تقديم التكنولوجيا المتطورة بتكاليف أقل من منافسيها، بل الأمر كله يتعلق بالأمور السياسية". 

وقال أحد مسؤولي الشركة، الذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، إن "الشركة لم تعد قادرة على مجابهة رياح العولمة، وتحاول إنقاذ نفسها في السوق المحلية". 

من جانبه، لخص مؤسس "هواوي" رين تشنجفي، مأزق الشركة في كلمة ألقاها أمام المديرين التنفيذيين في مقرها في شنتشن يوليو الماضي، وعرض التحديات الثلاثية التي واجهتها "هواوي" على مدى السنوات الثلاث الماضية، مشيراً إلى أنها "العداء من واشنطن والاضطرابات الناجمة عن جائحة فيروس كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا"، الذي قلب سلاسل التوريد العالمية وزاد من المخاوف الأوروبية بشأن الاعتماد المفرط على دول مثل الصين. 

وقال رين في الكلمة غير المعلنة والتي اطلعت "بوليتيكو" على نصها إن "البيئة التي واجهناها في عام 2019 كانت مختلفة عن تلك التي نواجهها اليوم (...) لا تفترضوا أنه سيكون لدينا مستقبل أكثر إشراقاً". 

وأضاف: "كان لدينا في السابق مثل أعلى للعولمة بالسعي جاهدين لخدمة البشرية جمعاء، لكن ما هو مثلنا الأعلى اليوم؟ إنه النجاة!". 

وتحت ضغط الولايات المتحدة بشكل متزايد في قارة كانت تعتبرها "هواوي" ذات يوم سوقها الخارجية الأكثر استراتيجية، بدأت الشركة ترتد نحو السوق الصينية، وتركز اهتمامها الأوروبي المتبقي على دول قليلة مثل ألمانيا وإسبانيا والمجر، التي لا تزال على استعداد لاستضافة شركة ينظر إليها على نطاق واسع في الغرب على أنها "خطر أمني". 

مواجهة واشنطن وأوروبا 

وبينما تدخل الشركة في حالة سبات في الغرب، فإنها تهمش أو تطرد كبار المديرين الغربيين الذين عينتهم قبل بضع سنوات فقط لمواجهة الهجوم الأميركي على أعمالها. 

وتم دمج مكتب "هواوي" في بروكسل، الذي كان في يوم من الأيام مركزاً رئيسياً للشركة، للضغط ضد القيود الأوروبية المفروضة على مجموعتها، بالكامل في الإدارة الأوروبية، التي يقع مقرها الآن في دوسلدورف بألمانيا. 

وفقد المكتب هذا الصيف رئيس قسم الاتصالات، فيل هيرد، وهو صحافي سابق في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" انضم إلى الشركة في أكتوبر 2019، في بداية ردها على الضغوط السياسية الأوروبية.  

كما فقد المكتب أخيراً ما لا يقل عن 3 موظفين رئيسيين آخرين يتعاملون مع جماعات الضغط والسياسات. ويتولى جين يونج، الممثل الرئيسي لمؤسسات بروكسل، الآن المسؤولية عن الشؤون الحكومية في جميع أنحاء أوروبا الغربية ويقضي معظم وقته في مكتب دوسلدورف. 

وفي لندن، ترك بول هاريسون، مدير الاتصالات في المملكة المتحدة في الشركة منصبه في أكتوبر الماضي، بينما غادر مسؤولون آخرون في الوقت ذاته تقريباً.  

وفي باريس، ترك مدير التسويق والاتصالات في الشركة ستيفان كورتيلين منصبه في سبتمبر، وفقاً لما ذكرته مجلة "تشالنجز" المحلية. 

وقبل ذلك، فقد مكتب باريس رئيس الشؤون الحكومية والأمنية فنسنت دي كراينكور، وهو مسؤول فرنسي مخضرم في مجال الأمن السيبراني يتمتع بخبرة حكومية واسعة انضم إلى "هواوي" في عام 2020، كما تركت الممثلة الرئيسية لمكتب باريس ليندا هان منصبها قبل الصيف. 

وفي وارسو، ترك مدير العلاقات العامة المحلي للشركة سزيمون سولينكا، منصبة في سبتمبر الماضي، وقال في منشور عبر "لينكد إن" أعلن فيه عن رحيله : "الأزمات التي تعاملت معها يومياً في السنوات الأخيرة كانت هائلة". 

عودة منج وانتشو 

في المقابل، وصف مسؤولو "هواوي"، الذين تحدثوا في مقابلات مصرح بها، عمليات المغادرة باعتبارها "دوران منتظم للموظفين"، لكن آخرين في الشركة اعترفوا سراً بأن عمليات المغادرة "تعكس تحولاً جذرياً" بدأ في سبتمبر 2021. 

بدأ ذلك، عندما عادت منج وانتشو، المديرة المالية لشركة "هواوي" وابنة رين، إلى مقر الشركة في شنتشن، بعدما أمضت ما يقرب من 3 سنوات في كندا، حيث كانت تواجه إمكانية التسليم إلى الولايات المتحدة بتهمة "التآمر لارتكاب الاحتيال المصرفي". 

وقال أحد المسؤولين إن "اللحظة التي نزلت فيها منج من الطائرة كانت اللحظة التي انتهت فيها هواوي العالمية". 

وباعتبارها ابنة المؤسس والوريث المفترض لقيادة الشركة، لعبت منج دوراً في معركة العلاقات القانونية والعامة بين "هواوي" وواشنطن. ومنذ عودتها من كندا، وصلت إلى أعلى المناصب كنائبة لرئيس مجلس الإدارة في مقر الشركة وأثارت تعديلاً في الشركات في قمة التسلسل الهرمي للموظفين. 

وتتمثل خطط الشركة، التي لم تم الإعلان عنها سابقاً، في دمج القارة بأكملها في منطقة عمليات واحدة فقط، مقرها دوسلدورف. 

وتُقسم "هواوي" حالياً القارة إلى سوقين أحدهما أوروبا الغربية، التي تدار من دوسلدورف، والأخرى أوروبا الشرقية ودول الشمال الأوروبي، مع وجود مسؤول تنفيذي كبير مقره في وارسو. 

وقال الناطق باسم عمليات "هواوي" في أوروبا، إن إعادة الهيكلة "ستساعدنا على تحقيق المزيد من أوجه التآزر داخل العملية التجارية الأوروبية بأكملها. سيجلب المزيد من القيمة بشكل مباشر لعملائنا هنا في أوروبا". 

وعلى نطاق واسع، ستظل مستويات التوظيف في الشركة، التي يبلغ عددها حاليا نحو 12 ألف شخص، "مستقرة"، بحسب المتحدث. 

تأثير ترمب 

ويعد التراجع الاستراتيجي لشركة "هواوي" ملحوظاً بالنسبة لشركة كانت حتى وقت قريب تضخ ملايين من اليورو في جماعات الضغط وحملات العلاقات العامة في محاولة لتوسيع موطئ قدمها الأوروبي والحفاظ عليه. 

وفي العقد الماضي، اعتبر الكثيرون في أوروبا "هواوي" وجهاً ودوداً بين شركات التكنولوجيا ومفيدة لمصالح القارة، لأنها زادت من المنافسة وخفضت السعر على الجيل القادم من شبكات الاتصالات. 

لكن الانتقادات اللاذعة التي واجهتها الشركة في وقت لاحق، أصبحت جزءاً من موجة رياح سياسية معاكسة من واشنطن بسبب مخاوف من أن البنية التحتية للاتصالات التي بنتها الصين "تشكل خطراً كبيراً على الأمن والتجسس". 

وبدأت تلك الرياح المعاكسة تهب في ظل إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، لكنها وصلت إلى ذروتها بعد انتخاب الرئيس السابق دونالد ترمب.

وبحلول عام 2019، كانت الشركة تخضع لعقوبات أميركية، وكانت ابنة رين منج، مؤسس الشركة، في كندا تنتظر طلب تسليم أميركي. 

عروض "هواوي" 

وللتغلب على العاصفة الجيوسياسية، عرضت الشركة رواتب من ستة أرقام لكبار المشغلين في جميع أنحاء العالم الغربي، وعلمت "بوليتيكو" من العديد ممن تلقوا مثل هذه العروض، أنها "جمعت فريقاً رفيع المستوى من الصحافيين والسياسيين الغربيين السابقين الذين تربطهم خطوط مباشرة بمواقع السلطة مثل الإليزيه وويستمنستر". 

وذكرت المجلة أن هذه المناورة "نجحت" في البداية على ما يبدو، إذ قال ثورستن بينر، مدير معهد السياسة العامة العالمية في برلين: "كانت القضية التي أثارها ترمب ذات نتائج عكسية أكثر تقريباً، إذ تلقت هواوي دعماً من مشغلي الاتصالات الكبار، الذين رأوا قيمة في المعدات الرخيصة جنباً إلى جنب مع خدمة العملاء سريعة الاستجابة". 

وبحلول بداية عام 2020، بدا أن "هواوي" تجاوزت الدعوات الأميركية لحظر شامل. وفي 28 يناير، أعطى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، بوريس جونسون، الضوء الأخضر للشركة لبناء جزء من البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس في البلاد. 

وبعد يوم واحد فقط، قدم الاتحاد الأوروبي خطة للتحول بعيداً عن الاعتماد المفرط على البائعين الصينيين، لكنه ترك الباب مفتوحاً لشركة "هواوي" للضغط على الحكومات الوطنية للحفاظ على وصول تقنيتها إلى الأسواق. 

وبعدما بدأت جائحة فيروس كورونا في ووهان الصينية، كثف ترمب اتهاماته المناهضة للصين في مايو 2020 بفرض عقوبات جديدة على شركة "هواوي"، التي قطعت بشكل أساسي إمداداتها من أشباه الموصلات. 

وبحلول يوليو، عكس جونسون مساره تماماً وأعلن أنه سيتعين تجريد جميع معدات "هواوي" من شبكات الجيل الخامس البريطانية، حتى مع تقدير الحكومة أن هذه الخطوة ستؤخر نشر التكنولوجيا وتضيف نصف مليار جنيه إسترليني في التكاليف. 

وخلال عامي 2020 و2021، قامت الحكومات الأوروبية، بما في ذلك فرنسا والسويد ورومانيا ودول البلطيق وبلجيكا والدنمارك، إما بحظر معدات "هواوي" في الأجزاء الرئيسية من شبكة الجيل الخامس في البلاد أو طلبت من مشغليها التخلص من مجموعتها من المعدات على المدى المتوسط. 

وفي الوقت ذاته، تعرضت أعمال الهواتف الذكية الخاصة بالشركة التي كانت في طريقها لمنافسة "أبل" و"سامسونج" في أوروبا، للسحق بسبب العقوبات الأميركية التي قطعت أجهزتها عن نظام "أندرويد"، وهو نظام التشغيل المملوك لشركة "جوجل". 

وفي بداية عام 2021، كانت جماعات الضغط في بروكسل التابعة لشركة "هواوي"، لا تزال متفائلة بأن تعطش أوروبا لتركيب شبكات رخيصة وسريعة من الجيل الخامس، سيتغلب على المخاوف الأمنية، حتى أنهم عقدوا اجتماعات في البرلمان الأوروبي لعرض قضيتهم. 

وفي عهد الرئيس جو بايدن، ازداد الضغط على "هواوي"، واكتسبت ضغوطه تأييداً من الحلفاء، وأصدرت المفوضية الأوروبية في أكتوبر، تحذيراً جديداً من استخدام تقنية "هواوي" لدعم شبكات الجيل الخامس، وأعادت حكومة المملكة المتحدة التأكيد على مطلبها بتجريدها من البنية التحتية للاتصالات البريطانية. 

وأظهر آخر تحديث (الربع الثاني من عام 2022) أن الحصة السوقية لشركة "إريكسون" بلغت 41%، مقابل 28% لـ "هواوي"، و27% لـ"نوكيا" الفنلندية، ويشمل ذلك المبيعات الجديدة للمحطات الأساسية والهوائيات لشبكات الجيل الثالث والرابع والخامس. 

تحولات جيوسياسية  

وقال محللون في الصناعة، إن الشركة لا تزال تتمتع بحصة قوية في بعض الأسواق الوطنية الكبرى، بينها ألمانيا وإسبانيا. 

وأظهرت دراسة أجرتها شركة "ستراند كونسلت" في عام 2020، مدى عمق الشركة الصينية في الأسواق الأوروبية. ففي 15 من أصل 31 دولة درسها، كان أكثر من نصف المعدات اللاسلكية لشبكة الجيل الرابع قد جاءت من البائعين الصينيين، ولكن في العديد من هذه الأسواق، فرضت السلطات تدابير تجبر المشغلين على التخلص التدريجي أو على الأقل الحد بشكل كبير من "البائعين ذوي المخاطر العالية".

وبدأت التحولات تأخذ مجراها بالفعل، ففي السباق المبكر لتنفيذ شبكات الجيل الخامس، تفوقت "هواوي" على منافسيها في أوروبا. ومع ذلك، اعتباراً من أوائل العام الماضي، في وقت كان فيه المسؤولون الأوروبيون يغيرون اتجاههم بشأن أمن تلك الشبكات، تفوقت "إريكسون" السويدية على "هواوي" في حصة السوق من المبيعات الأوروبية الجديدة لشبكات الوصول اللاسلكي.  

ولفت المحللون إلى أن تراجع "هواوي" في السوق الأوروبية، قد يضر بالشركة في البلدان التي لا يزال لها تعامل مع شركاتها، ولاسيما ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. 

فأكبر المشغلين في أوروبا، مثل "دويتشه تليكوم" و"فودافون"، لديهم أيضاً عقوداً سارية مع "هواوي"، ما يعني أن الشركة الصينية على الأقل لا تزال توفر الصيانة وتشغيل الشبكات. 

لكن في ألمانيا على الأقل، اتخذت حكومة المستشار أولاف شولتز الجديدة موقفاً أكثر انتقاداً بشأن التكنولوجيا الصينية، إذ منع وزير الاقتصاد روبرت هابيك، الشهر الجاري، المستثمرين الصينيين رسمياً من شراء مصنع رقائق ألماني بسبب تهديدات أمنية محتملة. 

وأشارت المجلة إلى أن الشركة تخلق علاقة طبيعية مع الحكومات الأخرى التي ترى نفسها في مواجهة القوى الليبرالية العظمى.  

وأوضحت أنه بينما تبحث "هواوي" عن أصدقاء في القارة، تظل المجر، التي تتعارض بشكل متزايد مع بقية دول الاتحاد الأوروبي بشأن كيفية التعامل مع الصين وروسيا، حليفاً صريحاً، وتميل الشركة إلى هذه العلاقة. 

اقرأ أيضاً:

تصنيفات