"هوس المواجهة والتنافس".. محطات بمسار انهيار اتصالات الصين وأميركا

رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة السابق الجنرال جوزيف دانفورد، يصافح الرئيس السابق للأركان العامة للجيش الصيني الجنرال فانج فنجوي بعد توقيع اتفاقية في بكين. 15 أغسطس 2017 - AP
رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة السابق الجنرال جوزيف دانفورد، يصافح الرئيس السابق للأركان العامة للجيش الصيني الجنرال فانج فنجوي بعد توقيع اتفاقية في بكين. 15 أغسطس 2017 - AP
دبي -وليد مداور

قبل عام من الآن، عقد وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن اجتماعاً ثنائياً مع وزير الدفاع الصيني آنذاك وي فنجي، على هامش قمة دفاعية في سنغافورة، وُصف بأنه "تاريخي"، وسط أزمة سياسية بين واشنطن وبكين، وحرب مستعرة في شرق أوروبا.

وأثار هذا الاجتماع أمالاً بالإبقاء على حوار مستقر بين القوتين العالميتين الأكبر في الإنفاق العسكري، ولكن هذه الآمال سرعان ما تلاشت بعد أقل من عام، مع انقطاع الاتصالات بين وزارتي دفاع البلدين.

وأظهر الحادث الذي وقع فوق بحر الصين الجنوبي بين طائرة مقاتلة صينية وطائرة استطلاع عسكرية أميركية، الانعكاسات السلبية لانقطاع الاتصالات العسكرية.

وانقطعت الاتصالات بين كبار مسؤولي الدفاع في البلدين منذ نوفمبر الماضي، بسبب توترات متصاعدة بين البلدين، بشأن قضايا مثل تايوان والمنطاد الصيني الذي أسقطته الولايات المتحدة فوق أراضيها في فبراير الماضي.

وفي تعليق على حادثة بحر الصين الجنوبي، قال منسق مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، الأربعاء، إن هذه الحادثة تؤكد ضرورة الإبقاء على الاتصالات مفتوحة بين الولايات المتحدة والصين.

ووصلت العلاقات بين الجيشين الأميركي والصيني إلى أدنى مستوى بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك نانسي بيلوسي، إلى تايوان في أغسطس 2022، لتعلن بكين تعليق ثلاث قنوات اتصال مع واشنطن.

وخلال اجتماع بين أوستن ونظيره الصيني في كمبوديا على هامش قمة "آسيان+"، ذكرت تقارير بأنهما توصلا إلى اتفاق بإعادة تفعيل آلية واحدة من الآليات الثلاث المعلقة، والتي تشمل الاتصال بين القيادة الأميركية في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، مع قيادة المسرح الجنوبي للجيش الصيني، ولكن الاتصالات انقطعت تماماً بعد حادث المنطاد.

حرب أوكرانيا و"فخ" تايوان

ساهمت مسألتان أساسيتان في تدهور الاتصالات العسكرية الصينية الأميركية، وهي الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي لم تُدنه بكين، والخلافات بشأن تايوان.

في أوائل عام 2022، أعرب عدد من المسؤولين الأميركيين لكبير الدبلوماسيين الصينيين وانج يي (وزير الخارجية آنذاك) عن مخاوفهم من أن الصين قد تستغل تركيز واشنطن على الحرب في أوكرانيا لشن هجوم عسكري على تايوان، وفق مجلة " فورين أفيرز". 

بعد أشهر، زارت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك، تايوان في أغسطس 2022، وتحركت الصين و"حاصرت تايوان" رداً على الزيارة، ما جعل عدداً من المسؤولين الأميركيين، تحدث معهم وانج يي، بما في ذلك كبار المسؤولين في البنتاجون، يعتقدون بأن لبكين "جدولاً زمنياً محدداً للاستيلاء على تايوان بالقوة".

ولكن بالمقابل يعتقد بعض القادة في الجيش الصيني أن واشنطن، كانت تدفع ببكين لمهاجمة الجزيرة حتى تتورط في "فخ تايوان"، على غرار التجربة الأميركية في فيتنام وأفغانستان.

ويعتقد خبراء في التكنولوجيا، أنه حتى ولو ضمت بكين تايوان دون إطلاق رصاصة واحدة، فإن قدرة السيطرة على صناعة أشباه الموصلات في الجزيرة، وهو الهدف الأساسي لبكين، "لن تكون ممكنة".

فتصنيع الشرائح الإلكترونية أمر معقد للغاية، حتى بالنسبة للخبراء الماهرين، إذ يمكن لتعديل طفيف على الشفرة، أو تغيير درجة الحرارة في المرافق، أن يجعل الإنتاج مستحيلاً.

الخبير والكاتب الصيني، إلهام لي، قال لـ"الشرق"، إن مسألة تايوان "خارج أي مفاوضات" بالنسبة للصين، مشيراً إلى أن الإجراءات الأميركية الداعمة للحكومة في تايبيه، عسكرياً ومالياً، تدفع بالصين إلى تسريع تحركها تجاه الجزيرة.

واعتبر لي، أن الصين قدمت  دائماً "يدها للسلام" بشأن المسألة التايوانية، مشيراً إلى ترقب في بكين للانتخابات الرئاسية التايوانية المقررة في عام 2024، والتي قد تشكل "لحظة تغيير" مهمة.

"لحظة سبوتنيك"

ما يثير المخاوف في واشنطن أكثر، هو ما يصفه قادة البنتاجون بـ"لحظة سبوتنيك"، والتطور الصيني الرهيب في التقنيات العسكرية.

وظهر مصطلح "لحظة سبوتنيك" لأول مرة، عندما أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي إلى المدار حول الأرض، في وقت كانت القوى الغربية تفترض تفوقها التكنولوجي الكبير على السوفيت. وتعني "لحظة سبوتنيك" الوقت الذي تُدرك فيه الدول أنها تواجه تهديداً أو تحدياً، وأن عليها مضاعفة جهودها للحاق بالركب.

وأظهرت وثيقة أميركية مسربة نشرتها "واشنطن بوست" في أبريل الماضي، أن الصين اختبرت صاروخاً باليستياً جديداً يفوق سرعة الصوت، قد يكون قادراً على التهرب من منظومة "الباتريوت" للدفاع الجوي، وهي المنظومة التي تحمي القواعد الأميركية المنتشرة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

والصاروخ الصيني DF 27، له القدرة حتى على ضرب الأراضي الأميركية، وفق التقرير.

ويعتقد الأميركيون أن الصاروخ الجديد هو قطعة واحدة فقط في ترسانة صينية سريعة التوسع، والتي تنتشر من بحر الصين الجنوبي، إلى جزر المحيط الهادئ، بالإضافة إلى بناء ترسانة نووية هي الأوسع منذ الحرب الباردة.

هوس أميركي بالمواجهة

وتعتبر بكين أن النخبة الأميركية الحاكمة، تبالغ في ردة فعلها تجاه التحركات العسكرية الصينية، كما ترى أنها "مهووسة" بالحديث عن المواجهة العسكرية، رغم أنها لم تعرف أرض المعركة أبداً، فيما يظل كبار قادة البنتاجون حذرون.

وترى صحيفة "جلوبل تايمز"، المقربة من الحزب الشيوعي الصيني، أن من غير الواقعي تماماً أن تواجه الولايات المتحدة الصين وروسيا عسكرياً في وقت واحد.

ويرى الخبير العسكري الصيني تشونج بينج، أن "الولايات المتحدة ستدمر ببساطة قدرتها في السعي وراء الهيمنة العسكرية المطلقة في جميع أنحاء العالم" إذا لجأت إلى هذه المواجهة.

وشكّلت أزمة المنطاد الصيني فصلاً جديداً من الخلافات بين البلدين، إذ دفع تحليقه فوق الأجواء الأميركية إلى عقد اجتماعات رفيعة وحالة من الاستنفار في الولايات المتحدة، ليتقرر إسقاطه، وهو ما أثار غضباً صينياً.

ويعتقد أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن نبيل ميخائيل، في حديث لـ"الشرق"، "ألا انفراجة قريبة في العلاقات ما بين الولايات المتحدة والصين"، بعد رفض الصين طلباً أميركياً للقاء وزيري دفاع البلدين للتباحث في قضايا عدة.

وأضاف نبيل ميخائيل أن إلغاء هذا اللقاء "سيتسبب في فجوة كبيرة" في علاقات البلدين.

وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية، الاثنين الماضي، أن الصين رفضت تلبية دعوة وجّهتها واشنطن لعقد لقاء في سنغافورة بين وزيري دفاع البلدين لويد أوستن ولي شانجفو.

واعتبر الكاتب الصيني إلهام لي، أن الرفض الصيني "واضح" بسبب "عدم الاحترام الأميركي للصين"، مشيراً إلى "العقوبات الأميركية المفروضة على وزير الدفاع الصيني".

وفرضت الإدارة الأميركية عقوبات على شانجفو عام 2018، بسبب صفقة أسلحة أبرمت مع الصين.

الصين بعيون أميركية.. وأميركا بعيون صينية

في السنوات الثلاث التي أعقبت تفشي جائحة فيروس كورونا، تراجع حجم الاتصال بين الصين وأميركا بشكل شبه كامل. فبين عامي 2019 و2022، انخفضت الرحلات الجوية بين البلدين بأكثر من 95%، وتراجعت التبادلات العلمية، وانخفض عدد الطلاب من الولايات المتحدة والصين، وهجر موظفون الشركات الصينية بأعداد كبيرة.

ويبدو أن المسؤولين الصينيين مقتنعون بأن هدف واشنطن، على حد تعبير الزعيم الصيني شي جين بينج هو "احتواء ومحاصرة الصين".

من وجهة النظر الصينية، فإن الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على هيمنتها العالمية، من خلال تخفيف قبضة الحزب الشيوعي الصيني على السلطة، والحد من نمو الصين. 

وتبرر الصين موقفها بـ"التدخل" الأميركي في شينجيانج وهونج كونج وتايوان، والرسوم الجمركية لإدارة ترمب والعقوبات المفروضة على هواوي وشركات التكنولوجيا الأخرى، والتي استمرت في ظل إدارة بايدن.

من جانبها، فإن واشنطن مقتنعة بأن بكين تريد تفكيك النظام الدولي الذي تولد بعد الحرب العالمية الثانية. كما تعتبر أن بكين تدعم الشركات الصينية بشكل غير عادل، وتقيد نشاط المؤسسات الأميركية، بالإضافة إلى اتهامات بسرقة الملكية الفكرية، وتقييد حقوق الإنسان، والقيام بتحركات عسكرية عدوانية في بحر الصين الجنوبي وأماكن أخرى.

وترى الولايات المتحدة أن الصين تأخذ مساراً داعماً للغزو الروسي لأوكرانيا، رغم إطلاق بكين لمبادرة تسعى لإنهاء الحرب، إلا أن الاتفاقيات التي وقعت بين بكين وموسكو بعد الحرب التي اندلعت في فبراير 2022، جعلت إدارة بايدن مقتنعة بأن شي يدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذه الحرب.

كان العداء المتبادل تجاه الاتحاد السوفيتي، هو العامل الرابط في السنوات الأولى للعلاقة بين الولايات المتحدة والصين. وبعد انتهاء الحرب الباردة، كان يُقال في كثير من الأحيان أن التجارة أصبحت الرابط الأهم بين واشنطن وبكين.

نهاية عصر "تشايمريكا" 

يلعب التنافس الاقتصادي دوراً بارزاً في التوترات الأميركية الصينية، وتنعكس أيضاً على العلاقات العسكرية بين البلدين.

فالتوتر العسكري الذي يشهده بحر الصين الجنوبي، يهدد شرايين حركة التجارة العالمية، والتي تمثل نحو ربع حركة التجارة العالمية.

وبعد إعادة العلاقات الأميركية الصينية في عام 1979، عقب سنوات من القطيعة والتوتر، ضاعف البلدان من جهودهما لتطبيع العلاقات الثنائية، وضاعفا من حجم تبادلهما الاقتصادي والتجاري.

ولكن نهاية هذه المرحلة أصبحت تلوح في الأفق، ما يعني تفكيكاً تدريجياً لما كان يُطلق عليه بـ"تشايمريكا" (الصين أميركا)، وهي القوة الاقتصادية التي نشأت بفضل الترابط الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين.

ويتم ذلك من خلال فرض قيود متزايدة على التكنولوجيا في كلا البلدين، وجهود إعادة توجيه سلاسل التوريد بعيداً عن الصين.

وابتكر المؤرخ وكاتب الرأي في "بلومبرغ" نيال فيرجسون مصطلح "تشايمريكا" لوصف اقتصاديين يبدوان وكأنهما مرتبطان بشدة. ولكن في الحقيقة ينفق الأميركيون خلاله ويوفر الصينيون، وتستهلك أميركا فيما تنتج الصين.

ومع نمو القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، أصبحت طموحاتها في تحدي الهيمنة الأميركية واضحة بشكل متزايد. ولم يأت صعود الصين على حساب نفوذ أميركا العالمي فحسب، بل أيضاً على حساب صناعتها المحلية، التي تعاني أمام آلة الإنتاج الصينية.

عندما تولى دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة، أصبح التعامل مع التحدي التكنولوجي الاقتصادي الصيني، مسألة ضرورية في واشنطن. 

وحرصت إدارة ترمب على مواجهة الفجوة التجارية العميقة مع الصين، كما أرادت الحفاظ على قطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة خارج متناول الصين.

"منافسة بلا صراع"

يفضل الرئيس الأميركي جو بايدن تلخيص مقاربته بشأن الصين، بعبارة "المنافسة وليس الصراع"، وهي العبارة التي استخدمها على هامش لقاء نظيره الصيني شي جين بينج على هامش قمة مجموعة العشرين في بالي بإندونيسيا في نوفمبر الماضي.

وأعاد بايدن العبارة نفسها خلال خطاب حالة الاتحاد في فبراير الماضي، بعد أيام من إرسال طائرات حربية لتدمير المنطاد الصيني قبالة ساحل المحيط الأطلسي.

واعتبر الأستاذ في جامعة جورج واشنطن، نبيل ميخائيل، أن "العلاقات العسكرية ليست مقطوعة بصورة نهائية ما بين الصين وأميركا"، مشيراً إلى وجود اتصالات ما بين أجهزة استخبارات البلدين. 

ولفت ميخائيل، إلى أن لبايدن "مشكلات داخلية كثيرة، ونفس الشيء موجود بالنسبة للرئيس الصيني".

عضو مجلس النواب رجا كريشنامورثي، وهو كبير الديمقراطيين في لجنة العلاقات الأمريكية الصينية، اعتبر في مقابلة مع مجلة "بوليتيكو"، أن هناك "قلق فعلي" بشأن اصطدام أميركي صيني حول تايوان، ولكنه أكد أن الولايات المتحدة ستدافع بقوة عن تايوان، والنتيجة ستكون "كابوساً" للجيش الصيني.

وتقف الشروط المسبقة التي يحاول كل طرف فرضها على الآخر، عقبة أمام عودة الاتصالات الكاملة بين البلدين، كما أن غياب التواصل بين الكونجرس الأميركي ومجلس نواب الشعب الصيني، يساهم في بقاء هذه العقبات.

وتشير كل المؤشرات إلى صعوبة أن تكون هناك انفراجة في المستقبل القريب في علاقات البلدين، ومن المرجح استمرار تدهورها في المستقبل المنظور.

ولكن من شأن الحديث والاستماع والتواصل، أن يبقي فرص تخفيف التوتر بين البلدين، مثلما شدد عليه بايدن وشي خلال لقائهما الأخير في بالي.

اقرأ أيضاً:

تصنيفات

قصص قد تهمك