لم يأت رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج، وحيداً لزيارة برلين في أول جولة خارجية له منذ تعيينه في مارس الماضي، بينما اصطحب نصف الحكومة وما مجموعه 9 وزراء للقاء المستشار الألماني أولاف شولتز.
وتأتي الزيارة ضمن المشاركة في المشاورات الحكومية الألمانية - الصينية السابعة، والتي جرت العادة على عقدها بصورة شبه سنوية، قبل أن تبطئ جائحة كورونا وتيرتها.
وأطلقت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل المشاورات الحكومية الألمانية - الصينية في 2011، لبناء علاقة استراتيجية بين ألمانيا والقارة الأوروبية من ناحية، والصين من ناحية أخرى.
ولطالما كانت الأجواء التي أحاطت بالجولات السابقة من المشاورات الحكومية المشتركة، إيجابية معززة بتزايد التبادل التجاري. ووصلت صادرات ألمانيا إلى الصين في العام الماضي إلى 107 مليارات يورو. في المقابل، تعتبر ألمانيا أكبر شريك تجاري للصين في أوروبا منذ سنوات، مع العلم بأن بكين في حاجة للسوق الأوروبية أيضاً، وفق ما تبينه أرقام الصادرات والواردات المتنامية بين الطرفين.
مشاورات مستمرة
وتأتي مشاورات العام 2023، بعدما أعلنت ألمانيا، ضمن استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، أن الصين "منافس اقتصادي"، و"خصم منهجي" على مستوى القيم وطبيعة النظام. كما تغيرت البيئة السياسية والأمنية العالمية، فازداد التزاحم الأميركي الصيني، واشتدت لهجة التهديد الصينية باتجاه تايوان، إضافة إلى غزو روسيا للأراضي الأوكرانية.
وفي الصراع الأوكراني، وقفت ألمانيا والصين على الضفتين المتقابلتين لخط الصراع، إذ اضطرت برلين إلى إنهاء اعتمادها على الطاقة الروسية الرخيصة، وبدأت في التفكير بخطر اعتمادها في مجالات الاقتصاد على الصين، في حين لم تتخذ الصين نفس الموقف من روسيا، وحافظت على علاقتها مع موسكو.
كما أثارت تحركات صينية قلق بعض الأوساط في برلين، عندما استحوذت شركة "كوسكو" الصينية، على حوالى 25% من أحد مرافق ميناء هامبورج، إضافة إلى إلغاء بكين زيارة وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر أخيراً، في أعقاب زيارة وزيرة التعليم بيتينا فاتسنجر إلى تايوان، وهو ما اعتبرته الصين "تدخلاً في شؤونها".
ورغم ذلك، أبقى الطرفان رغبتهما في مواصلة الحوار المباشر، بخلاف "الجفاء" الذي كان يسود العلاقات الصينية الأميركية منذ 2018.
وعقب زيارة شولتز لبكين في نوفمبر 2022 بُعيد عقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره، وتثبيت الرئيس شي جين بينج لولاية ثالثة من الحكم، وزيارتين متبادلتين لوزراء الخارجية، تنعقد هذه المشاورات الحكومية، ولكل طرف أهدافه.
وبتوجيه من شي جين بينج، ترى الصين، أن برلين وباريس دولتان محوريتان في أوروبا، وتريد خطب ودهما في إطار سعيها لتحييد الجانب الأوروبي، مع تعاظم التنافس بين الصين والولايات المتحدة على النفوذ العالمي، كما تريد التأكيد على استمرار سياستها في الانفتاح على الخارج، وهو ما يتم التشكيك به أحياناً.
المعادلة الألمانية
الجانب الألماني يبحث عن مقاربة ليست بالسهلة تضمن له استمرار الانتعاش الاقتصادي ونمو التعاون مع الصين، بعيداً عن أي فكرة للانفصال عنها، مع تخفيف مخاطر اعتماده "وتبعيته" لبكين على صعيد استيراد المعادن النادرة وأشباه الموصلات، كما يريد الجانب الألماني إبعاد الصين ولو قليلاً عن حليفها الروسي.
وانعكست التوقعات المتباينة من الطرفين بوضوح في كلمتي شولتز ولي تشيانج أمام الصحافة، بعد انتهاء المشاورات، الثلاثاء الماضي، رغم إعلان الطرفين نجاحها الكامل.
وتحدث شولتز عن الاقتصاد والمسؤولية المشتركة في إطار مكافحة التغير المناخي، وتحدث عن الغزو الروسي واصفاً موسكو بـ "المعتدي"، وأن الصين بحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن يترتب عليها مسؤوليات الحفاظ على النظام الدولي، وبالتالي يمكنها الضغط على روسيا لإيقاف الغزو.
وناشد المستشار الألماني، بكين بعدم تزويد موسكو بالسلاح، والاستمرار في موقفها الرافض لأي تهديد نووي، وبالتالي رفض استخدامه "تحت أي ظرف". كما انتقد بلباقة دبلوماسية وقوف الصين أمام فتح التبادل العلمي، والوقوف في وجه الصحافة الألمانية، التي ترغب بحرية أكبر في تغطية الشأن الصيني.
وتطرق شولتز إلى حقوق الإنسان، عبر تشديده على ضرورة أن تراعي سلاسل التوريد الاقتصادي حقوق العاملين، وكيفية إنتاج ما يتم توريده إلى أوروبا (لم يذكر الصين بالاسم)، إلا أنه كان يقصدها عندما قال إن "المستهلك في حول العالم يدقق في تلبية سلاسل التوريد للمواصفات الحقوقية المطلوبة".
شريك اقتصادي
بدوره، تحدث رئيس الوزراء الصيني بإسهاب عن فرصة توسيع التعاون الاقتصادي بين البلدين، ورفع العلاقات الصينية - الألمانية إلى مستوى أعلى في محاولة لإغراء برلين للابتعاد عن تموضعها التقليدي في التحالف "اليورو - أطلسي".
واعتبر لي تشيانج أن تعاون ألمانيا والصين الاقتصادي كدولتين مؤثرتين، يمكن أن يشكل دعامة لاستقرار الاقتصاد العالمي، فيما لم يتطرق إلى مطالب ألمانيا في ما يخص غزو روسيا لأوكرانيا.
وتم التوقيع على 10 تفاهمات واتفاقات خلال زيارة رئيس الوزراء الصيني لألمانيا، بينها الاتفاق على عقد منتدى حواري حول البيئة والتحول الصناعي في نوفمبر المقبل، وآخر حول الشؤون المالية قريباً في برلين.
كما تم توقيع تفاهمات للتعاون بين شركات السيارات الألمانية "BMW" و"Mercedes-Benz" والهيئة الحكومية الصينية المعنية بالتصنيع، واتفاق آخر مع شركة "Volkswagen" من أجل استقدام العمالة الصينية الماهرة.
ومن المؤكد أن الجانب الصيني كان سعيداً بالصور والمعاني التي تحملها من لقاءات في المستشارية، ومن مراسم التوقيع على التفاهمات، وهي رسائل موجهة للطرف الأميركي والداخل الصيني على حد سواء.
استراتيجية ألمانية
وتعد المشاورات فرصة لإعادة تدوير الأفكار المطروحة لصياغة استراتيجية ألمانيا المتكاملة تجاه الصين، وإن أعلنت عناوينها القائمة على التنافس الاقتصادي، والخصومة المنهجية، والشراكة في مواجهة التحديات العالمية، وخاصة على صعيد المناخ.
كما تم تحديد آلية تقليل المخاطر بدل الانفصال لتحقيقها، إلا أن ما أسفرت عنه المشاورات يظهر أن الابتعاد ولو قليلاً عن التعاون مع بكين ليس بالسهولة التي نجحت فيها برلين في تعويض موارد الطاقة الروسية، وأن الأمر ليس في يد الحكومة وحدها، فهناك شركات ألمانية عالمية لها مصالح تختلف عن مصالح الدول، وتذهب حيث تجد أسواقاً رحبة وموارد قليلة الكلفة.
ولا يزال الموقف الألماني الذي يطالب بتحسين فرص دخول الشركات الألمانية للسوق الصينية من جهة، وبتقليل الاعتماد على الصين من جهة أخرى، يمثل تناقضاً في انتظار حل. في المقابل، تعزز بيانات دراسة حديثة أجرتها غرفة التجارة الأوروبية في الصين، سعي برلين إلى التقليل من الاعتماد على بكين.
وبينت الدراسة أن "64% من الشركات الأوروبية ترى أن الاستثمار في الصين بدا محفوفاً بالمخاطر، خصوصاً في حال فرض عقوبات إذا وقع صدام بين بكين وواشنطن في مضيق تايوان".
وأشارت إلى أن "11% من الشركات الأوروبية في بكين بدأت سحب استثماراتها، فيما نقلت 10% منها مقارها الإقليمية في آسيا إلى خارج الصين، كما طالب تقرير الاستخبارات الألمانية الأخير بالحذر من تجسس بكين على الاقتصاد والصناعة في برلين".
"رسالة خاطئة"
ورغم أن تلك التفاهمات والاتفاقات التي تم التوقيع عليها، لم تكن بقيمة كبيرة كما جرت العادة، إلا أن المستشار الألماني أشاد بنجاح المشاورات الحكومية، باعتبارها "فرصة" لتفهم موقف الآخر وسياساته.
من جانبه، انتقد رئيس الحزب "المسيحي الديمقراطي" المعارض فريدريش ميرتس، انعقاد المشاورات في ظل غياب استراتيجية واضحة تحدد المصالح الألمانية، وتضع مطالبها بقوة على الطاولة.
وكانت أصوات من داخل أحزاب الائتلاف الحاكم، انتقدت صيغة اللقاء وتوقيتها. فقال ميشائيل روت، عضو الحزب "الاشتراكي الديمقراطي" الحاكم، ورئيس اللجنة البرلمانية لشؤون الخارجية، إن "التوقيت بمثابة رسالة خاطئة في وقت يحكم فيه الرئيس الصيني يده على المجتمع والدولة".
بدوره، اعتبر راينهارد بيتيكوفر من حزب "الخضر" أن "صيغة المشاورات ينبغي أن تكون حكراً على الدول الصديقة والقريبة في قيمها وسياساتها".
أما الإعلام الألماني في غالبيته، فكان ينتظر ما سيصدر عن المشاورات من إجراءات لتقليل من مخاطر الاعتماد على الصين، وجاء إلغاء فرصة طرح الأسئلة على المستشار وضيفه الصيني الرفيع، إبّان المؤتمر الصحافي في دار المستشارية، ليزيد من حدة النقد.
وبعد أن تم تسريب خبر أن الطرف الصيني هو من طلب إلغاء الأسئلة وإلا سيلغى المؤتمر، قال صحافيون ألمان إن "ذلك يمثل سابقة غير مقبولة، ويعد ابتزازاً"، كما رأوا أن "ما حدث يظهر أن الرؤية الصينية تفرض نفسها حتى في ترتيب المؤتمرات الصحافية التي تعقد في برلين، بدل أن يكون العكس".
*كاتب صحافي ومدير مركز برلين للإعلام