السودان.. "جرائم حرب" في دارفور تعيد إلى الأذهان تاريخاً دامياً

لاجئون سودانيون قادمون من دارفور يتجمعون أمام مستشفى أدري في تشاد. 16 يونيو 2023 - REUTERS
لاجئون سودانيون قادمون من دارفور يتجمعون أمام مستشفى أدري في تشاد. 16 يونيو 2023 - REUTERS
الخرطوم -أ ف ب

بعدما رأت منزلها يُحرق وشقيقها يُقتل، لم تجد "إنعام" سوى الفرار من مدينة "الجنينة" في السودان إلى تشاد، هرباً من انتهاكات قد ترقى إلى "جرائم حرب"، تُعيد ذكريات مريرة إلى سكان إقليم دارفور.

ومنذ اندلاع المعارك في السودان بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 15 أبريل، شهد إقليم دارفور بغرب البلاد بعضاً من أسوأ أعمال العنف التي ترافقت مع انتهاكات إنسانية وجنسية، وجرائم قتل على أساس عرقي، وعمليات نهب واسعة النطاق، وفق ما تؤكده منظمات إنسانية وشهود في ظل انقطاع شبه تام في الاتصالات بالإقليم.

وتقول "إنعام" إن مسلّحين ينتمون إلى قوات الدعم السريع وقبائل عربية حليفة لها "أحرقوا منزلنا وكل منازل الحي.. قتلوا أخي أمام عينيّ" في مدينة "الجنينة" مركز ولاية غرب دارفور.

وتتابع الناشطة الحقوقية التي تحدثت عبر الهاتف من شرق تشاد، وطلبت استخدام اسم مستعار حماية لأقاربها، الذين لا يزالون في الجنينة: "عندما خرجنا كانت الجثث في كل مكان، والنيران مشتعلة في البيوت، لذا سلكنا طريقاً بعيداً حتى لا يقابلنا الدعم السريع أو المسلحون العرب".

جنود من الجيش السوداني يقفون بالقرب من سيارتهم في الخرطوم. 20 مايو 2023 - AFP
جنود من الجيش السوداني يقفون بالقرب من سيارتهم في الخرطوم. 20 مايو 2023 - AFP

الفرار لا يوفر الحماية

في ظل الظروف الراهنة، اضطر عشرات الآلاف في الجنينة ودارفور لترك منازلهم. "إنعام" واحدة من أكثر من 150 ألف شخص لجأوا إلى تشاد، وفق أحدث أرقام منظمة الهجرة الدولية.

وفي مختلف أنحاء السودان، بلغ عدد النازحين مليوني شخص، وفقاً للأمم المتحدة، كما فرّ نحو 600 ألف شخص إلى الدول المجاورة، بعد أن أوقعت الحرب الدائرة في البلاد حتى الآن أكثر من ألفي شخص، وفقاً لتقديرات يرى خبراء أنّها أقلّ بكثير من الواقع.

ويتحدر غالبية الفارين إلى تشاد وإفريقيا الوسطى من إقليم دارفور المكوّن من 5 ولايات ويمتد على ربع مساحة السودان، ويقطن فيه ربع عدد سكان البلاد المقدّر بـ48 مليون نسمة، لكن الفرار لا يوفر حماية فورية، إذ تؤكد منظمات إنسانية أن سكان دارفور عانوا الأمرّين للهروب من مناطقهم.

ونقلت منظمة "أطباء بلا حدود" شهادة السودانية سلمى (اسم مستعار)، وتبلغ من العمر 18 عاماً تعرضت شقيقتها للاغتصاب من رجال مسلحين أثناء الفرار من مدينة "الجنينة".

وتحكي سلمى أنه في ظهر الخامس عشر من يونيو، أوقفهن 6 رجال مسلحين وقاموا باغتصاب واحدة من شقيقتيها تبلغ من العمر 15 عاماً.

وقالت سلمى، حسب ما نقلت "أطباء بلا حدود"، إنهم "احتجزوها لبعض الوقت داخل الحافلة وبعد أن انتهوا منها ألقوا بها خارجها وغادروا".

وفي ظل صعوبة الاتصال مع مختلف ولايات الإقليم، تنتشر على مواقع التواصل تسجيلات وصور تظهر نزوح الآلاف من سكان دارفور إلى الحدود مع تشاد.

صورة من وكالة الأنباء السودانية الرسمية (سونا) تظهر والي ولاية غرب دارفور الراحل خميس عبد الله أبكر في مكان مجهول. 15 يونيو 2023 - AFP
صورة من وكالة الأنباء السودانية الرسمية (سونا) تظهر والي ولاية غرب دارفور الراحل خميس عبد الله أبكر في مكان مجهول. 15 يونيو 2023 - AFP

"جحيم" الجنينة

في منتصف الشهر الجاري، تم قتل والي غرب دارفور خميس عبد الله أبكر، بعد ساعات على اتّهامه قوات الدعم السريع بـ"تدمير" مدينة "الجنينة".

واتهم الجيش قوّات الدعم السريع بخطف واغتيال أبكر، إلا أنها دانت من جهتها مقتل الوالي، وقالت إنّه جرى "على أيدي متفلّتين.. على خلفية الصراع القبلي المحتدم بالولاية".

كما حمّلت الأمم المتحدة قوّات الدعم السريع مسؤوليّة ما وصفته بـ"العمل الشنيع".

وقالت بعثة المنظّمة في بيان: "تنسب إفادات شهود عيان مُقنعة هذا الفعل إلى الميليشيات العربيّة وقوّات الدعم السريع"، داعيةً إلى "تقديم الجناة بسرعة إلى العدالة وعدم توسيع دائرة العنف في المنطقة بشكل أكبر".

وتؤكد أطراف ومنظمات دولية أن "الجنينة" هي الأكثر تعرضاً لأعمال العنف في دارفور خلال الأسابيع الماضية.

ووصفت الأمم المتحدة الوضع فيها بـ"الخطير جداً" منذ مطلع يونيو.

وقال منسق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في دارفور طوبي هاروارد: "أُحرقت الأسواق، ونُهبت الخدمات الصحية، وتجوب المدينة جماعات مسلحة تقتل الناس بطريقة عشوائية، غالباً بسبب عرقهم"، متابعاً أنه "وضع خطير للغاية يمكن أن يتحوّل بسرعة إلى كارثة إنسانية إذا لم تستعد السلطات السيطرة وتُفرض هيبة الدولة".

ويقول محمد (اسم مستعار)، الذي كان يسكن "الجنينة" وفر إلى أدري في تشاد، إنه "منذ بداية الحرب والنظام الصحي بأكمله خارج الخدمة"، مضيفاً: "لا كهرباء ولا ماء ولا اتصالات".

وتابع: "جميع صهاريج المياه دُمرت، ولم يعد هناك سوى الآبار للحصول على الماء"، مشيراً إلى أن من "يقرر الذهاب إلى الآبار يتعرّض لاستهداف القناصين".

وبالنسبة لتدبير المواد الغذائية، قال محمد إن الأسواق الصغيرة التي فتحت أبوابها لخدمة المواطنين "تعرّضت للنهب".

وقال متحدث منظمة "أطباء بلا حدود"، رداً على أسئلة وجهتها "فرانس برس"، إن "النزاع لم يهدّد حياتهم من العنف المباشر فحسب، بل أثّر أيضاً على نيل الرعاية الصحية، ما يؤثّر على كل شرائح المجتمع بما فيها من يعانون الأمراض المزمنة، الحوامل، الأطفال، ومن يحتاجون لرعاية طبية"، وإن "توفّر الضروريات الأساسية مثل مياه الشرب النظيفة بات مقيّداً بشكل حاد".

ويروي إبراهيم عيسى، وهو أستاذ مدرسة فرّ من "الجنينة" إلى تشاد: "خرجنا من الجحيم.. أعادت لنا الحرب ذكريات عامي 2003 و2004 حين كان القتل متصلاً بالهوية والعرق".

بحسب محمد، تم توقيف العديد من الفارين على الحدود من قبل المسلحين: "يسألونك عن هويتك واسمك وقبيلتك.. والبعض يتعرّض للتصفية".

عنف عرقي

ترجع تسمية دارفور بهذا الاسم إلى أن الإقليم كان موطناً لشعب الفور قديماً، وبتواتر الأجيال أصبحت المنطقة تضم بين سكانها مجموعات قبلية بينها العرب مثل قبائل "الرزيقات"، التي ينتسب لها دقلو، ومجموعات عرقية إفريقية مثل "الزغاوة" و"المساليت"، التي يتحدر منها والي غرب دارفور أبكر.

كان إقليم دارفور ساحة لحرب أهلية مريرة عام 2003 بين متمردي الأقليات العرقية الإفريقية، وحكومة الرئيس المعزول عمر البشير التي كان غالبية أعضائها من العرب.

وأوقع النزاع نحو 300 ألف ضحية وشرّد 2.5 مليون شخص، بحسب الأمم المتحدة.

وأثناء حرب 2003، استعان البشير لمساندة قواته بمليشيات "الجنجويد" التي شكّلت بعد ذلك نواة قوات الدعم السريع التي أنشئت رسمياً في عام 2013.

وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي توقيف بحق البشير وبعض مساعديه لاتهامهم بارتكاب "إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".

"قتل على أساس عرقي"

وأعربت منظمة العفو الدولية، في بيان، عن قلقها "إزاء التقارير التي تُفيد بوقوع عمليات قتل موجهة ذات دوافع عرقية.. على أيدي قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها".

وفي هذا الصدد قال محمد: "ليس هناك علاقة بين الحرب في دارفور، وما يحصل في الخرطوم .. في البداية كان (النزاع) بين الجيش وقوات الدعم السريع، لكن بعد ذلك تحوّل إلى حرب أهلية على أساس الهوية".

وأشار إلى تاريخ العنف القديم بين المجموعات العربية والدعم السريع ضد مجموعة "المساليت" العرقية الأبرز في غرب دارفور، التي تتخذ من الجنينة عاصمتها التاريخية.

ومن جهتها، اتهمت "المساليت" قوات الدعم السريع، بحسب تقرير أعدته عن الأوضاع في الجنينة في الفترة من 24 أبريل وحتى 12 يونيو، بارتكاب معظم الانتهاكات في المدينة.

وأفاد التقرير، الذي حصلت "فرانس برس" على نسخة منه، بأن "انعدام الأمن وغياب سيادة الدولة أدى إلى مصرع أكثر من 5 آلاف شخص وما لا يقل عن 8 آلاف جريح"، وكان الشقيق الأكبر لزعيم "المساليت" من بين الضحايا.

ولكن لم يتسن التحقق من هذا العدد بشكل دقيق ومستقل في ظل الأوضاع الراهنة.

وأكدت "المساليت" في تقريرها أنه نظراً "لتدهوّر الوضع الأمني بمدينة الجنينة مع الانتشار الواسع للقناصة على أسطح المنازل والأماكن المرتفعة.. أصبح المواطنون في الجنينة يواجهون مصيراً مجهولاً من حيث فقدان الأمن والمأوى والغذاء والدواء".

وأشارت إلى "حرق وتدمير جميع مراكز إيواء النازحين البالغ عددها 86"، إضافة إلى "نهب وحرق قصر سلطنة دار مساليت"، مطالبة المجتمع الدولي بوضعه تحت "الوصاية الدولية".

حامية أم دافوق

كانت قوات الدعم السريع أعلنت في بيان "الاستيلاء الكامل" على حامية عسكرية مهمة في منطقة أم دافوق الحدودية مع جمهورية إفريقيا الوسطى في جنوب دارفور.

وقال ضابط سابق في الجيش السوداني سبق وعمل في منطقة أم دافوق إن "سيطرة الدعم السريع على الحامية يزيد من فرص حصول قواتها على إمداد خارجي عبر حلفاء في ميليشيا فاجنر المنتشرة في إفريقيا الوسطى".

وأضاف: "هذه السيطرة ستنقل الصراع السوداني من شأن داخلي إلى إقليمي"، وزعم أن "المعلومات تفيد بأن قوات الدعم السريع التي هاجمت حامية أم دافوق جاءت بـ250 عربة وألفيّ مقاتل من داخل حدود إفريقيا الوسطى".

من جهتها، تحدثت منظمة العفو الدولية عن "أوجه تشابه مثيرة للقلق بين العنف الجاري وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبت في دارفور منذ 2003. وحتى أولئك الذين يبحثون عن الأمان لا يسلمون من هذا العنف".

وكانت المستشارة الأممية الخاصة المعنية بمنع الإبادة أليس نديريتو وصفت العنف في غرب دارفور بأنه "مروّع"، محذرة حال استمراره "من أن يتطوّر إلى حملات متجددة من الاغتصاب والقتل والتطهير العرقي، التي ترقى إلى مستوى الجرائم الفظيعة".

وتقول إيما دي نابولي، المحامية في القانون الإنساني الدولي، إنه "من حيث المبدأ ربما ترقى جرائم عديدة تم التبليغ عنها في دارفور إلى جرائم ضد الإنسانية أو حتى جرائم حرب".

وأضافت: "يجب على الناشطين على الأرض الحفاظ على الأدلة بأفضل شكل ممكن.. لأن هذا ضروري للمحاكمات المستقبلية أمام المحكمة الجنائية الدولية أو أي مكان آخر".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات