الصين تحشد المجتمع ضد التجسس: الجميع يسعى لإضعافنا

علم الصين بالقرب من كاميرات مراقبة خارج محكمة في العاصمة بكين. 31 مارس 2022 - REUTERS
علم الصين بالقرب من كاميرات مراقبة خارج محكمة في العاصمة بكين. 31 مارس 2022 - REUTERS
دبي-الشرق

كثفت الصين جهودها لرفع مستوى "اليقظة الجماعية" لمكافحة عمليات التجسس التي ترى أنها "تتوسع" في البلاد، ما دفع الطلاب والأكاديميين إلى تحاشي عقد لقاءات ومحاضرات مع نظرائهم الأجانب، أو إجراء مقابلات مع الصحف الأجنبية.

وترى الصين أن "جميع القوى تحتشد من أجل إضعافها، سواء من داخل الشركات متعددة الجنسيات، أو عن طريق التسلل إلى وسائل التواصل الاجتماعي، أو من خلال محاصرة الطلاب"، مطالبةً شعبها بـ"مراقبة هؤلاء جميعاً عن كثب"، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.

وطالبت الجامعات الصينية أعضاء هيئات التدريس التابعين لها بحضور دورات تدريبية في "حماية أسرار الدولة"، حتى في الكليات والأقسام التي ليست على صلة بالأمن القومي، مثل كليات الطب البيطري.

ونظمت حضانة للأطفال في مدينة تيانجين شرق البلاد، اجتماعاً لتعليم منتسبيها قانون مكافحة التجسس الصيني.

وفتحت وزارة أمن الدولة، وهي إدارة سرية تتولى عادة الإشراف على الشرطة السرية وأجهزة الاستخبارات، أول حساب لها على وسائل التواصل الاجتماعي، كجزء مما وصفته وسائل الإعلام الإخبارية الرسمية بأنه "جهد يستهدف زيادة المشاركة الشعبية".

وقالت الوزارة في أول منشور لها: "دعوة إلى تعبئة المجتمع بأسره ضد التجسس"، مشددة على أن "مشاركة الجماهير يجب أن تصبح أمراً طبيعياً".

وأدرج الحزب الشيوعي (الحاكم) الأشخاص العاديين في قوائم من أجل "حمايتهم من التهديدات التي تتعرض لها البلاد" في حملة "طمست معالم الخط الفاصل بين الحذر وجنون الاضطهاد"، على حد وصف "نيويورك تايمز".

ولفتت الصحيفة إلى أنه على الرغم من موجة تباطؤ الاقتصاد الصيني التي بلغت ذروتها على مدى سنوات، إلا أن الرئيس شي جين بينج، يبدو الآن أكثر تركيزاً على الأمن القومي لبلاده، وعلى حماية الهيمنة التي يفرضها حزبه على مفاصل الدولة من التعرض لأي تهديدات.

ونقلت "نيويورك تايمز" عن شي قوله أمام لجنة الأمن القومي، في مايو الماضي: "يجب أن نكون على أهبة الاستعداد لمواجهة أسوأ السيناريوهات"، مطالباً المسؤولين بضرورة "تعزيز المراقبة على مدار اللحظة، والتأهب لخوض قتال حقيقي".

وتوقعت الصحيفة أن يتفاقم إحساس الطوارئ، نظراً لأن بكين تواجه بعضاً من أكبر التحديات منذ تولي شي السلطة قبل أكثر من عقد، إلى جانب ضبابية المشهد الاقتصادي، وتوتر العلاقات مع الغرب.

وتشير التغييرات "غير المبررة"، وفقاً للصحيفة الأميركية، على صعيد الأشخاص في طبقات السلطة العليا، بما في ذلك الإقالة المفاجئة لوزير الخارجية و2 من كبار الجنرالات، في يوليو الماضي، إلى أن شي ربما يخشى تعرض هيمنته لبعض التهديدات.

وأجرت الصين، في يوليو الماضي، مراجعة شاملة لقانون مكافحة التجسس، لتوسيع نطاق ما تعتبره "أنشطة تجسس لا ينقصها مزيداً من الاتساع"، على حد وصف "نيويورك تايمز". 

وقدمت السلطات مكافآت بعشرات الآلاف من الدولارات للأشخاص الذين يبلغون عن جواسيس.

وبينما ألهمت الدعوة إلى "اليقظة الجماعية" الحذر على نطاق واسع، إلا أنه من غير الواضح إلى أي مدى يمكن ترجمة ذلك إلى عمل على الأرض، وفقاً للصحيفة الأميركية.

مطاردة الجواسيس

كانت السلطات الصينية أعلنت، في أغسطس الماضي، القبض على 4 جواسيس على الأقل، بينهم رجلين تم تجنيدهما من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، إلا أنه تبين أن بعض القضايا كانت "قديمة"، وتم الإعلان عنها أخيراً، مثل الزوجين اللذين تم اعتقالهما عام 2019.

وفي وقت سابق من العام الجاري، أعلنت السلطات صدور حكم بسجن مواطن أميركي مدى الحياة بعد اتهامه بالتجسس، كما ألقت السلطات القبض على رئيس تحرير صحيفة صينية مرموقة أثناء حضوره عشاء رفقة دبلوماسي ياباني، فيما وصفت عائلته التهم الموجهة إليه بأنها "ملفقة"، وفقاً لما أوردته "نيويورك تايمز".

سياسة ماو

أستاذ التاريخ الصيني الحديث بجامعة نيويورك، تشين جيان، قال للصحيفة إن "هذه الحملة تعكس عمق التحديات والأزمة التي تواجهها شرعية النظام (الصيني)"

واعتبر أن "الدعوة إلى العمل الجماهيري تعكس أصداء حملات (الزعيم الصيني السابق) ماو تسي تونج واسعة النطاق"، التي أطلقها من أجل ترسيخ سلطته، وأبرزها "الثورة الثقافية التي عانت خلالها البلاد من الفوضى وإراقة الدماء على مدى عقد كامل"، عندما حرض الزعماء الصينيون الجماهير على الإبلاغ عن معلميهم وجيرانهم وحتى أقاربهم وأفراد أسرهم باعتبارهم "معادين للثورة".

وتوقع تشين "ألا يندفع المجتمع الصيني بسهولة الآن إلى نفق جنون الغوغاء" بالنظر إلى ما اكتسبته البلاد من خبرات حداثية.

على الرغم من ذلك، لفتت "نيويورك تايمز" إلى أن الصين "تتوافر لها أسباب الحذر"، مستدلة بما قاله مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، ويليام بيرنز، أخيراً بأن "الولايات المتحدة تعيد بناء شبكتها الجاسوسية في الصين".

وأضافت الصحيفة أن الصين ليست الدولة الوحيدة التي تتبنى سياسة التحذيرات شديدة اللهجة بشكل متزايد بشأن النفوذ الأجنبي، مشيرة إلى تحذير البعض من أن واشنطن تعمل على تأجيج "رعب أحمر" جديد، على سبيل المثال من خلال مبادرة الصين التي سبق أن أطلقتها وزارة العدل لاستهداف الأكاديميين على الرغم من أنها ملغاة حالياً.

على الجانب الآخر، تعمل الولايات المتحدة ودول غربية أخرى على الحد من الوصول إلى تطبيق "تيك توك" الذي تمتلكه الصين بسبب مخاوف أمنية.

وأشارت "نيويورك تايمز" إلى أن المقاربة الصينية تتمايز عن غيرها باتساع نطاقها وانتشارها في كل مكان، ففي القطارات عالية السرعة طالب مقطع فيديو متداول الركاب بأخذ الحيطة عند التقاطهم الصور لنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي في حال تضمنت معلومات "حساسة"، فيما تذكر المكاتب الحكومية مرتاديها طوال الوقت بضرورة "بناء خط دفاعي شعبي".

ونشرت إحدى الحكومات المحلية في مقاطعة يونان مقطع فيديو لرجال ونساء يرتدون الزي التقليدي لقبيلة "يي"، وهي مجموعة عرقية تقطن المقاطعة، يرقصون ويغنون ابتهاجاً بقانون الأمن القومي الصيني.

وردد المغنون الذين تحلقوا في دائرة برزت فيها النساء بتنانيرهن ذات الألوان الصفراء والزرقاء والحمراء: "ستتم محاكمة المتقاعسين عن إبلاغ السلطات. وستقودهم تهم التستر (على الجواسيس) إلى السجون".

الصحيفة لفتت أيضاً إلى أن أشكال تعليم مكافحة التجسس الأخرى تتسم بمزيد من الرسمية، إذ تدير الإدارة الوطنية لحماية أسرار الدولة تطبيقاً يحتوي على دورة تدريبية عبر الإنترنت عن حفظ الأسرار، الذي أمرت العديد من الجامعات والشركات منتسبيها بإكمال دراستها.

ويفتتح الدرس الأول من هذا التدريب بعبارة مقتبسة من مقولات ماو تسي تونج عن أهمية السرية، فيما يحذر آخر من أن أجهزة أيفون وأندرويد منتجات أجنبية وقد تمثل وسيلة للتلاعب.

تجنيد الجميع

"نيويورك تايمز" أوضحت أن عمليات التجنيد شملت أيضاً المجموعات التي تبدو بعيدة كل البعد عن مسائل الأمن الوطني.

إذ أمر قسم التربية الرياضية في إحدى جامعات مقاطعة شاندونج أعضاء هيئة التدريس بإتمام دراسة هذه الدورة عبر الإنترنت، وسارت على نهجه إحدى كليات الطب البيطري في مدينة قوانجتشو.

ويشكل الشباب الصيني فئة مثيرة للقلق بشكل خاص، خاصة بعد الاحتجاجات واسعة النطاق التي اندلعت، العام الماضي، ضد قيود مكافحة فيروس كورونا الصارمة التي فرضتها الحكومة.

ويواجه الكثير من الشباب الآن موجة أخرى من المشكلات، بينها معدلات البطالة القياسية، لكن السلطات أرجعت هذه الحالة من الاستياء إلى محرضين خارجيين، فبعد احتجاجات العام الماضي، قال مسؤول صيني إن المشاركين "تم شراؤهم من قبل قوى خارجية".

من جانبهم، لا يزال الأكاديميون الصينيون يروجون لهذه الفكرة، ففي مؤتمر عن العلاقات الدولية نظمته جامعة تسينجهوا المرموقة في بكين، خلال يوليو الماضي، أشار أحد أعضاء هيئة التدريس إلى أن المحتجين وقعوا فريسة لعمليات "تلاعب معرفي وأيديولوجي" قامت بها دول، بينها الولايات المتحدة.

وقالت البروفيسور هان نا، الأستاذة بجامعة الأمن العام الشعبي، وهي أكبر أكاديمية شرطة في البلاد، إن "اكتشاف هذه المحاولات التي تبذلها قوى خفية يزداد صعوبة".

وأضافت: "البعض يطلق عليهم جواسيس، وآخرون يطلقون عليهم عملاء خاصون، ولكنهم في نهاية المطاف أشخاص من بني جلدتنا يعيشون بيننا وينتمون إلى بعض الأقسام والإدارات الخاصة"، متهمة هؤلاء بأنهم "سبب الأزمة الراهنة التي نعانيها".

ويتبلور جزء من الحلول التي تقترحها السلطات في تعليم الشباب أن يكونوا أكثر حذراً.

وفي هذا الإطار دعا الرئيس الصيني إلى نشر تعليم الأمن الوطني على نطاق أوسع، كما شكلت الجامعات فرقاً طلابية للإبلاغ عن الأشخاص الذين يستخدمون مواقع إلكترونية أجنبية، من بين أشياء أخرى.

ولكن النصائح المستمرة تذكر الطلاب بأنهم أيضاً غير بعيدين عن أعين المراقبة اللصيقة.

وذكرت "نيويورك تايمز"، أن طلاباً جامعيين في بكين تعرضوا للمساءلة من قبل الشرطة والإداريين لتبادلهم رسائل مع صحافيين تابعين لها في قضيتين على الأقل قبل أن تنشر أي مقالات.

الصحيفة ذكرت أيضاً أن التأثير، أو ربما الهدف الأساسي من هذه الحملة هو جعل أدنى مستوى من الاتصال بالأجانب مثيراً للشكوك.

الثقافة.. ضحية الأمن

"نيويورك تايمز" حذرت من أن هذا التوجه امتد بقوة إلى قطاعات الثقافة الصينية التي كانت محطاً للاتصال المكثف بنظيراتها الخارجية على مدى التاريخ.

وأتت هذه الحملات أُكُلها، إذ توقف بعض الأكاديميين عن الالتقاء بأجانب، وألغت القاعات والمسارح في جميع أنحاء الصين عروض الموسيقيين غير الصينيين.

وبلغت عمليات الإلغاء ذروتها، في مايو الماضي، وسط حملة قمع ضد الفعاليات الثقافية التي تعتبر غير متوافقة مع أجندة عمل الحزب الشيوعي الحاكم في البلاد.

وعلى الرغم من أن السلطات الصينية لم تصدر أي توجيهات مباشرة بشأن الاتصال بالأجانب، بل أكدت أن الصين "منفتحة على الآخرين"، مشيدة بأهمية "الاستثمار الأجنبي" في البلاد، إلا أن المؤشرات تسير في الاتجاه الآخر، وفقاً لـ"نيويورك تايمز".

وفي الربيع الماضي نفذت السلطات الصينية عمليات مداهمة أو استجواب لمكاتب العديد من شركات الاستشارات الأميركية، واتهمت إحداها بمحاولة الحصول على "أسرار الدولة" من خلال خبراء صينيين يعملون لديها.

وكان مجرد مشاركة الاسم مع منظمة أجنبية كفيلاً بإثارة عمليات التفتيش، وفقاً لما كشفته مجموعة متطوعة في قوانجتشو، عندما أُجبرت المجموعة على إلغاء مؤتمر كان مقرراً عقده في أغسطس الماضي تحت اسم (TEDxGuangzhou).

وتسمح شركة (TED)، وهي شركة متخصصة في تنظيم الفعاليات، ومقرها الولايات المتحدة، للمجموعات باستخدام علامة (TEDx) التجارية مجاناً، وليس لها أي ارتباط من نوع آخر مع مجموعة قوانجتشو، وفقاً لما قاله المنظمون في بيان.

وتنظم (TEDx) مؤتمرات في قوانجتشو منذ عام 2009، ومع ذلك، أعلنت الشرطة هذا العام، أنه لا يمكن للمتطوعين المضي قدماً في المشاركة في هذه المؤتمرات ما لم يتم تسجيلهم كمنظمة أجنبية غير حكومية.

وعندما منع أحد مطارات مقاطعة هونان سيارات "تسلا" من المواقف الخاصة به بدعوى أنه يمكن استخدام سيارات الشركة الأميركية لأغراض تجسسية، تساءل أحد المعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن ما إذا كان يجب حظر طائرات بوينج الأميركية أيضاً.

وكتب هو شي جين، الذي شغل منصب رئيس تحرير صحيفة "جلوبال تايمز"، وهي صحيفة شعبية تابعة للحزب القومي، قبل أن يُحال إلى التقاعد، على الإنترنت:"من المثير للقلق أن الأكاديميين الذين أعرفهم صاروا يتحاشون الأجانب".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات