بمعزل عن الخلفيات التاريخية، بدت الحرب الأهلية في إثيوبيا صادمة للكثيرين مع شن الحكومة الإثيوبية ما تسميه "عمليات فرض القانون" في إقليم تيغراي، وتصنيفها الحزب الحاكم السابق في البلاد جبهة تحرير شعب تيغراي منظمة إجرامية تتعهد بتدميرها.
الصراع الذي أودى بحياة الآلاف أثار، بحسب مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، مخاوف في العواصم الأجنبية من أن يقود إلى واحد من أكبر الانهيارات للدولة في التاريخ الحديث، مع تداعيات خطيرة على السلام والاستقرار في القرن الإفريقي وما وراءه.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة إنهاء العمليات، إلا أنه من المستبعد أن تضع سيطرتها على عاصمة تيغراي "ميكيلي" حداً للصراع في أي وقت قريب، في ظل انسحاب مقاتلي جبهة تحرير تيغراي إلى الجبال، وتمركز قواتها المقاتلة استعداداً لحرب عصابات مكلفة وطويلة الأجل.
ووفقاً للمجلة، فإن الصراع قد يحفز المدنيين الذين يجهلون قواعد الحرب والاشتباك للانخراط بفاعلية في المعارك، وهذا قد يقود إلى مأساة إنسانية حرجة.
بوادر التصعيد
وأشارت المجلة إلى أن المجتمع الدولي الذي أهمل هواجس جهات موثوقة في أهلية رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لقيادة البلاد، بل رحب بمنحه جائزة نوبل، اكتفى فقط بمحاولة إقناع آبي بالامتناع عن تصعيد الصراع.
وعلى الرغم من تعبير الاتحادين الإفريقي والأوروبي ومجلس الأمن وقادة عدد من الدول عن قلقهم من الكارثة التي تلوح في الأفق، ومناشدتهم الأطراف المتحاربة حل خلافاتهم السياسية عبر الحوار، إلا أن آبي أحمد رفض أي محادثات للسلام مع جبهة تحرير تيغراي حتى تتم إعادة حكم القانون، فيما انتقد حليفه وسلفه في الحكم هايلي مريام ديسالين دعوات الحوار واعتبرها سذاجة ومحاولة لخلق توازن زائف بين الحكومة وجبهة تيغراي.
ديسالين أكد أن أي ترتيبات لتقاسم السلطة يتم التوصل إليها عبر الحوار هي حل غير مستدام، كما أنها قد تفضي إلى تبرئة جبهة تحرير شعب تيغراي من الجرائم التي ارتكبتها، على حد تعبيره.
هذه التصريحات من ديسالين اعتبرتها المجلة مجرد "تبرير فج" للحرب التي يسعى المجتمع الدولي لدرئها.
ما الذي قاد إلى الوضع الحالي؟ قبل أقل من عامين كان يتم الترويج للاقتصاد الإثيوبي باعتباره واحداً من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، مع إمكانات هائلة للنمو والتطور في المستقبل، فكيف انتهى الأمر بدولة لا تزال قوى غربية تعتبرها حائط الصد لسياساتها الأمنية في القرن الإفريقي إلى مواجهة هذا التهديد الوجودي.
صراع الرؤى
الحرب الحالية في إثيوبيا هي تجسيد لصراع قديم بين رؤيتين مغايرتين للبلاد لكل منها معسكرها وأنصارها، فهناك معسكر يتبنى وجهة النظر التي تقول إن حكومة مركزية قوية هي الضمان الوحيد لوحدة البلاد وسلامة أراضيها، بينما يدفع معسكر آخر باتجاه الرؤية التي تقول إن السلطة السياسية ينبغي أن تنتقل من المركز إلى الأطراف، ضمن نظام فيدرالي يعطي الأقاليم استقلالاً ذاتياً معتبراً.
يرتبط هذا الصراع بتاريخ البلاد وذاكرتها، فأولئك الذين يروجون للحكومة المركزية القوية يعتقدون أن إثيوبيا دولة استثنائية ينبغي الحفاظ عليها مهما كان الثمن (ومن هؤلاء آبي أحمد وأنصاره)، أما أنصار الرؤية الفيدرالية مثل جبهة تحرير شعب تيغراي وجبهة تحرير أورومو فيسلطون الضوء على الإرث الإمبراطوري للبلاد، ويصورونها كسجن لعرقيات وقوميات مختلفة، لذا فالحاجة ماسة إلى إعادة تشكيلها أو ربما تفكيكها من الأساس.
تراكمات التاريخ
تأسست إثيوبيا الحديثة كدولة إمبراطورية على يد الطبقة الحاكمة للأمهرة أواخر القرن التاسع عشر، مع توسيع الإمبراطور منليك الثاني الذي حكم بين عامي 1889 و1913 مملكته لتشمل ما يعرف اليوم بالنصف الجنوبي لإثيوبيا، غازياً ومهيمناً على قوميات الأورمو والصوماليين والمجموعات العرقية الأخرى التي تشكل التركيبة السكانية لإثيوبيا المعاصرة.
تأسيس البلاد على الغزو والتمدد العسكري أصبح مصدر خلاف دائم، وأدى إلى قيام ما لا يحصى من حركات المقاومة في ظل سعي المكوّنات الشعبية المهزومة للحفاظ على هوياتها وثقافاتها ولغاتها، وتبرير الوحدويين للحروب باعتبارها "حملات ضرورية لتوحيد الأراضي التي كانت جزءاً من الإمبراطورية الإثيوبية القديمة".
وجاءت الموجة الثانية من المقاومة ضد الدولة الإثيوبية في منتصف القرن العشرين خلال حقبة الإمبراطور هيلا سيلاسي مع تمرد عام 1943 في تيغراي الذي عارض تنظيم الدولة في 14 مقاطعة، باعتباره إجراء يهدف لتعزيز سيطرة المركز على حساب الأطراف.
شهدت أواخر الستينات الميلادية حركة الطلاب الإثيوبية التي أسهمت بقوة في الإطاحة بالنظام الإمبراطوري، وكان قادتها يمثلون جميع أطياف المجتمع الإثيوبي، وقد أفضت إلى تحوّل إثيوبيا من إمبراطورية مهيمنة إلى دولة ديمقراطية تحترم حقوق القوميات والعرقيات المتعددة التي تتألف منها البلاد.
بعد الإطاحة بالإمبراطور هيلا سيلاسي في سبتمبر 1974 بدت المجموعة العسكرية التي سيطرت على البلاد ممثلة في الحكومة العسكرية المؤقتة مستعدة للتعامل مع مآزق القوميات التي أهملت خلال فترة الحكم الإمبراطوري، ولكنها غيّرت مشروعها فجأة عندما تبنت تكتيكات قمعية وأصبحت نظاماً استبدادياً مركزياً، الأمر الذي أدى إلى تشكيل الحركات التحررية، ومن ضمنها جبهة تحرير تيغراي وجبهة تحرير أورمو.
قاد الحرك التحرري إلى الإطاحة بالحكومة العسكرية في 1991، وقد كان هناك أمل في أن تفضي هذه الخطوة وما تلاها من الاعتراف بالتنوع العرقي في البلاد إلى تسوية صراع المركز والأطراف المدمر، ولكن الحكومة الجديدة بقيادة جبهة تحرير شعب تيغراي استمرت في استخدام التكتيكات نفسها في قمع الأصوات المنشقة، ما أفضى أخيراً إلى سقوطها عام 2018.
جميع هذه الحروب كانت صراعاً إما في سبيل المحافظة على الوحدة والسلامة الإقليمية للدولة الإثيوبية القديمة، وإما لإعادة تشكيلها أو تفكيكها وتحرير الأمم التي ترى نفسها سجينة لهذه الإمبراطورية.
عودة الماضي
إلى حد كبير تُعد الحرب الحالية في إقليم تيغراي جزءاً من هذه الجدلية التي ابتليت بها البلاد منذ تأسيسها حول ما إن كانت إثيوبيا دولة استثنائية ينبغي أن تحكم بأسلوب أكثر مركزية أم ينبغي أن تدار كدولة لا مركزية.
يمكن النظر أيضاً إلى هذه الحرب باعتبارها استمراراً للصراع غير المعلن بين الجيش الإثيوبي وجيش تحرير أورومو في أوروميا، أكبر الولايات الإقليمية في البلاد، فعلى الرغم من إعلان آبي أحمد انتماءه إلى عرقية الأورمو، إلا أن الولاية أصبحت مرتعاً خصباً لمعارضة أجنداته المتمثلة في وضع إثيوبيا أولاً مهما كان الثمن.
وترى المجلة الأميركية أن فلسفة آبي أحمد المركزية أسهمت في مفاقمة الوضع، إضافة إلى الاتهامات الأخيرة للجيش الإثيوبي من منظمات إنسانية ذات مصداقية بارتكاب فظائع وحشية في الإقليم، فيما بدا كأنه محاولة فاشلة لقمع جيش تحرير أورومو.
ويزيد الوضع تعقيداً دور القوى الخارجية التي فشلت، بحسب المجلة، في إدراك الجذور التاريخية العميقة للانقسام الحالي، فبينما يتميز الصراع الإثيوبي بأسبابه الراسخة هيكلياً وتاريخياً، والتي تتطلب تقييماً مجرداً وطول نظر، فإن السياسات الغربية تجاه البلاد تبدو مصممة، وفقاً للمجلة، على حلول قصيرة الأجل تتجاهل المشكلات الكامنة.
وأشارت المجلة إلى أن الطبقة الحاكمة في البلاد استغلت لفترة طويلة سردية "الاسثنائية الإثيوبية" لاكتساب الشرعية والحصول على المساعدة والدعم المادي والشرعية من الدول القوية، وهو ما أدى إلى استمرار الصراع في البلاد.
وترى المجلة أن الاحترام الذي تبديه الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة لمعسكر الوحدويين وأجنداتهم السياسية، "عمل فقط على مفاقمة التناقضات الجوهرية في الدولة الإثيوبية، وتعميق الهوة بين القوى الوحدوية والفيدرالية في البلاد".