بدأ بعض النازحين من غرب دارفور في السودان بالعودة إلى المنطقة بحذر، وسط مخاوف من اندلاع الاشتباكات مجدداً في هذه الولاية التي شهدت توتراً كبيراً خلال الأعوام الثلاث الماضية، بلغ ذروته بعد تفجّر القتال في أبريل الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
ومع مرور 6 أشهر على الحرب، لم تتوقف حركة النزوح من غرب دارفور إلى تشاد القريبة منها، لكن أعداداً ضئيلة جداً تحاول العودة إلى المنطقة.
الصحافي محي الدين زكريا، قال من مكان إقامته في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور لـ"الشرق"، إن "الحياة بدأت تعود إلى طبيعتها، مع استقرار الخدمات مؤخراً، ولا سيما الكهرباء والمياه"، مشيراً إلى أن "محالاً تجارية في سوق المدينة تعمل بشكل منتظم، وتراجعت معظم مظاهر التسلح".
وأشار زكريا، إلى أن "النزاع الأهلي في الجنينة يعود لسنوات خلت نتيجة الاحتكاكات بين المكونات العرقية، لكنها اتخذت شكلاً جديداً في أبريل الماضي تحت مظلة الجيش والدعم السريع حيث دعم كل طرف مكوناً من المكونات".
ولفت إلى أن "قبيلة المساليت مدعومة ببعض العناصر المنتمية للأجهزة النظامية في دارفور سيطرت على الدبابات كما فتحت بعض مخازن الذخيرة التابعة للجيش والشرطة ما مكّن مكوناً عرقياً في المدينة من الاستيلاء على آلاف الأسلحة هاجم بها مكوناً آخر (القبائل العربية)، والتي قدمت الدعم السريع الدعم لها".
وأضاف، أن "الضحايا وسط القبائل العربية وفقاً لبياني التنسيقية العليا لأبناء الرحّل والرعاة والمكتب التنفيذي للقبائل العربية بلغوا 1123 ونحو ألفي جريح"، مشيراً إلى أن "قبيلة المساليت تقول إن ضحاياها تجاوزوا 5 آلاف".
وقال زكريا، إن "قوات الدعم السريع تسيطر على كامل المدينة ما عدا منطقة أردمتا التي ينتشر فيها الجيش، فيما غابت الشرطة تماماً منذ تفجّر العنف في الجنينة".
لكن مديرة مركز دراسات السلام بجامعة غرب دارفور علوية مختار بحر الدين وهي من أسرة سلطان قبيلة المساليت، تقدر عدد الضحايا بنحو "8 آلاف، إضافة إلى آلاف الجرحى"، مضيفةً لـ"الشرق" أن "عدداً من أفراد أسرتها لقوا حتفهم".
وقضت علوية، وأفراد أسرتها أسبوعاً في منطقة أردمتا بعد فرارهم من منزلهم، قبل أن يواصلوا رحلتهم نحو تشاد، عابرين 11 نقطة تفتيش يفرض مسلحوها إتاوات على جميع النازحين.
وأوضحت علوية، أن "جهوداً تبذل في تشاد من أجل إغاثة اللاجئين، إلا أن الإمكانيات لا توازي حجم الكارثة"، مشيرة إلى أن "العدد الأعظم من الفارين من النساء والأطفال والمسنين".
نقطة تحول في مسار العنف
في يونيو الماضي، كانت الولاية تغلي طيلة شهرين تقريباً، بسبب الاشتباكات المستمرة، وتراجع أوجه الحياة كلها، لكن الأحداث أخذت منعطفاً آخر استرعى الانتباه على نحو كبير.
ففي 14 يونيو الماضي تسربت مقاطع فيديو لوالي غرب دارفور خميس عبد الله أبكر، وهو يترجل من سيارة عسكرية رباعية الدفع، ويدلف إلى مكتب "يبدو تابعاً لقوات الدعم السريع"، رفقة قائد هذه القوات في غرب دارفور اللواء عبد الرحمن جمعة، في وقت كان فيه بعض المقاتلين يحاولون الاعتداء على الوالي، الذي تسربت فيديوهات له ملطخاً بدمائه بعد ساعات فقط، ليعلن "التحالف السوداني" الذي يرأسه مقتله، متهماً الدعم السريع بـ"تصفيته والتمثيل بجثته".
واجتاحت الجنينة منذ 23 أبريل الماضي موجة عنف جديدة واسعة النطاق، لكن مقتل الوالي شكّل منعطفاً، دفع بالآلاف للفرار من المدينة التي حُرقت أسواقها وبيوتها ومقارها الحكومية.
الجيش السوداني وصف حادثة مقتل الوالي بـ"التصرف الغادر الذي قامت به الدعم السريع باختطاف واغتيال والي غرب دارفور"، فيما نفت قوات الدعم السريع هذه الاتهامات جملة وتفصيلاً، كما اتهمت "خارجين على القانون" بخطفه وقتله.
وفي 6 سبتمبر الماضي، حمّل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في بيان، "الدعم السريع مسؤولية مقتل والي غرب دارفور"، لافتاً إلى أن "وزارة الخارجية الأميركية تفرض قيوداً على منح التأشيرة للواء في قوات الدعم السريع وقائد قطاع غرب دارفور عبد الرحمن جمعة، وذلك لتورطه في "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان".
وزاد: "أشارت مصادر موثوقة إلى أن قوات الدعم السريع قد قامت في 15 يونيو 2023 وبقيادة اللواء جمعة بخطف حاكم غرب دارفور خميس أبكر وشقيقه وقتلهما".
وعُيّن خميس أبكر واليا على غرب دارفور بعد مشاركته في مفاوضات السلام وتوقيعه اتفاق جوبا عام 2020، وهو يتحدر من إثنية المساليت، إحدى أكبر المجموعات في دارفور.
حكاية لجوء وفرار من الموت
وقبل 4 أيام فقط من مقتل الوالي خميس أبكر، قرر أنور آدم إسماعيل (30 عاماً) الهرب من الجنينة نحو تشاد المجاورة، وذلك بعدما اتسع نطاق العنف، حيث قُتل عدد من أقاربه، كما نصب المقاتلون المدافع، ونشروا القناصة وبدأوا بمهاجمة البيوت لقتل الذكور وحرق الممتلكات.
أنور الذي كان يعمل في مكتب إعلامي تابع لسلطنة المساليت، قضى نحو 8 ساعات للوصول إلى حدود تشاد، ولخشيته من القتل، سار هذه المسافة ليلاً، رفقة لاجئين آخرين، وانتهى به المطاف في معسكر للاجئين في مدينة أدري شرق تشاد.
قال أنور لـ"الشرق": لقد "كان الهجوم شاملاً من نحو 16 ألفاً من مقاتلي الدعم السريع والمكونات الاجتماعية المساندة. استمر الأمر لنحو 50 يوماً"، مضيفاً أنه وبقية الشبان في حي الثورة حيث يقطن "قرروا الدفاع عن أنفسهم وأسرهم بعدما أدركوا ألا أحد يدافع عنهم".
وذكر أن "رحلة اللجوء كانت محفوفة بالمخاطر، حيث كانت الأودية ممتلئة بمياه الأمطار، وكان يتم قتل الناس في الطريق إلى تشاد"، موضحاً أنه "لم يعرف مصير والده الذي كان مفقوداً إلا بعد نحو شهر، حين عثر عليه في تشاد".
أما إيثار خليل، وهي طبيبة سودانية انتقلت للعمل في معسكرات اللاجئين في تشاد، قالت لـ"الشرق" إن معلوماتها تشير إلى أن "قوات الدعم السريع ضربت حصاراً من كل الاتجاهات لمدة شهرين على الجنينة لينقطع الإمداد الغذائي والدوائي، وكان الأمر أشبه بالعقاب الجماعي، ما أودى بحياة الكثيرين من المصابين بأمراض مزمنة، هذا إضافة للموت بسبب الجوع".
وبيّنت إيثار، أن "من فروا من الموت والاغتصاب والخطف والاستعباد الجنسي والبيع" وصلوا إلى شرق تشاد ولا سيما مدن أدري والطينة وباهي وكارياري.
وتعمل إيثار خليل ضمن مبادرة أطباء السودان إلى جانب نحو 13 طبيباً و4 صيادلة و13 ممرضاً لمداواة إصابات بالرصاص علاوة على تطعيم الأطفال والعناية بالمرضى الآخرين.
وكانت منظمة "أطباء بلا حدود" كشفت في تقرير في سبتمبر الماضي، عن حاجة اللاجئين السودانيين الماسة في شرق تشاد إلى الغذاء والماء والرعاية الصحية، مشيرة إلى معاناة الكثيرين منهم من سوء التغذية والإسهال والملاريا.
الحشرات والعشب طعاماً
وذهبت منسقة الطوارئ في "أطباء بلا حدود" في مدينة أدري، شرق تشاد، سوزانا بورجيس للقول، إن "اللاجئين في المنطقة ينتظرون بيأس بالغ الحصص الغذائية وبعضهم لم يحصل على الطعام منذ 5 أسابيع"، وأردفت: "يُطعم الناس أطفالهم الحشرات والعشب وأوراق الشجر".
طواقم الأطباء عالجت أعداداً كبيرة من المصابين بالرصاص والانفجارات، لكن المنظمة تشكو من نقص الأموال اللازمة لمجابهة الأزمة الآخذة في الاتساع، بحسب بورجيس.
ورغم ضعف الاستجابة فيما يتعلق بضخ أموال إضافية للمنظمات الدولية العاملة في شرق تشاد، رفعت "أطباء بلا حدود" القدرة على استيعاب المرضى في مستشفى أدري ومراكز صحية أخرى في المدينة إلى 420 سريراً.
وكشفت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين خلال الشهر الجاري، أن نحو 6 ملايين سوداني أجبروا على ترك منازلهم بسبب الحرب.
وقال مدير مكتب المفوضية الإقليمي لغرب ووسط إفريقيا عبد الرؤوف كوندي، إن "420 ألف لاجئ جديد وصلوا إلى تشاد"، متوقعاً أن "يبلغ العدد 600 ألف بنهاية العام الجاري".
كوندي أوضح أن "تشاد استقبلت خلال الأشهر الخمسة الماضية عدداً من اللاجئين أكبر مما استضافته في العشرين عاماً الماضية".
المسؤول الأممي، أشار كذلك إلى زيارته الأخيرة إلى تشاد، واصفاً شهادات اللاجئين من ضحايا العنف بأنها "مروعة"، بما في ذلك الاعتداء الجنسي والاغتصاب والدعارة القسرية.
ونقلت المفوضية أكثر من 40% من اللاجئين إلى العمق التشادي، بعيداً عن الحدود مع السودان، مبينةً أن "العائلات واجهت ظروفاً صعبة خلال رحلات محفوفة بالمخاطر، حيث انفصلت أسر عن بعضها البعض، أثناء فرارها".
"احتقان إثني"
الرئيس السابق لمفوضية حقوق الإنسان السودانية رفعت ميرغني وصف لـ"الشرق"، ما حدث في غرب دارفور بـ"الصادم بشكل كبير"، وقال إن "ما حدث في تقديري مرتبط بالاحتقان الإثني الموجود بين بعض مكونات الولاية، والذي ظهر في أحداث عنف واضطرابات بدءاً من أحداث معسكر كريندنق وكرينك الأولى والثانية، المعلومات التي لدي أن هنالك بعض الجهات حاولت تغذية هذا الصراع لأسباب سياسية وعسكرية".
وذكر ميرغني أن "ما عرفته ولاية غرب دارفور يمثل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وفيه شبهة جريمة إبادة جماعية ضد إثنية المساليت"، لكنه أضاف: "في الواقع بعض الأفعال التي تُشكل الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية يبدو أنها متوفرة، فضلاً عن أركان مادية لبعض الجرائم ضد الإنسانية، لكن لا يمكن الجزم بتوافر الركن المعنوي لهذه الجريمة بدون تحقيق جدي".
ورأى أنه "لا يمكن الجزم بشأن الأطراف المسؤولة عن الهجمات في غرب دارفور بدون إجراء تحقيق، لأن هناك احتمالات بتورط بعض الجهات الرسمية في تغذية الصراع الإثني، وفي تسليح بعض المجموعات الإثنية".
وقلل ميرغني من شأن أي تحقيق وطني، لأنه "لا توجد مؤسسة مؤهلة حالياً، لتكوين لجنة تحقيق مستقلة على المستوى الوطني، إضافة إلى أن سمعة لجان التحقيق الوطنية لن تسعف في تحقيق العدالة، ولا تحظى بثقة المواطنين"، على حد قوله.
وأشار إلى أن هناك "معلومات حول فتح مخازن الشرطة لتسليح بعض الأطراف، وهذه المعلومات يجب أن تخضع لتحقيق".
تحقيق دولي
وعدّد الخبير الحقوقي عبد السلام سيد أحمد لـ"الشرق" حجم الانتهاكات في غرب دارفور، واصفاً إياها بأنها "تدخل في عداد الجرائم الدولية، وتشمل جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية واحتمالات التطهير العرقي والإبادة الجماعية".
أحمد الذي سبق أن شغل منصب الممثل الإقليمي لمفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أضاف: "كان هناك استهداف على أساس الهوية بالنسبة لقبيلة المساليت من قبل الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها، وهناك شبهات بارتكاب جرائم تطهير عرقي وإبادة جماعية هذا إضافة للقتل خارج نطاق القانون".
وزاد: بالإشارة لما جرى لوالي غرب دارفور، خميس أبّكر، وقتل مجموعات سكانية في مدينة الجنينة والاغتصاب والتهجير القسري واستهداف الفارين حتى أثناء النزوح وقطع خدمات الكهرباء والمياه وحرق الأسواق "كل ذلك يشير إلى استهداف ممنهج بما يرقى لتهجير قسري، وأن كل ذلك يشكل مخالفات عدة للقانون الإنساني الدولي".
ورجح أن "تقدم لجنة تقصي الحقائق الدولية التي أُعْلِن عنها مؤخراً من داخل مجلس حقوق الإنسان الأممي، تقريراً للمجلس عن الانتهاكات في غرب دارفور، وهو بدوره سيقرر لاحقاً الإجراءات التي يمكن أن تتخذ بشأن ما حدث في هذه الولاية".