كيف تواجه روسيا تأثير حربي غزة وأوكرانيا على الوضع الداخلي؟

موسكو-الشرق

أثارت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي اعتبر فيها أن بلاده تحارب في أوكرانيا "مصدر المأساة" نفسه الذي يواجهه الفلسطينيون في غزة، ردود أفعال عدة، إذ حملت هذه التصريحات تطوراً غير مسبوق على صعيد رؤية روسيا الرسمية لطبيعة الهجوم الإسرائيلي، ومدى ارتباطه بتطورات واسعة تجري في المنطقة والعالم.

كان الهدف الرئيسي من تصريحات بوتين، هي التركيز على وقوف واشنطن خلف أزمات إقليمية، تحوَّل بعضها إلى "برميل بارود متفجر"، كما حصل في فلسطين، لكن عباراته عكست مستوى المخاوف الروسية من عالم "ما بعد حرب غزة"، في حال نجحت مساعي إسرائيل والولايات المتحدة في فرض حل قد يسفر عن "تغيير موازين القوى"، وبعض الخرائط في المنطقة.

وعلى المستوى الداخلي لم تكن بواعث القلق أقل درجة، خصوصاً مع تجدد الحديث عن سعي غربي حثيث لتأجيج الوضع في البلاد، على خلفية الأحداث التي شهدتها جمهورية داغستان، ذات الغالبية المسلمة، في منطقة شمال القوقاز في بداية الأسبوع.

"أميركا ومذبحة الفلسطينيين"

حمل اتهام بوتين للولايات المتحدة بالسعي لنشر الفوضى في الشرق الأوسط وأوكرانيا، دلالات إضافية هذه المرة مع تصعيد لهجته، ووصف واشنطن بـ"العنكبوت الذي يريد جر العالم كله إلى شبكته".

اللافت أن هذا الحديث جاء في اجتماع موسع لمجلس الأمن القومي الروسي، كان يناقش فيه الوضع الداخلي في البلاد، وبدا واضحاً أن الكرملين لم يعد ينظر إلى أي تطور داخل روسيا وخارجها إلا في إطار المواجهة الحالية الكبرى مع الغرب، وهنا يكمن الربط غير المسبوق بين حربي أوكرانيا وغزة، من وجهة النظر الرسمية الروسية.

وقال بوتين: "من ينظم الفوضى القاتلة؟ ومن يستفيد منها اليوم؟ برأيي، لقد أصبح الأمر جلياً، إن النخب التي تحكم الولايات المتحدة حالياً، ومن يدور في فلكها هي المستفيد الرئيسي من انعدام الاستقرار في العالم".

وأشار إلى أن "النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وراء مذبحة الفلسطينيين، وأحداث الشرق الأوسط وأوكرانيا والعراق وسوريا"، لافتاً إلى أن "تلك النخب ليست بحاجة إلى السلام في الأرض المقدسة، فهي تحتاج إلى الفوضى، لذا تشوّه سمعة من يريدون وقف سفك الدماء، وحتى الأمم المتحدة تتعرض للاضطهاد".

ووفقاً لبوتين، فإن الغرب "يحاول استغلال الوضع المأساوي في الشرق الأوسط والصراعات الإقليمية الأخرى ضد روسيا، لزعزعة استقرار وتقسيم الاتحاد الروسي المتعدد الجنسيات والأديان".

وهذا المدخل في فهم السياسات الغربية شكَّل مقدمة لإعلان بوتين أن بلاده "لا تشارك بنشاط في تشكيل عالم جديد أكثر عدالة ومتعدد الأقطاب، يتمتع بحقوق وفرص متساوية لجميع البلدان والحضارات فحسب، بل إننا أحد قادة هذه العملية التاريخية الموضوعية".

وتابع: "ولأن لا سبيل لمساعدة الفلسطينيين إلا بقتال من يقفون وراء الصراع، ونحن نقاتلهم في أوكرانيا"، موضحاً أن "موقف روسيا بشأن الشرق الأوسط لم يكن أبداً قائماً على المصلحة الذاتية أو القاع المزدوج، وأن مفتاح حل المشكلة هو إنشاء دولة فلسطينية كاملة العضوية وذات سيادة".

لينطلق من ذلك إلى بلورة موقف يعد الأوضح تجاه الحرب على غزة عبر التأكيد على أنه "بدلاً من ملاحقة ومعاقبة الإرهابيين في مناطق الشرق الأوسط، بدأت عدة أطراف في تطبيق سياسة الانتقام على مبدأ المسؤولية الجماعية"، مضيفاً أن "قتل آلاف الأشخاص الأبرياء في الشرق الأوسط لا يمكن تبريره". لتكون الخلاصة الواضحة: "نحن نحارب في أوكرانيا مصدر الخطر علينا وعلى الفلسطينيين".

مخاوف داخلية في روسيا

هذا التحول اللافت في الموقف الروسي، لم يكن نابعاً فقط من تعاظم المخاوف الروسية بأن السيناريو الذي تسعى واشنطن لفرضه من أجل إنهاء المواجهات القاسية الجارية حالياً في غزة، سوف ينعكس بتداعيات كبرى على المنطقة والعالم، بما يؤثر أيضاً على المصالح الروسية في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، والعنصر الثاني الذي ظهر بقوة هنا يتعلق بمدى التأثيرات المحتملة على الوضع الداخلي في روسيا.

ولا شك بأن اقتحام مطار داغستان، الأحد الماضي، شكَّل علامة فارقة في تطور الوضع الداخلي، وحمل الحدث إشارة تنبيه قوية للسلطات الروسية بالخطر الكامن وراء تأجيج مزاج عام غاضب في روسيا يقوم بالدرجة الأولى على تقسيم المجتمع الروسي، وتأليب مواقف مسلمي البلاد الذين يصل تعدادهم، وفق الإحصاءات، إلى أكثر من 25 مليون نسمة.

وعلى الرغم من أن اقتحام المطار من قِبَل مئات الداغستانيين المعارضين للحرب على غزة شكَّل تطوراً نوعياً في آليات التعبير عن الغضب، لكنه لا يعد التحرك الوحيد الذي أقلق السلطات الروسية خلال الأيام الماضية، إذ سبق ذلك التفاعل النشط للإدارات الدينية لمسلمي روسيا مع الحرب على الفلسطينيين، من خلال إصدار نداءات متواصلة للتدخل لحماية الشعب الفلسطيني، كما دخل بعضها على خط إطلاق حملة واسعة لمقاطعة البضائع التي يدعم منتجوها إسرائيل. كما حفلت صفحات مسلمين روس على وسائل التواصل الاجتماعي بدعوات للتحرك لحماية الفلسطينيين.

لكن الأبرز، كان توجيه رسائل حادة جداً من رئيس الشيشان رمضان قديروف، الذي يحظى بنفوذ واسع في منطقة شمال القوقاز ذات الغالبية المسلمة، إذ قال إن "الفاشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ليست أقل من فاشية (أدولف) هتلر، وربما تفوقها"، معلناً عن استعداده لإرسال "قوات تفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتأمين حماية للشعب الفلسطيني".

واضطر الكرملين بطبيعة الحال، إلى الرد سريعاً على تلك التصريحات، وذكر الناطق باسمه ديمتري بيسكوف بأن روسيا لديها علاقات متوازنة مع جانبي الصراع.

وحملت تلك العناصر دلالات إلى المستوى الخطر الذي تخشى موسكو من الانزلاق إليه داخلياً، ويعد هذا أحد الأسباب الرئيسية لتعمُّد الربط بين الحرب الإسرائيلية على غزة ومحاولات الغرب تأجيج المزاج الشعبي في روسيا.

من وقف وراء اقتحام المطار؟

كانت مجموعات من المحتجين قد اقتحمت مبنى مطار محج قلعة في جمهورية داغستان الروسية مؤخراً، بعد أنباء عن هبوط طائرة قادمة من تل أبيب "تقل لاجئين إسرائيليين" روَّجتها "صفحة تحريضية على تليجرام".

وأثار المهاجمون أعمال شغب في المطار، حيث اعتدوا على رجال الأمن هناك، وفتشوا جوازات سفر ركاب الطائرة، وروَّعوا المسافرين.

وقال رئيس جمهورية داغستان إن ما حدث كان بتحريض أوكراني، ملمحاً إلى أن قناة "صباح داغستان" التي دعت لأعمال الشغب في مطار محج قلعة مرتبطة بشخصيات موالية لكييف.

وأعلن الأمن الروسي لاحقاً التعرف على أكثر من 150 مشاركاً في أعمال الشغب التي وقعت في المطار، واعتقال 83 منهم.

لماذا اتهمت موسكو الغرب؟

وربطت موسكو  اقتحام مطار داغستان بالمخابرات الأوكرانية، من خلال التأكيد أن قناة "صباح داغستان" التي دعت لأعمال الشغب في مطار محج قلعة "مرتبطة بالسياسي المنشق إيليا بونوماريوف"، الذي أعلن مراراً عن مواقف معارضة للحرب في أوكرانيا.

وكان لافتاً أنه منذ منتصف أكتوبر، نشرت قناة "صباح داغستان" على "تليجرام" معلومات بشأن الصراع بين إسرائيل وحركة "حماس"، وحتى ذلك الحين كانت تركز على دعوة جماهيرية للخروج دعماً لفلسطين.

وفي منتصف العام، كانت القناة قد نشرت مقابلة مع أحد الضباط الحاليين في الجيش الأوكراني، وهو أحمد أحمدوف، نائب قائد ما يُسمى بكتيبة "الإمام شامل"، وهي وحدة داخل الجيش الأوكراني تتكون من داغستانيين يقاتلون ضد الجيش الروسي.

أما بونوماريف نفسه، وهو عضو سابق في مجلس الدوما (النواب) الروسي عن داغستان، فقد كان أعلن مبكراً معارضته الحرب في أوكرانيا، وتصفه السلطات الروسية بأنه "خائن"، وفضلاً عن دعواته إلى أعمال مسلحة ضد السلطات الروسية، فقد نصَّب نفسه زعيماً لما يُسمى بـ"الحكومة الروسية في المنفى".

وكان النائب الروسي السابق فر إلى أوكرانيا، وحصل هناك على الجنسية الأوكرانية. وهو يرعى شبكة من قنوات "تلجرام" تدعو باستمرار إلى احتجاجات حاشدة والإطاحة بالحكومة في روسيا. وفعلت "صباح داغستان" الشيء نفسه، ولكن مع تفاصيل إقليمية، فقد دعت إلى محاربة "نظام الاحتلال" واستقلال "داغستان وأراضي المسلمين".

ونشطت القناة في تغطية الأحداث في غزة، وأظهرت دعماً واضحاً لحركة "حماس".

واللافت أنه مع إطلاق الدعوات للنزول إلى الشوارع دعماً لفلسطين، ارتفع عدد المشتركين فيها من 50 ألفاً إلى 65 ألفاً في غضون أيام. لكن مديري القناة نفوا وجود أي صلة مباشرة لهم ببونوماريف وبأوكرانيا، قائلين إن "مدير القناة ومالكها شخص واحد داغستاني مسلم".

ومهما كانت درجة دقة الاتهامات الروسية للأجهزة الغربية والأوكرانية بالوقوف وراء محاولات استغلال المأساة الفلسطينية لتأجيج الوضع الداخلي في البلاد ودفع المسلمين إلى التمرد، فإن الحقيقة أن ظاهرة الدعوات إلى النزول إلى الشوارع دعماً لفلسطين انتشرت على مواقع ومنصات كثيرة في روسيا.

وقال ناشط من داغستان، إن هذا الوضع تطور بقوة منذ (هجمات فصائل فلسطينية على بلدات ومستوطنات إسرائيلية متاخمة لغزة) في 7 أكتوبر.

واعترف عالم اجتماع داغستاني بأن قنوات "تليجرام"، ودردشات "واتساب"، وصفحات "إنستجرام" صبَّت الزيت على النار، لكنه أصر على أنها  لم تكن مصدراً لدعوات تأجيج الوضع، بل وسيلة للتعبير عن التوتر.

تحركات روسية لتعزيز الجبهة الداخلية

في كل الأحوال، شكل التطور علامة فارقة في مستوى التحركات الداخلية المتوقعة كرد فعل على أحداث تجري في خارج البلاد. ويُعد اقتحام المطار من حيث خطورته على استقرار الوضع الداخلي واحداً من التطورات الأبرز في روسيا، بعد منعطفي تمرد مجموعة "فاجنر" شبه العسكرية في مايو الماضي، وحملات النزوح الجماعية للشبان مع إطلاق عملية التعبئة العسكرية في مطلع العام.

وهذا ما دفع السلطات إلى إبداء مستوى زائد من القلق على انعكاسات هذا المزاج على المستوى الداخلي الروسي.

وأعلن الكرملين أن أعمال الشغب التي شهدها مطار داغستان الروسية سيجري تحليلها عن كثب لمنع تكرارها. وبعد ذلك مباشرة بدأت تردد معطيات بشأن توجيه تعليمات صارمة في الأقاليم، وخصوصاً ذات الغالبية السكانية المسلمة، بمنع وقوع أحداث مشابهة.

ووجَّه بوتين خلال ترؤسه مجلس الأمن الروسي الاستخبارات والسلطات الأمنية والمحلية، بالتصرف بحزم وفي الوقت المناسب لحماية النظام الدستوري، والحفاظ على حقوق وحريات المواطنين، وحماية السلم الأهلي والديني في روسيا.

لكن التنبيه الأقوى في شكله ولهجته جاء من رئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف، الذي أمر قوات الأمن بالتصدي بحزم بالغ لأي محاولات للنزول إلى الشارع. كما أمر بـ"إطلاق 3 رصاصات في الهواء ثم الرابعة في الجبين مباشرة، على من يثيرون أعمال شغب في الجمهورية، أو ينظمون تظاهرات غير مرخصة".

وتابع قديروف، موجهاً حديثه لممثلي وزارة الداخلية والحرس الوطني الروسي في الجمهورية: "لو خرج شخص واحد لإثارة الشغب أو حملات غير مرخصة، اعتقلوه وألقوا به في السجن. أو أطلقوا 3 طلقات تحذيرية في الهواء، وبعد ذلك إذا لم يلتزم بالقانون، أطلقوا الرصاصة الرابعة على جبهته، ولن يخرجوا بعد ذلك، وهذه هي تعليماتي".

تصنيفات

قصص قد تهمك