قال الرئيس الأرجنتيني المنتخب، خافيير ميلي، في خطاب النصر الذي ألقاه، فجر الاثنين، "اليوم تبدأ نهاية الانحطاط" وتنطلق "إعادة إعمار الأرجنتين"، محذراً من أنه لن تكون هناك "أنصاف حلول"، فيما هنأه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب قائلاً: "ستجعل الأرجنتين عظيمة مرة أخرى".
وأعلنت لجنة الانتخابات الرئاسية في الأرجنتين فوز ميلي، بعد حصوله على نسبة 55.69% من الأصوات، مقابل 44.30% لوزير الاقتصاد الحالي سيرجيو ماسا.
ولم يأت فوز ميلي مخالفاً لاستطلاعات الرأي التي أجريت قبل الجولة الثانية من الانتخابات، فالناخبون الأرجنتينيون عبروا عن رغبتهم في تغير الحكومة الحالية، والتي أدخلت ثاني أكبر اقتصاد بأميركا الجنوبية في أزمة خانقة تسببت في تضخم العملة المحلية، حتى وصلت إلى 140%، وزيادة في نسبة الفقر تجاوزت 40% من إجمالي تعداد السكان.
وفاز ميلي الذي يتزعم حزب "الحرية تتقدم" وينتمي إلى أقصى اليمين، بعد أن قطع وعوداً بـ"إجراء تغييرات جذرية لإصلاح عقود من سوء الإدارة السياسية"، وهي الاستراتيجية التي لاقت صدى واسعاً لدى شعب "يقبع تحت وطأة التدهور الاقتصادي، ويقاسي ويلات أحد أسرع معدلات التضخم في العالم"، وفق "بلومبرغ".
وتمنح هذه النتيجة تفويضاً إلى ميلي للوفاء بوعود حملته الانتخابية، بما فيها التخلي عن مقاربة البيزو مقابل الدولار الأميركي، وإغلاق البنك المركزي، مع إجراء تخفيضات جذرية على حجم الإنفاق العام، في محاولة لإخراج البلد الذي يبلغ تعداد سكانه 46 مليون نسمة من ضائقتها.
"أرجنتين جديدة"
وخاطب ميلي، آلافاً من أنصاره في مقر حملته بالعاصمة بوينس آيرس بعد الفوز، مشدداً على أن "هذه ليلة تاريخية للأرجنتين". وتابع: "انتهى النموذج الطبقي الفقير، واليوم نتبنى نموذج الحرية كي نصبح مجدداً قوة عالمية.. اليوم تنتهي طريقة مورست بها السياسة، وتبدأ طريقة أخرى".
وأضاف: "نحن نواجه مشاكل هائلة: التضخم والركود ونقص الوظائف الحقيقية وانعدام الأمن والفقر والبؤس. هذه مشاكل لن تحل إلا إذا تبنينا أفكار الحرية مرة أخرى".
وحذَّر ميلي الذي يدعو منذ عامين إلى "العلاج بالصدمة" لاقتصاد أنهكه تضخم مزمن يبلغ حالياً 143% على مدى عام واحد، قائلاً: "لا يوجد مجال للتدرج ولا مجال للفتور أو لأنصاف الحلول".
وقال إنه يمد يده إلى "جميع الأرجنتينيين والقادة السياسيين وجميع من يريدون الانضمام إلى الأرجنتين الجديدة"، لكنه حذَّر أيضاً من حركات مقاومة اجتماعية محتملة لإصلاحاته.
وأوضح: "نعلم أن هناك أشخاصاً سيقاومون ويريدون الحفاظ على نظام الامتيازات (الذي يستفيد منه) البعض، ولكنه يفقر الغالبية. أقول لهم: كل ما هو في القانون جائز، ولكن ليس ما هو خارج القانون".
ويتولى ميلي الرئاسة في 10 ديسمبر المقبل، خلفاً للرئيس ألبرتو فرنانديز المنتمي لتيار يسار الوسط.
ويتوزع السكان في الأرجنتين على 23 مقاطعة، ويبلغ الناتج المحلي 632.77 مليار دولار، وفقاً لبيانات عام 2022 الصادرة عن البنك الدولي، ليضعها في الترتيب 22 عالمياً، لكن خلال العقدين الماضيين واجهت البلاد أزمات اقتصادية، بالإضافة إلى موجة جفاف أضرت بالصادرات الزراعية، ليرتفع التضخم، والديون العامة ما تسبب في تراجع احتياطات البلاد من العملات الأجنبية، إذ وصل سعر البيزو الرسمي إلى 353 مقابل كل دولار، وفي "السوق السوداء" فيقدر بألف بيزو.
من هو خافيير ميلي؟
يمثّل ميلي أحزاب "اليمين المتطرف"، وهو خبير اقتصادي مدافع عن الليبرالية الجديدة التي تدعم خصخصة جميع قطاعات الدولة و"دولرة الاقتصاد".
وهو أيضاً من مناصري سياسيات ترمب، وأحد أصدقاء الرئيس البرازيلي السابق جائير بولسونارو، كما أنه مقرب من حزب "فوكس" اليميني المتطرف في إسبانيا، والسياسي المحافظ والمرشح الرئاسي التشيلي السابق خوسيه أنطونيو كاست.
ويتبنى ميلي، أفكاراً مثل عدم الاعتراف بالحقبة الديكتاتورية السابقة في البلاد، وإنكار الاستعمار، والتخلي عن المطالبة بجزر فوكلاند المتنازع عليها مع بريطانيا، بالإضافة إلى إهانة رموز أرجنتينية مثل البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، وحتى أسطورة كرة القدم مارادونا.
وأعلن ميلي خلال حملته الانتخابية، عزمه تغيير السياسات الخارجية للبلاد، والتي تأخذ شكل التقارب في العلاقات الثنائية مع كل من الصين والبرازيل (أكبر شريكين اقتصاديين للأرجنتين).
وقال: "لن أعقد اتفاقاً مع الشيوعيين"، إذ يميل إلى التقارب مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية على حساب الدول التي يعتبرها اشتراكية.
وبشأن انضمام الأرجنتين إلى مجموعة "بريكس"، أعلن ميلي رفضه لهذه الخطوة، وقال إنه في حال تم انتخابه سيحرص على عدم الانضمام.
وفي تغريدة عبر منصة "إكس"، تمنى الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي دعم المرشح الخاسر "ماسا" علناً، النجاح للحكومة الجديدة، دون أن يذكر ميلي، قائلاً: "ستكون البرازيل مستعدة دائماً للعمل مع أشقائنا في الأرجنتين".
واشنطن تهنئ وترمب "فخور"
وهنأت الولايات المتحدة ميلي على فوزه في الانتخابات، مشيدة بـ"الإقبال الكبير والسير السلمي لعملية التصويت".
وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في بيان، إن هذه الانتخابات هي "شهادة للمؤسسات الانتخابية والديمقراطية في الأرجنتين"، مضيفاً أن الولايات المتحدة "تتطلع إلى العمل مع الرئيس المنتخب ميلي وحكومته بشأن أولويات مشتركة".
من جهته، هنأ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، ميلي على انتخابه رئيساً للأرجنتين، معتبراً عبر شبكته الاجتماعية "تروث سوشال"، أنه سيعمل على "تغيير" بلاده.
وكتب ترمب موجهاً حديثه إلى ميلي: "أنا فخور جداً بك. ستغير بلدك وتجعل الأرجنتين عظيمة مرة أخرى".
ولاية رئاسية صاخبة
ترشَّح ميلي باعتباره ليبرالياً متطرفاً، ولكن دون الكثير من الدعم في البرلمان، ليس من الواضح مقدار التغيير الذي يمكنه إحداثه بالفعل، وفقاً لمقال رأي بموقع "أكسيوس".
ومن المرجح أن تكون فترة رئاسته صاخبة وفوضوية، ويرجع ذلك بالأساس إلى أن ميلي لا يحظى بدعم أي حزب رئيسي، وبالتالي لن يكون قادراً على تمرير تشريعات جوهرية.
وبينما اقترح ميلي إمكانية اللجوء إلى الاستفتاءات في محاولة للالتفاف على السلطة التشريعية الممثلة في البرلمان، فمن غير المرجح أن تجذب أفكاره الأكثر تطرفاً دعم الأغلبية.
وأشار كاتب المقال إلى أن الفوضى في الأرجنتين ليست بالشيء الجديد، فقد تخلفت البلاد بالفعل عن سداد ديونها الخارجية 9 مرات منذ عام 1827، وآخرها في 2020.
ويبدو أن التخلف عن سداد الديون الخارجية للمرة العاشرة شبه مؤكد، وذلك بالنظر إلى انخفاض قيمة عملة البلاد البيزو، إذ من الصعب سداد ديون مقوّمة بالدولار عندما تكون عملة بلادك في انخفاض مستمر.
وقف "الموجة اليسارية"
وبحسب آراء المحللين، فإن الأرجنتين بقيادة ميلي ستشهد تغيرات جذرية في ملفات عدة أهمها الاقتصاد والسياسة الخارجية للبلاد.
ووصف مراقبون لـ"الشرق"، أن خطة ميلي غير قابلة للتطبيق لسببين رئيسيين، الأول هو صعوبة تمرير مقترحاته في البرلمان، لأنه لا يمتلك الأكثرية (قادر على جمع 118 صوتاً من أصل 257)، والسبب الثاني هو سعيه إلى فرض تغير جذري في اقتصاد البلاد، وذلك من خلال تطبيق إجراءات عدة، مثل إغلاق البنك المركزي، و"دولرة الاقتصاد"، ووضع خطة تسمح بخفض كبير في الإنفاق العام، والتخلص من نفقات الدولة غير المنتجة مثل دعم للعوائل الفقيرة.
أستاذ الاقتصاد في جامعة بوينس آيرس بيدرو جونزاليس، يرى في حديث لـ"الشرق"، أن هذا التغير الاقتصادي، مع الوعود المثيرة للجدل ورفع سقف التوقعات يمكن أن يزيد تدهور الأزمة التي تمر بها البلاد. والقرارات المتعلقة بإغلاق البنك المركزي سيكون أمراً معقداً للغاية، فهو مؤسسة مالية عمرها قرن من الزمان.
بدوره، قال أستاذ العلاقات الدولية برونو بلكيني في حديث لـ"الشرق"، أن فوز ميلي سيوقف "الموجة اليسارية" في أميركا الجنوبية، حيث كانت 9 دول من أصل 12 تحت قيادة حكومات يسارية أو ذات توجه اشتراكي.
وأضاف أن بعد تنصيب ميلي، سيكون التشكيل التالي لدول أميركا الجنوبية (الأرجنتين، والإكوادور، وأوروجواي، وبارجواي) دول بحكومات يمينة، (بوليفيا، البرازيل، تشيلي، كولومبيا، بيرو، فنزويلا، غويانا، وسيرونام) حكومات يسارية.
ويرى بلكيني أن هذا التغيير سيؤثر على المستقبل السياسي والاقتصادي لعدد من دول المنطقة وبالأخص البرازيل، فالأرجنتين هي ثالث أكبر شريك تجاري للبرازيل، في عام 2022، ووصلت صادراتها إلى 15.34 مليار دولار واستوردت 13.10 مليار من البرازيل.
أما الجانب السياسي فانعكاسه سيكون مباشراً على الصراع المتصاعد بين اليمين بقيادة الرئيس السابق جاير بولسونارو، والذي يسعى إلى إزاحة الرئيس اليساري الحالي لولا دا سيلفا من سدة الحكم، مستفيداً من فوز ميلي، الذي أعلن مراراً عن دعمه لبولسونارو.
"العلاج بالصدمة"
وكانت وكالة "بلومبرغ"، أفادت بأن مقاربة "العلاج بالصدمة" التي تحدَّث عنها ميلي خلال حملته الانتخابية، تضع الأرجنتين على طريق من "عدم اليقين".
وحذَّر بعض الاقتصاديين من أن "دولرة الاقتصاد"، الذي يبلغ حجمه 622 مليار دولار، في وقت تعاني فيه الاحتياطيات الدولية من حالة من "النزيف الحاد" قد يدفع بالدولة الواقعة في أميركا اللاتينية باتجاه "نوبة أخرى من التضخم المفرط".
ودعا مسؤولو صندوق النقد الدولي، الحكومة المقبلة، إلى "سرعة إعادة ضبط الاقتصاد"، مشددين على أنه "لا يوجد وقت للسياسات التدريجية".
وتواجه الأرجنتين مدفوعات ديون خارجية بقيمة 22 مليار دولار خلال العام المقبل، من بينها فوائد مستحقة لحاملي سندات دوليين، وصندوق النقد الدولي، ما سيتطلب "فائضاً كبيراً في الحساب الجاري مع خطة لتحقيق الاستقرار"، وفقاً لرئيس وحدة أبحاث أميركا اللاتينية في معهد التمويل الدولي مارتن كاستيلانو.