تواترت على مدى الأيام والأسابيع الماضية الأخبار عن انقسام داخل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على خلفية المقاربة التي اعتمدها في الأزمة الأخيرة بالشرق الأوسط والدعم الذي قدمه لإسرائيل خصوصاً خلال الأيام الأولى من الأزمة والذي وصف باللامحدود.
بدأ ذلك في 18 أكتوبر الماضي عندما أعلن جوش بول، مدير الشؤون العامة بمكتب الشؤون السياسية العسكرية في وزارة الخارجية الأميركية استقالته بعد 11 عاماً في منصبه، وذلك في رسالة مفتوحة نشرها على موقع "لينكد إن" شرح فيها حيثيات القرار الذي قال إنه جاء على خلفية ما أسماه "الدعم الأعمى" لإسرائيل من قبل إدارة بايدن، والذي كان يؤدي إلى قرارات سياسية قصيرة النظر ومدمرة، وتتناقض مع القيم المعتمدة علناً.
تلت استقالة جوش بول تقارير عن برقية معارضة داخلية أعدتها مجموعة من الدبلوماسيين تنتقد سياسة بايدن تجاه إسرائيل، في إجراء داخلي معتمد منذ حرب فيتنام، وهي وسيلة تسمح للموظفين بالتعبير بحرية عن استيائهم بشأن مقاربات سياسية معينة دون خوف من أي رد فعل.
وفي 3 نوفمبر، أوردت صحيفة "فورين بوليسي"، أن المئات من موظفي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، وجهوا رسالة إلى إدارة بايدن دعوا فيها إلى وقف فوري لإطلاق النار، عندما كانت الحرب في أسبوعها الرابع، وكان عدد الضحايا في غزة 9 آلاف، وارتفع العدد حالياً إلى قرابة 15 ألفاً، ناهيك عن مئات الآلاف من النازحين.
كذلك وردت تقارير عدة عن اجتماعات عقدها كبار المسؤولين في البيت الأبيض والخارجية مع الموظفين للاستماع إلى هواجسهم، خصوصاً بعد وصول البعض إلى حد التعبير علناً عن معارضتهم لهذه السياسات عبر حساباتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه المواقف قابلتها إدارة بايدن بتغير تدريجي في المقاربة اللغوية واتخاذ بعض الخطوات، من دون أن يرقى إلى تغير كبير في السياسة، أو إلى دعوة إسرائيل لوقف لإطلاق النار كما طالب البعض من داخل الإدارة.
ورد المتحدث باسم الخارجية الأميركية علناً على سؤال بشأن هذه الاعتراضات داخل الوزارة، معتبراً أن إحدى نقاط القوة في وزارة الخارجية هي الآراء المختلفة للعاملين، مشيراً إلى أن الوزارة تشجعهم على التعبير عن آرائهم.
انقسام فعلي أم اجتهادات؟
المرة الأخيرة التي يتذكر فيها الأميركيون انقساماً حاداً وصارخاً في معالجة مسألة في السياسة الخارجية، كانت قبل 43 عاماً، عندما قدم وزير الخارجية الأميركي الأسبق سايروس فانس استقالته للرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر، بسبب معارضته للمهمة الفاشلة في إنقاذ الرهائن الأميركيين الذين احتجزتهم إيران عام 1979.
وفي الماضي القريب أيضاً، ولكن في سياق مختلف كذلك، قدم وزير الدفاع الأميركي الأسبق جيمس ماتيس استقالته للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، على خلفية نيته الانسحاب من سوريا والتخلي عن الأكراد في تلك المنطقة، وقال موجهاً حديثه لترمب: "لأنه يحق لك أن يكون لديك وزير دفاع تتوافق آراؤه مع آرائك، أعتقد أنه من الأفضل أن أتنحى عن منصبي".
ويقول المدير الإداري لمعهد واشنطن مايكل سينج لـ"للشرق"، إن العاملين في الوكالات الفيدرالية هم صورة مصغرة للشعب الأميركي، ومثلما يتسبب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في حدوث استقطاب بين الجمهور الأميركي الأوسع، فإنه يثير آراء قوية داخل الحكومة، مشيراً إلى أنه ليس من المستغرب أيضاً أن يكون واضحاً أكثر داخل الإدارة الديمقراطية الحالية، أن الدعم لإسرائيل بين اليسار انخفض بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
ما حصل داخل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن - باستثناء استقالة جوش بول، وهو ليس من كبار المسؤولين – هي حملة اعتراضات داخلية، لم يرق التعبير عنها علناً إلى كبار الموظفين.
ولم تسجل حتى الآن أي اعتراضات من قبل وزير الخارجية أو فريقه المباشر، ولا على مستوى مستشار الأمن القومي ونائبه أو كبار الموظفين أو في وزارة الدفاع، ولم تشهد الإدارة استقالات جماعية.
كما أن الأمر اقتصر غالباً على الموظفين الذين قدموا مع فريق الرئيس، أو هؤلاء الذين يتعاملون مع البرقيات القادمة من السلك الدبلوماسي العامل في منطقة الشرق الأوسط.
وانطلاقاً من هذا يقول مايكل سينج، إن الأمثلة الماضية على حصول انشقاق على السياسات داخل الإدارة كانت أكثر خطورة، قائلاً إن حرب العراق، أدت على سبيل المثال، إلى العديد من الاستقالات، في حين لم تنتج الأزمة الحالية سوى استقالة واحدة فقط، مستبعداً أن يكون هناك تأثير للمعارضة الداخلية على صنع السياسات، خصوصاً أن من عبروا علناً عن آراء معارضة ليس لديهم مسؤوليات عالية داخل الإدارة.
وكان لافتاً أن رد الرئيس الأميركي العلني للمرة الأولى على الاعتراضات، جاء رداً على مطالبة عضو مجلس الشيوخ التقدمي بيرني ساندرز بجعل المساعدات العسكرية لإسرائيل مشروطة بإنهاء القصف العشوائي على غزة وتجميد الاستيطان في الضفة الغربية، قائلاً إنها فكرة جديرة بالاهتمام.
كما أنه قارب مسألة الإسلاموفوبيا مثلاً بعد قتل طفل فلسطيني عمره 6 سنوات في شيكاغو طعناً هو ووالدته لأنهما مسلمان، وقال بايدن في 20 أكتوبر الماضي، إن ما حصل لا يمكن الصمت عليه، وإنه يجب إدانة معاداة السامية والإسلاموفوبيا معاً بشكل لا لبس فيه.
وبعد تشكيكه في 25 أكتوبر بأعداد الضحايا الفلسطينيين الذين تعلن عنهم وزارة الصحة بقطاع غزة، استقبل البيت الأبيض في اليوم التالي 5 أميركيين مسلمين، اعترضوا على تصريحاته.
وفي هذا يبدي سينج اعتقاده بأن البيت الأبيض مهتم بالرأي العام الأميركي وبرأي الكونجرس والحلفاء في الخارج أكثر بكثير من اهتمامه بما ظهر داخل الإدارة.
ويشار هنا إلى أن هذه الاعتراضات تندرج ضمن 3 فئات:
الفئة الأولى:
تشمل معترضين على أساس قيمي، أي من يعارضون ما يعتبرونه ازدواجية في المعايير بشأن التعامل مع الفلسطينيين والإسرائيليين، وهم الفئة الأولى التي رفعت صوتها، والتي تضم من بين ما تضم جوش بول، بالإضافة إلى كثيرين من الفئات الشابة والتقدمية.
وقد أبدت الإدارة استعدادها للاستماع إلى وجهات نظر هؤلاء عبر القنوات المعمول بها من دون أن تشهد سياستها أي تغيير يذكر.
الفئة الثانية:
تتمثل في أعضاء السلك الدبلوماسي، وبمن يتلقون البرقيات من السفارات الأميركية العاملة في الخارج، والذين يعتبرون أن سياسة الإدارة الحالية ستلحق الضرر بسمعة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وأشارت برقية مرسلة من السفارة الأميركية في عمان حصلت عليها قناة CNN، أن الدعم القوي للحملة العسكرية الإسرائيلية يفقد الولايات المتحدة جيلاً كاملاً من العرب، فيما نقلت برقية أخرى من السفارة الأميركية في القاهرة تعليقاً من إحدى الصحف المصرية يعتبر أن تجاهل الرئيس الأميركي للفلسطينيين تجاوز كل الرؤساء السابقين.
وهذه البرقيات التي يبدو مضمونها أيضاً متعارضاً مع السياسة العلنية للولايات المتحدة، ليست جديدة، فقد شهدتها الولايات المتحدة سابقاً في العديد من الأزمات.
ونظراً لأن الكثير من الكتب السياسية توثق الخلافات التي تسجل بين الأجهزة والوكالات الفيدرالية، يبدو سياق هذه البرقيات اعتيادياً.
الفئة الثالثة:
هي تلك التي تعتبر أن سياسة الإدارة ستؤدي إلى خسارة الديمقراطيين للأميركيين العرب والمسلمين، خصوصاً في مشيجان وفيرجينيا وويسكونسن وأيضاً للفئات الشابة التي سجلت اعتراضها على سياسة بايدن تجاه إسرائيل عبر الكثير من استطلاعات الرأي.
وفي بداية نوفمبر الجاري، أعلن البيت الأبيض عن استراتيجية لمواجهة الإسلاموفوبيا، لكن الرئيس الأميركي بقي حتى 18 نوفمبر على الأقل يرفض الدعوة لإطلاق نار شامل، كما جاء في مقال رأي نشره في صحيفة واشنطن بوست.
وتراهن إدارة بايدن على أن الوقت المتبقي على الانتخابات من شأنه أن يعيد ترتيب الأوراق، كما يحصل تاريخياً، من دون أن يكون ذلك دقيقاً هذه المرة.