بعد سنوات من الجدل بشأن دور وتأثير تطبيق "تيك توك" على الأمن القومي للولايات المتحدة، جاء قرار مجلس النواب الأميركي بإجبار شركة "بايت دانس" الصينية، المالكة للتطبيق على بيعه خلال 180 يوماً أو المخاطرة بحظره من متاجر التطبيقات في البلاد، كأحدث مثال على التوترات المتزايدة بين بكين وواشنطن.
ووافق مجلس النواب الأميركي بأغلبية وصلت إلى 352 صوتاً مقابل 65، الأربعاء، على تشريع يهدف إلى إجبار "بايت دانس"، على بيع "تيك توك" باعتباره يمثل تهديداً للأمن القومي، لأنه يضع بيانات أكثر من 170 مليون أميركي، في متناول الصين.
في المقابل انتقدت بكين القرار وتعهدت بأنها "ستتخذ جميع الإجراءات اللازمة" لحماية مصالح شركاتها في الخارج. واصفة الخطوة الأميركية بأنها عقلية "قطاع الطرق"، إذ اعتبرت أن تصويت مجلس النواب يتعارض مع مبادئ المنافسة العادلة والقواعد الاقتصادية والتجارية الدولية، بحجة مخاوف الأمن القومي.
واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانج وينبين، في مؤتمر صحافي، الخميس، تصويت النواب الأميركي للبيع القسري أو الحظر بأنه "تعسفي".
وقال: "عندما يرى شخص ما شيئاً جيداً يمتلكه شخص آخر ويحاول أن يأخذه لنفسه، فهذا هو منطق قاطع الطريق تماماً"، مطالباً الولايات المتحدة باحترام مبادئ اقتصاد السوق والمنافسة العادلة.
وبينما تتصاعد وتيرة التوترات بين بكين وواشنطن، اعتبر محللون أميركيون تحدثوا لـ"الشرق"، أن تصويت مجلس النواب من أجل حظر "تيك توك" يمثل أحدث تطور للحرب الباردة الدائرة منذ سنوات بين البلدين بشأن السيطرة على قطاع التكنولوجيا بما يحويه من رقائق الكمبيوتر إلى الذكاء الاصطناعي.
وفي الوقت الذي رجح فيه الخبراء أن العلاقات بين واشنطن وبكين ستتأثر أكثر، إذا تم التوقيع على التشريع ليصبح قانوناً، إلا أنهم توقعوا أن تكون التداعيات محدودة نظراً لتدهور العلاقة في الأساس.
مخاوف أمن قومي
العلاقة الصينية الأميركية، شهدت توتراً كبيراً في الآونة الأخيرة، فيما يتعلق بقضايا التكنولوجيا والتجارة، ولكن التحرك بشأن "تيك توك"، يعد هو أحدث الردود الأميركية على المخاوف المتعلقة بالأمن القومي.
وفي عام 2020، حاول الرئيس الأميركي (الجمهوري) السابق دونالد ترمب، حظر "تيك توك"، مستنداً إلى مخاوف أمنية، لكن ذلك الجهد باء بالفشل.
وعلى الرغم من أن المشرعين الأميركيين لم يظهروا أي دليل في 2024 على استخدام الحزب الشيوعي الصيني لـ"تيك توك" كتهديد للمصالح الأميركية، إلا أنهم جادلوا بأن التطبيق يُستخدم من قبل الحكومة الصينية للحصول على بيانات الأميركيين والتجسس عليهم، والترويج للدعاية المؤيدة للصين.
المديرة المشاركة في برنامجي "شرق آسيا" و"اليابان" بمركز "ستيمسون"، يوكي تاتسومي، رجّحت في حديث مع "الشرق"، أن خطوة الكونجرس الأميركي تعكس "عمق القلق في واشنطن من الصين".
وقالت تاتسومي إن الولايات المتحدة كانت قلقة منذ فترة طويلة بشأن هذه التطبيقات التكنولوجية التي تمتلكها شركات صينية، والتي تُستخدم بنشاط من قبل حكومة بكين لجمع المعلومات بشأن سلوك المواطنين الأميركيين.
وأوضحت أن "القلق يتزايد بشأن استخدامات الحكومة الصينية للمعلومات التي جمعتها في عمليات تضليل. ما أدى إلى تصاعد الضغط على (تيك توك) في الولايات المتحدة لقطع العلاقات بشكل كامل مع شركتها الأم في بكين منذ فترة طويلة".
وذكرت تاتسومي أن الحكومة الصينية تتفاعل، بالفعل، بقوة مع التصرفات الأميركية، "وسيؤدي ذلك إلى زيادة التوتر الموجود بين البلدين.. وسواء أسميتها الحرب الباردة الجديدة أو المنافسة الاستراتيجية، فإن هذا يعكس بالتأكيد الأجواء المتوترة التي تحيط بالعلاقات بين الولايات المتحدة والصين".
"شيطنة الصين وعزلها"
بدوره، اعتبر أستاذ التاريخ السياسي ومدير معهد الدراسات النووية في الجامعة الأميركية، بيتر كوزنيك، في حديث لـ"الشرق"، أن مؤيدي الحظر كانوا صادقين بشأن أسبابهم فيما يتعلق بالتهديد المتمثل في وصول الصينيين إلى المعلومات الخاصة لمستخدمي "تيك توك"، وإمكانية استخدامه لنشر الدعاية الصينية.
وأضاف كوزنيك: "إذا قرأت التفاصيل الدقيقة، فإنها تمنح الحكومة الأميركية، أيضاً، سلطة موسعة للسيطرة على جميع وسائل التواصل الاجتماعي".
ولفت إلى أن "المؤيدين قاموا بتسريع هذا التشريع بعد إحاطات خاصة من مجتمع الاستخبارات"، معتبراً أن ذلك "جزءاً من جهد مستمر لشيطنة الصين وعزلها، وهو ما يسعد معظم الجمهوريين والديمقراطيين بالقيام به".
وبالرغم من أن بعض المؤيدين يشعرون بقلق صادق إزاء التأثيرات المدمرة التي يخلفها تطبيق "تيك توك" على الصحة العقلية للمراهقين الأميركيين، إلا أن كوزنيك يرى أن هذه المخاوف تنطبق بالتساوي على جميع وسائل التواصل الاجتماعي غير الصينية أيضاً، "والتي ينبغي السيطرة عليها جميعاً بالتساوي".
وبشأن خطاب نائب رئيس "تيك توك" للسياسات الخارجية، مايكل بيكرمان، لرعاة مشروع القرار، الذي قال فيه: "هذا التشريع الأخير الذي تم التعجيل به بسرعة غير مسبوقة دون الاستفادة من جلسة استماع عامة، يثير مخاوف دستورية خطيرة"، وهو الأمر الذي وافقه كوزنيك بشأن احتمالية أن يكون هذا الإجراء غير دستوري بالفعل، متوقعاً إذا تم تمريره، أن يكون المديرين التنفيذيين للشركة مستعدون لممارسة مجموعة واسعة من التحديات القانونية في المحاكم.
وذكر كوزنيك أنه في عام 2020، بدت الصين مستعدة لبيع "تيك توك" تحت ضغط الحكومة الأميركية، لكن الأمر فشل. معتقداً أنهم، الآن، سيكونون أكثر ميلاً إلى فرض حظر متبادل على التكنولوجيا الأميركية، "ما يزيد من تفاقم الحرب التجارية التي بدأتها الولايات المتحدة في عهد ترمب، لكن ذلك لم يقوض حقاً التجارة الصحية بين البلدين.. ليس لديهم أي رغبة في منح الأميركيين إمكانية الوصول إلى خوارزمية تيك توك الفريدة والقوية".
كما اعتبر أن مشروع قانون الحظر يشكل سابقة، لافتاً إلى أنه "أمر يدعو للقلق فيما سيحدث بعد ذلك". وقال إن الأميركيين رأوا الطريقة التي استخدمت بها الحكومة المخاوف الأمنية بعد أحداث 11 سبتمبر لتوسيع نطاق دولة الأمن القومي من خلال قانون "باتريوت" أي قانون مكافحة الإرهاب، "وأشكال المراقبة الأخرى".
وأشار كوزنيك أيضاً إلى أن الأميركيين يتمتعون الآن بخصوصية أقل بكثير مما كانوا عليه قبل 25 عاماً، "ومع ذلك، هناك حاجة لوضع بعض القيود على جميع شركات وسائل التواصل الاجتماعي. لكن تخصيص (تيك توك) لمعاملة خاصة يعد نهجاً خاطئاً وخطيراً".
الحرب الباردة "تسخن"
وأوضح كوزنيك أن مواجهة الصين هي أولوية الولايات المتحدة، معتبراً أن إستبدال وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، بكيرت كامبل المتشدد تجاه الصين، بأنها أكثر التطورات الأخيرة إثارة للقلق فيما يتعلق بالعلاقات بين واشنطن وبكين.
كما أرجع التصعيد الأميركي الأخير ضد الصين، إلى الوضع اليائس في أوكرانيا، وقال إنه مع زيادة احتمالية النصر الروسي ضد كييف، جزئياً، بسبب معارضة الدعم العسكري الأميركي المستمر من قبل العديد من الجمهوريين الذين دعموا مشروع قانون "تيك توك"، يبدو أن كلا الحزبين مستعدان لإعادة التركيز على الصين، والتي يرونها كلاهما كتهديد "متسارع" للهيمنة العالمية للولايات المتحدة.
وجادل كوزنيك في أنه بينما يشكل العمل على حظر "تيك توك" أحدث تطور في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين بشأن من يسيطر على التكنولوجيا القيمة من رقائق الكمبيوتر إلى الذكاء الاصطناعي، فإن النتيجة المقلقة، على حد قوله، هي أن الحرب الباردة "تسخن"، ما يشكل تهديداً خطيراً، "على الصينيين والأميركيين وعلى بقية الكوكب على حد سواء".
حرب كلامية
مشروع القانون الذي يُطلق عليه رسمياً "حماية الأميركيين من التطبيقات الأجنبية الخصمة الخاضعة للرقابة"، يواجه طريقاً صعباً في مجلس الشيوخ، حيث لم يقر زعيم الأغلبية السيناتور تشاك شومر، طرح الأمر بعد للتصويت. ويحتاج مشروع القانون إلى موافقة المجلس حتى يوقع الرئيس بايدن عليه.
وفي الوقت الذي لفت فيه الخبراء إلى أن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين متدهورة، رجّحوا أن تكون التداعيات من جانب بكين على قرار النواب الأميركي ستكون محدودة، خاصة بسبب القيود المفروضة من قبل الصين على التطبيقات الغربية.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة سنغافورة الوطنية، جا إيان تشونج، اعتقد في حديث لـ"الشرق"، أن الاستجابة الصينية لن تتخطى "الحرب الكلامية"، وربما بعض الأعمال الانتقامية، لكنه استبعد أن يصعد الصينيون الموقف، حتى لا يؤدي ذلك إلى زيادة الاعتقاد بأن الحكومة الصينية تعمل على دعم "بايت دانس" و"تيك توك" على خلاف ما تدعيه.
واعتبر إيان أن سحب الاستثمارات أو حظر "تيك توك" هو جزء من المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، "لكن وسائل التواصل الاجتماعي والتبادلات التكنولوجية لم تكن سمة من سمات الحرب الباردة. ربما يؤدي سحب الاستثمارات أو حظر تيك توك إلى مزيد من الانفصال بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية، وهو أمر تتطلع كلتا القوتين الرئيسيتين إلى القيام به على أي حال".
ولا يستبعد إيان أن تواجه التطبيقات الصينية الأخرى الحظر، لكنه أكد أنه لا يوجد تطبيق آخر أثار الجدل مثل"تيك توك"، واستشهد بتطبيقات صينية أخرى أقل إثارة للجدل، مثل "وي تشات" وهو تطبيق يوازي "فيسبوك" ويتيح بث الرسائل إلى جمهور أوسع، ويستخدمه نحو مليون مستخدم في الولايات المتحدة، وتطبيق "ويبو"، وهو مدونة صغيرة تتيح التواصل مع الأصدقاء والعثور على الأخبار والمعلومات من مصادر مختلفة، وتمت مقارنته بـ"إكس"، ويستخدمه عشرات الآلاف أيضاً.
وذكر إيان تورط "تيك توك" في تتبع حسابات صحافيين، "بناءاً على طلب من الصين"، ففي عام 2022 اعترفت شركة "بايت دانس" بأن موظفين سابقين وليس مسؤولين حكوميين قاموا بمراقبة الأميركيين على "تيك توك"، بما في ذلك العديد من الصحافيين الذين كانوا يكتبون تقارير نقدية عن الشركة- بحسب CNN.
وكانت الصين، رفضت قرار الحظر، وتعهدت باتخاذ التدابير اللازمة لحماية مصالحها في الخارج.
والمفارقة، أن بكين حظرت، أخيراً، "فيسبوك" و"إكس" المملوكين لشركة "ميتا" الأميركية، كجزء من حملة حكومية ضد النشطاء، تحت شعار "جدار الحماية العظيم للصين"، وهو ما اعتبره الأستاذ في برنامج الصين بمعهد الدراسات الدفاعية والاستراتيجية، كلية "إس. راجاراتنام للدراسات الدولية" في سنغافورة، بنجامين تزي إرن، أمراً مثيراً للسخرية.
واستنكر إرن القرار في حديث لـ"الشرق"، مشيراً إلى أن الصينين ليسوا سعداء بقرار حظر "تيك توك". وقال إن بكين ترفض التعامل بالمثل، فقد حظرت منتجات "ميتا" و"جوجل" و"إكس" لفترة طويلة، "حتى أن تيك توك نفسه غير مسموح به داخل "جدار الحماية العظيم"، وتسمح الحكومة بنسخة محلية منه تسمى "دوين".
واعتبر إرن أن العلاقات سيئة للغاية بين الصين والولايات المتحدة لدرجة أنه قضية "تيك توك" لن تحرك الأمور بشكل كبير.
"مثال على الحرب الباردة"
واعتبر الخبراء أن العمل على حظر "تيك توك" يشكل أحدث تطور في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين بشأن من يسيطر على التكنولوجيا القيمة من رقائق الكمبيوتر إلى الذكاء الاصطناعي.
وصنف الزميل في برنامج إعادة تصور الإستراتيجية الأميركية الكبرى التابع لمركز "ستيمسون"، جيمس أ. سيبينز، ما يحدث من تصويت أميركي لحظر "تيك توك" بأنه مثال على الحرب الباردة بين البلدين.
وقال سيبينز لـ"الشرق"، إن الولايات المتحدة تفكر في الطرق التي يمكنها بها مواجهة قدرة الصين على التأثير في الحوار السياسي في البلاد، حيث تزعم أن "تيك توك" هو وسيلة يمكن من خلالها لجمهورية الصين الشعبية جمع معلومات عن مواطنين أميركيين وتوزيع أو توجيه محتوى سياسي مؤثر للجماهير.
وأضاف أن الصين، بالفعل، تقيد وصول مواطنيها إلى الإعلام الأميركي الغربي، الذي يعتبر أداة للقوة الناعمة، "لذا، الجدل بشأن استخدام وملكية تيك توك هو مثال على الحرب المعلوماتية، وحرب الرأي العام، والحرب القانونية بين الصين والولايات المتحدة".