مواجهة مفتوحة أم مغامرة محسوبة.. ماذا بعد تغيير قواعد الاشتباك بين إيران وإسرائيل؟

رجل يمشي بالقرب من لافتة تجسد إطلاق صواريخ تحمل ألوان العلم الإيراني من مجسم لخريطة إيران. طهران، إيران. 15 أبريل 2024 - AFP
رجل يمشي بالقرب من لافتة تجسد إطلاق صواريخ تحمل ألوان العلم الإيراني من مجسم لخريطة إيران. طهران، إيران. 15 أبريل 2024 - AFP
دبي-عبد السلام الشامخيوسف تفروين

نفذت إيران، وعدها بالرد على إسرائيل التي استهدفت قنصليتها في العاصمة السورية دمشق، ورغم أن هذا الرد جاء "دون المتوقع" من حيث نتائجه، إلا أنه قد يرسي الأساس لقواعد اشتباك جديدة وتحولاً نحو "مواجهة مفتوحة"، بين طهران وتل أبيب، بعد سنوات من حرب ظل، لم تهاجم فيها إسرائيل الأراضي الإيرانية مباشرة، كما لم تهاجم إيران الداخل الإسرائيلي ناهيك عن انطلاق هجوم من داخل أراضيها.

وفيما أثارت نتائج هذا الرد العسكري تساؤلات بشأن ما إذا كانت طهران قد تعمدت بالفعل أن تكون أضراره محدودة أم أنه يعكس واقع سقف القدرات العسكرية الإيرانية، دارت تساؤلات بشأن ما يعنيه هذا التطور بالنسبة لقواعد الاشتباك بين الطرفين، بالنظر إلى الشكل الجديد لهذا العمل العسكري الذي انطلق من الأراضي الإيرانية للمرة الأولى.

وبالرغم من أن الدفاعات الإسرائيلية، مؤازرة بحلفائها الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين، تصدّت بشكل شبه كلي لهذه الهجمات التي استخدم فيها ما يزيد عن 300 طائرة مسيرة وصاروخ، إلا أن مشهد الصواريخ، وهي تحلق فوق تل أبيب والقدس المحتلة، بدا وكأنه تقديم لحرب شاملة تلوح في الأفق.

ولا يمكن مقاربة كل هذه التفاصيل دون استحضار الظروف التي جاء فيها الفعل والرد عليه، إذ يأتي في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل بدأت تفقد الدعم الشعبي في الغرب، وبدأت تجر عليها انتقاد بعض قادته، وإدانة آخرين، وإلى وقت قريب، بدا أن الرئيس الأميركي جو بايدن، أبرز حلفاء إسرائيل وداعميها، قد بدأ يعيد التفكير بشأن دعمه المطلق واللا مشروط لتل أبيب في الحرب التي تشنها على غزة بلا هوادة.

"غياب عنصر المفاجأة"

الباحث الاستراتيجي نائب رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية أحمد القرني، قال في حديث مع "الشرق" إن الهجوم الإيراني كان مصمماً فقط ليعكس قدرات إيران على الردع، وأنها قادرة، لو أرادت، على ضرب إسرائيل وكسر حاجز الصمت الطويل من عدم الرد على الاغتيالات والهجمات الإسرائيلية في الداخل الإيراني وكذلك كسب الرأي الداخلي والإقليمي والحفاظ على مصداقيتها خاصة أمام حلفائها من الميليشيات الشيعية و"حماس" في المنطقة.

وأوضح أن العديد من أبجديات الحروب غابت عن هذا الهجوم، وفي مقدمتها عنصر المفاجأة، كما أنه لم يلحق أضراراً كبيرة بإسرائيل، ولكن مع ذلك يبقى منعرجاً سياسياً بدلالات استراتيجية كبيرة باعتباره يؤرخ لأول مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل.

وبحسب القرني، فإن الهجمات الإيرانية، التي دامت لنحو 5 ساعات متواصلة، "افتقدت لأهم عناصر تحقيق الأهداف العسكرية في الحروب، والذي ميز هجمات السابع من أكتوبر على جنوب إسرائيل، ألا وهو عنصر المباغتة والسرية، الذي من شأنه شلّ قدرة الخصم على وضع سيناريو معين للجهوزية والمواجهة بما يقلل الأضرار المصاحبة".

واعتبر الخبير الاستراتيجي أن الهجمات الإيرانية لم تحقّق أهداف توازن الرعب والردع، ولن تجبر إسرائيل على إعادة النظر في حساباتها من الاستمرارية في تنفيذ هجمات مماثلة ضد الأهداف الإيرانية في المستقبل.

وأورد أن "الهجوم كان فاشلاً من الناحية العسكرية، ولكنه سياسياً، يعتبر انتقال إلى مستوى أعلى في قواعد الاشتباك، وبالتالي فإن الانتقال إلى مستوى أعلى آخر يبقى وارداً على الأقل ضمن أسوأ السيناريوهات. 

وبشأن مشاركة الولايات المتحدة في صد الهجمات الإيرانية، قال إن "الهجوم الإيراني على إسرائيل يخدم الرئيس بايدن من ناحيتين؛ فمن الناحية الأولى، فإنه من خلال مشاركة الولايات المتحدة في التصدي للهجمات والتأكيد على الوقوف الدائم إلى جانب إسرائيل يحافظ بايدن على أصوات المؤيدين لإسرائيل بشكل عام، وإن كان المرشح الجمهوري دونالد ترمب لم يفوت فرصة الاستثمار في الحدث بتوجيه انتقادات لبايدن الذي أظهر -على حد زعمه- ضعفاً سمح بحصول الهجوم، وأنه لو كان في السلطة لما وقع ذلك أساساً".

ومن ناحية ثانية، يضيف القرني، فإن بايدن يوظف الهجوم الإيراني لممارسة المزيد من الضغوط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والفريق المحيط به الذي يطالب بتوسيع الحرب عبر الهجوم على رفح للتوصل إلى صفقة ووقف الحرب، إذ أفادت تقارير إعلامية أن الرئيس الأميركي أوضح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بأن الولايات المتحدة لن تشارك في أي هجوم إسرائيلي ردا على الهجوم الإيراني.

"قواعد اشتباك جديدة"

في حديثه مع "الشرق"، أكد الخبير الاستراتيجي والعسكري العميد سمير راغب أن استهداف إسرائيل من الأراضي الإيرانية، وهو فعل "غير مسبوق" جاء ليس لرغبة إيران في ذلك، لكن لأن طهران كانت مجبرة على الرّد بنفسها؛ لأن الرد بالوكالة يسقط صورة إيران في عيون المؤيّدين والحلفاء، خصوصاً ما يطلق عليه "معسكر المقاومة"، كما أن الحسابات تعكس خطورة الرد من خلال "حزب الله" نتيجة التداعيات الخطيرة المحتملة.

وأضاف العميد راغب: "من خطّط للهجوم يعلم مسبقاً أنه لن يحقق خسائر مادية لإسرائيل، بقدر ما كان يبحث عن تحقيق مكاسب سياسية؛ كون أن طهران قادرة على الرد عسكرياً، بالأصالة في العمق الإسرائيلي".

وبحسب المتحدث، فإن "الرد الإيراني يُظهر أن البرنامج الصاروخي بلغ نضجه في المدى والدّقة، ويمكنه تخطّي مسافة الـ1200 كم، وقد يصل إلى 2500 كم، سواء الصواريخ البالستية أو الكروز، أما بالنسبة للمسيرات (شاهد)، فهي معروفة من خلال صراعات أخرى كالصراع الروسي الأوكراني، وتقريباً تم إسقاطها بنسبة 99% خارج المجال الجوي الإسرائيلي.

وشدّد على أن "ما حدث قد يكون خروجاً عارضاً عن قواعد الاشتباك التقليدية، وقد يتحوّل إلى إرساء قواعد اشتباك جديدة، وذلك يتوقف على قرار إسرائيل بالرد من عدمه، وطبيعة الرد".

في المقابل، يرى الخبير العسكري والاستراتيجي عمر الرداد في حديث مع "الشرق" أن "إيران حافظت على قواعد الاشتباك نفسها في حربها ضد إسرائيل، وقد كانت مضطرة لشنّ هذا الهجوم، لأسباب داخلية مرتبطة بالرأي العام الإيراني، بدلالة أن هذه العملية التي تشبه إلى حد كبير عملية الرد على اغتيال قاسم سليماني عام 2020، بحيث لم يسقط أيّ جندي أميركي، وهي سمة العمليات التي تنفذها إيران بالمنطقة، أنها تقتل كل الأطراف إلا الأميركيين والإسرائيليين".

وتعمّدت إيران قبل الهجوم، إخطار واشنطن وعدد من العواصم العربية والغربية، بتوقيت الرد وطبيعته، وبأنها لن تصيب الأهداف المدنية والاقتصادية، وأن ردها سيكون محدوداً نسبياً، منتهكةً بذلك مبدأ أساسياً في العمليات العسكرية، وهو "عنصر المفاجأة". 

ويرى الرداد أن الرد الإسرائيلي المحتمل لن يكون بحجم الرّد الإيراني وبهذه الصورة التي ردت بها طهران، التي أرادت أن ترسل رسائل إعلامية، وربما سياسية لجماهيرها أكثر من كونها رد حقيقي يغير من قواعد الاشتباك".

وبحسب الرداد، فإن السيناريو المرجّح هو استمرار قيام إسرائيل بعمليات ضد المليشيات التي تتبع لإيران في سوريا والعراق، بالإضافة إلى ذلك ربما نشهد عمليات نوعية ذات طابع أمني واستخباراتي داخل إيران نفسها، التي أصبحت ساحاتها مكشوفة ومخترقة من قبل الإسرائيليين، وفق قوله.

"مكاسب عسكرية"

كان التدخل الأميركي والفرنسي والبريطاني في صدّ الهجوم الإيراني حاسماً في نجاح إسرائيل التكتيكي، فمن خلال نشر طائرات مقاتلة اعتراضية وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع إسرائيل بشأن الأنشطة العسكرية الإيرانية قبل وأثناء الهجوم، أظهرت الولايات المتحدة وحلفاؤها أن استقرار إسرائيل "لا يمكنه أن ينفصل عن استراتيجية واشنطن"، التي تسعى إلى مواجهة المد الإيراني في المنطقة.

وتسعى واشنطن، أكبر مزوّد لإسرائيل بالسلاح، لثني إسرائيل عن التصعيد، وهي تدفع باتّجاه وضع حد للحرب التي تشنها تل أبيب على غزة. وتواجه إسرائيل الآن المعضلة نفسها التي واجهتها إيران قبل هجومها؛ وهي كيفية الرد للحفاظ على رادعها، ولكن دون التسبب في مواجهة واسعة النطاق مع إيران.

وقالت واشنطن إنها لن تشارك في أي رد إسرائيلي محتمل على إيران، وقد حضّ بايدن نتنياهو على "التفكير ملياً" في مخاطر أي تصعيد.

ويرى الرداد أن إسرائيل حققت مكسباً عسكرياً مهماً، حيث بات يُنظر إليها اليوم على أنها "مستهدفة"، كما أثبتت قدرتها على إسقاط كافة الطائرات والصواريخ الموجّهة. أما بالنسبة لإيران، فقد أرسلت رسالة مفادها أنه بإمكانها الوصول إلى الأراضي الإسرائيلية وتحقيق ضربات، ربما جاءت هذه المرة بأسلحة غير نوعية، واحتفظت إيران بأسلحة أخرى لديها وصواريخ ربما أكثر دقة، وطائرات مسيرة أخرى، غير تلك التي تم استخدامها، وهي "شاهد 36".

وقال إن "إسرائيل حققت الكثير من المكاسب العملية، فهي اليوم تبدو أكثر قوة، وستنهال عليها المساعدات العسكرية الأميركية، مع اكتسابها ضوءاً أخضر لتنفيذ المزيد من العمليات، وتبرير ذلك بأن إيران تستهدفها، وإن كانت هناك شكوك سابقة بشأن تعاون إيران وحلفائها بالمنطقة، وتوجيهها لتنفيذ عمليات ضد إسرائيل.

وتابع قائلاً: "اليوم السردية الإسرائيلية تعود إلى المربع الأول، الذي بدأ في السابع من أكتوبر، بأن إيران وحلفائها يريدون تدمير إسرائيل، وهذا سيجلب الدعم المؤكد للحكومة الإسرائيلية، وسيتيح لنتنياهو إنتاج نفسه بصورة أو بأخرى"، وفق قوله.

وعند سؤاله بشأن ما إذا كان الهجوم الإيراني قد "صُمّم ليَفشل" أم يعكس سقف القدرات الإيرانية، اعتبر الرداد أن "القدرات الإيرانية ليست بالمستوى الذي يتم الحديث عنه وتصويره من قبل طهران"، مشيراً إلى أن إرسال "مئات الطائرات وعشرات الصواريخ" جعل إيران في حالة "انكشاف"، مؤكداً أن "قدرات الدفاعات الجوية الإسرائيلية والأميركية قادرة على إسقاط هذه المسيرات والصواريخ لاسيما، وأنها (إيران) لا تمتلك تكنولوجيا تنافس، أو تضاهي التكنولوجيا الإسرائيلية والأميركية".

وخلص الرداد إلى أن المسيرات الإيرانية تصدر أصواتاً خلال مسيرها، خصوصاً "شاهد 36"، وقال: "حتى لو امتلكت إيران طائرات أكثر تفوقاً، فإنها ستبقى تكنولوجياً أقل بكثير من القدرات التكنولوجية لدى إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما".

كيف ترد إسرائيل؟

وعد المسؤولون الإسرائيليون "برد كبير وقوي" على الهجوم. وقال بيني جانتس، عضو مجلس الحرب: "سنبني تحالفاً إقليمياً وسنجعل إيران تدفع الثمن بالطريقة والتوقيت المناسب لنا".

ولكن الأستاذ الباحث في جامعة واشنطن الأميركية بوعز عتسيلي، استبعد في حديثه مع "الشرق" أن تردّ إسرائيل على الضربات الإيرانية، مضيفاً أن طهران أرادت الآن، أن تضع "قواعد اللعبة" التي سترد بموجبها على أيّ تحرك إسرائيلي ليس من خلال وكلائها ولكن بشكل مباشر، وتمكنت من إيصال تلك الرسالة، على الرغم من عدم التسبب في أي ضرر كبير في إسرائيل. لكن على المدى الطويل قد تؤدي هذه القواعد الجديدة إلى مزيد من التصعيد".

وكشف تقييم استخباراتي أميركي أن إيران سترد على أيّ ضربة إسرائيلية كبيرة وعلنية على الأراضي الإيرانية بجولة جديدة من الهجمات الصاروخية والطائرات بدون طيار، وهو ما يعني تصعيد إقليمي "خطير" في المنطقة، وفق مسؤول أميركي تحدث مع "أكسيوس".

فيما أعلن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، في بيان، أنه لا يوجد أي عمل عسكري آخر ضد إسرائيل على أجندته في الوقت الحالي، محذراً من أنه "في حال واصلت تل أبيب أعمالها هذه ضد طهران، فإنه سيتم مواجهتها برد أقوى بـ10 أضعاف على الأقل".

ومن الناحية العسكرية، يضيف الخبير الإسرائيلي "أظهرت الضربة قدرات إيران الهجومية الكبيرة بعيدة المدى، ولكنها أظهرت أيضاً النجاح غير المسبوق لقدرة إسرائيل على الدفاع ضدها، أفضل مما توقعه أيّ شخص".

وبحسب عتسيلي، فإن "الهجوم الإيراني أظهر حاجة إسرائيل إلى حلفاء، من أجل استخدام هذا النظام الدفاعي بفعالية (وقعت أضرار طفيفة فقط في قاعدة عسكرية واحدة، وأصيب طفل بجروح خطيرة)، مضيفاً أنّ "على إسرائيل أن تحرص على الحفاظ على هذا التحالف غير الرسمي من خلال سياسة حكيمة وإيجابية، وليس من خلال الاستفزاز والعمل الهجومي".

كما يرى الخبير الاستراتيجي أحمد القرني أنه على الرغم من أن تل أبيب مستعدة بشكل كبير للتعامل مع تهديد الطائرات بدون طيار والصواريخ، إلا أنها ستعمل على تحسين الدفاع الجوي في ضوء البيانات والمعلومات التي تم جمعها أثناء الهجمات، وفي المستقبل، من المرجح أن تكثف إسرائيل هجماتها السرية الوقائية داخل إيران إلى جانب التجسس الإلكتروني والتعطيل لأجهزة المسيرات.

تصنيفات

قصص قد تهمك