في أول يوم له في أوروبا منذ 5 سنوات، تلقى الرئيس الصيني شي جين بينج هدية ذات قيمة رمزية مهمة من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، كانت عبارة عن عدة قارورات من أفخر أنواع الكونياك الفرنسي.
ولم تكن هذه الهدية "أكثر التلميحات دهاءً"، إذ يساور الفرنسيون وغيرهم القلق بشأن تحقيق مكافحة الإغراق الذي تجريه الصين بشأن الكحوليات الأوروبية، والذي يستهدف بالأساس شركات الكونياك الفرنسية، باعتباره "انتقاماً" من قرار الاتحاد الأوروبي فتح العديد من التحقيقات على خلفية الاشتباه في لجوء بكين إلى "ممارسات تجارية غير عادلة" في قطاعات مثل المركبات الكهربائية وتصنيع الأجهزة الطبية، وفق مجلة "بوليتيكو أوروبا".
وفي المقابل، قدم شي إغراءاته الخاصة، ممثلة في وعد بعدم فرض رسوم جمركية استباقية على البراندي الفرنسي، ودعم مقترح "الهدنة الأوليمبية" الذي دعا إليه ماكرون.
ولكن على النقيض من مشروبات ماكرون الكحولية، فإن العروض التي قدمها شي لفرنسا "قد لا تكون مناسبة بنفس القدر"، وفق "بوليتيكو".
فخلال الزيارة الرسمية التي قام بها الزعيم الصيني إلى فرنسا على مدى يومين، بدءاً من الاثنين، كان ماكرون يأمل في التخفيف من حدة موقف بكين بشأن العديد من القضايا الرئيسية، بينها اختلال التوازن التجاري والشراكة الصينية "غير المحدودة مع روسيا.
ولكن ماكرون لم يحصد سوى "تجاهل" الرئيس الصيني، الذي إما أنكر وجود مشكلات من الأساس، أو قدم تنازلات متواضعة لا تتطلب سوى تضحيات واهية من الجانب الصيني، أو عمد إلى المناورة الصريحة بشأن مشاركة الصين في الحرب الروسية على أوكرانيا.
العصا والجزرة
على مستوى الملف الأوكراني، نفى الزعيم الصيني مجدداً تسليم الصين أي أسلحة إلى روسيا، وأكد فرض بلاده "رقابة صارمة" على صادرات المعدات مزدوجة الاستخدام إلى موسكو، وهو ما سبق أن أعلنته بكين بالفعل.
وتجاهل شي مخاوف الغرب من المساعدات التي قدمتها الصين للاقتصاد الروسي عن طريق إمداد موسكو بالسلع الاستهلاكية التي لم تعد متاحة من الأسواق الغربية بسبب العقوبات.
كما أن هناك قضية اتهام الصين بـ"ممارسة ازدواجية فاضحة بين القول والعمل"، عندما يتعلق الأمر بإلقاء طوق النجاة إلى دول مثل روسيا وكوريا الشمالية.
انتقاد مبطن لواشنطن
واستخدم شي أقوى تصريحاته خلال زيارته فرنسا لتوجيه انتقاد مبطن إلى واشنطن ودول غربية أخرى تلقي باللائمة على بكين لدعمها الكرملين في الوقت الذي تشن فيه حرباً ضروسا على أوكرانيا.
وقال شي، الاثنين: "نحن نعارض بشدة استخدام الأزمة الأوكرانية لإلقاء اللوم على دولة ثالثة وتشويه سمعتها وإشعال فتيل حرب باردة جديدة".
ووفق "بوليتيكو"، فإن الإشارة إلى "حرب باردة جديدة"، وهو المصطلح الذي عادة ما يستخدمه الحزب الشيوعي الصيني لانتقاد أي مناورة جيوسياسية تقوم بها واشنطن ولا تروق لبكين، قد تمس وتراً حساسا لدى ماكرون، الذي يسعى إلى تطوير أوروبا كقوة عسكرية واقتصادية مستقلة استراتيجياً عن الصين والولايات المتحدة.
تفاؤل حذر في باريس
وفي نهاية اليوم الأول من زيارة شي لباريس، كانت الحالة المزاجية في الإليزيه يشوبها "التفاؤل الحذر"، حيث أبصر العديد من المستشارين بصيصاً من الأمل في المحادثات، وبخاصة تلك المتعلقة بأوكرانيا.
فخلال التصريحات المشتركة في المؤتمر الصحافي، أعرب شي عن تأييده الكامل لدعوة الرئيس الفرنسي إلى "هدنة أوليمبية" ارتآها ماكرون فرصة سانحة "للعمل نحو التوصل إلى حل مستدام (للصراعات) تحت مظلة وفي ظل لاحترام الكامل للقانون الدولي".
ولكن في ظل الأفضلية التي تكتسبها روسيا في ساحة المعركة بأوكرانيا واستعدادها لشن هجوم خلال الصيف، يصبح الحديث عن هدنة خلال فترة إقامة دورة الألعاب الأوليمبية أقرب إلى "التفكير بالتمني"، على حد وصف "بوليتيكو".
ووفق مارك جوليان، المتخصص في الشأن الصيني في مركز أبحاث IFRI، ومقره باريس، فإن "النوايا الصينية الطيبة حيال هذه القضية ليست مكسباً حقيقياً لفرنسا لأن ذلك شيء تريده الصين بأي حال".
وأضاف الخبير في الشؤون الصينية لـ "بوليتيكو" أن دعم مقترح الهدنة الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي خلال فترة إقامة دورة الألعاب الأوليمبية "يتسق مع دعم الصين لوقف إطلاق النار دون أن تتخذ أي إجراء على الأرض في هذا الاتجاه".
"زرع الفتنة"
ودعا ماكرون خلال الأسابيع الأخيرة الصين وأوروبا إلى إقامة "علاقات تجارية أكثر توازناً"، وتناول الرئيس الفرنسي هذا الموضوع بشكل مباشر خلال محادثات ثلاثية يوم الاثنين، ضمت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
وأشار ماكرون إلى تأجيل فرض رسوم جمركية استباقية على الكونياك الفرنسي باعتباره "انتصاراً جليلاً". وأشاد بالرئيس الصيني لانفتاحه "فيما يتعلق بالإجراءات المؤقتة حيال الكونياك الفرنسي"، معرباً عن رغبته في "عدم تطبيق هذه التدابير".
ولكن ما لم يقله الرئيس الصيني هو أنه كان ضد فرض رسوم جمركية على الكونياك الفرنسي، وبدلاً من ذلك، نقلت وزارة الخارجية الصينية عن شي نفيه "ما يسمى مشكلة فائض القدرة لدى الصين".
وبحسب "بوليتيكو"، ربما تمكن شي أيضا من "زرع بذور الفتنة" بين ماكرون وفون دير لاين وأولاف شولتز، إذ كان غياب المستشار الألماني هو "القضية المسكوت عنها"، حيث رجح المحللون أنه ربما لم يحضر حتى لا يخاطر بإثارة غضب بكين بشأن المركبات الكهربائية.
وأشار محلل السياسة الخارجية أولريش سبيك إلى أن هذه الحقائق تجعل من السهل على شي "تجاهل" فون دير لاين.
وأضاف سبيك لـ "بوليتيكو" أنه "طالما أن شولتز وماكرون يتقربان إلى شي، ويحاولان تعميق العلاقات الاقتصادية، وتخفيف حدة الانتقادات بشأن القضايا الجيوسياسية، فإن الرسائل التي تقدمها فون دير لاين لا تتمع بمصداقية كبيرة".