بريطانيا.. حكومة "العمال" تنطلق والخاسرون يراجعون حساباتهم

رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يلقي كلمة بعد أول اجتماع لحكومته في لندن. 6 يوليو 2024 - REUTERS
رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يلقي كلمة بعد أول اجتماع لحكومته في لندن. 6 يوليو 2024 - REUTERS
لندن-بهاء جهاد

لم يتأخر زعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمر في تشكيل حكومته، فبعد أقل من 36 ساعة على فوزه بالانتخابات البرلمانية، ترأس الاجتماع الأول للحكومة الجديدة.

الحكومة الجديدة بحثت أجندة تضم عناوين داخلية وخارجية، بينما سيشارك ستارمر في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بواشنطن، الثلاثاء المقبل.

وينتظر البريطانيون بفارغ الصبر أجوبة كثيرة من حكومتهم التي تتسلح بأكثرية مطلقة في برلمان ويستمنستر، لكن محللين يعتقدون أن خارطة المرحلة المقبلة لن تتضح ملامحها في المملكة المتحدة بسرعة، فهناك قضايا متعددة تحتاج وقتاً لحسمها، سواء لارتباطها بظروف خارجية أو لدراسة معطيات محلية.

وبينما يشرع حزب "العمال" بإدارة الدولة يتخبط خصمه حزب "المحافظين" في تداعيات خسارته الكبيرة للانتخابات العامة، ويتمثل أول تحدٍ أمامها في إيجاد خليفة لرئيس الوزراء السابق ريشي سوناك، وذلك وسط قلة من قادة الحزب الذين يحتفظون بمقاعدهم البرلمانية.

ويبدو حال "المحافظين" سيئ جداً، كما يوصَف حتى من داخل الحزب، إلا أن هزيمته الساحقة ليست العلامة الفارقة الوحيدة في الاستحقاق الأخير، إذ ستؤثر نتائج انتخابات 2024 على أحزاب عدة، كما ستستدعي البحث في توجهات شعبية وسياسية وُلدت قبيل الاستحقاق لتؤسس لمرحلة جديدة، لكنها اليوم تواجه الاندثار أو تغيير الخطط.

"دفن" خطة رواندا

ومن أبرز عناوين اجتماع الحكومة الأول، إعلان ستارمر "قتْل ودفْن" خطة رواندا لترحيل المهاجرين، والبحث عن خيارات بديلة لحل الأزمة التي تفضح الأرقام عن تصاعدها بشكل كبير، بينما تقول وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان إن التخلي عن هذه الخطة يلغي سنوات من العمل البرلماني الجاد، ويبدد ملايين الجنيهات التي أُنفقت في سبيل إنجاح هذا المشروع الذي لا يوجد له بديل، على حد تعبيرها.

وفي المؤتمر الصحافي الذي عُقد بعد أول اجتماع للحكومة، أكد ستارمر أنه بدأ في التشاور بشأن كيفية تنفيذ برامجه الانتخابية بخطوات مالية دقيقة، كما أعلن أنه سيبدأ جولته في أقاليم المملكة المتحدة من أجل رسم مسار عمل مشترك على امتداد الدولة بأكملها، كما سيلتقي بعُمَد المدن والمسؤولين في المجالس المحلية.

وفي الشأن الداخلي أيضاً، لفت ستارمر إلى بدء العمل على خطط تقليص قوائم الانتظار في خدمات الصحة الوطنية، كما تعمل الحكومة على حل سريع لمشكلات الأعداد الكبيرة في السجون بعد أن اقتربت من طاقتها الاستيعابية القصوى، وبات لزاماً إما توسيعها أو دراسة الإفراج المبكر عن فئات من السجناء.

وخلال اجتماع الحكومة الأول، تم بحث أول مشاركة لرئيس الوزراء الجديد في قمة "الناتو"، كما تنتظر ستارمر لقاءات وقرارات عدة مهَّد لها وزير خارجيته ديفيد لامي قبل أشهر من وصول حزب العمال إلى السلطة.

لكن ستارمر أكد على موقفين بارزين قبل سفره، هما الالتزام الكامل بحلف الناتو، ودعم أوكرانيا.

أجندة خارجية.. وخطوات حذرة

واحتفظ زعيم العمال في تشكيلته الوزارية بالوجوه التي عملت في "حكومة الظل" عندما كان حزبه في صفوف المعارضة، وهذا وفقاً للباحثة في الشأن البريطاني جاسمين كلير يُقدّم "رسالة داخلية تقول إن ستارمر لا يتخلى عن حلفائه، وأخرى خارجية بأن خطط حزبه لإدارة الدولة لن تتعرض لتغيرات جوهرية أو تكون متقلبة".

وفي حديث لـ"الشرق"، شددت كلير على أن العلاقة مع واشنطن لطالما أثرت على توجهات السياسة الخارجية للندن، ولذلك "ستبقى خطوات ستارمر الدولية حذرة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية المقبلة المقررة في نوفمبر 2024، ومعرفة من سيسكن البيت الأبيض، كما ستكون الحكومة حينها أنجزت المراجعات التي تحتاجها في الشأن الخارجي".

وأكد ستارمر أن هذه المراجعات ستبدأ في غضون أيام لتحدد أولويات الحكومة في سياساتها الخارجية، وعلى رأسها الالتزام بإنفاق 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، مشدداً على أن كل شيء يعتمد في نهاية المطاف على الأموال التي تتوافر لإنفاقها في مختلف المجالات، مؤكداً: "لن يتظاهر الحزب بوجودها وتوافرها الآن".

وأشارت الباحثة في الشأن البريطاني إلى أن ستارمر مهتم بعلاقات أفضل مع الاتحاد الأوروبي على كافة المستويات، لكن الأمر يبقى رهن ما يمكن أن يقدمه كل طرف للآخر، وما هي حدود التنازلات التي يتوجب اللجوء إليها دون التعرض لـ"طلاق لندن وبروكسل" (بريكست) الذي حدث قبل 5 سنوات أو "على الأقل ليس في مرحلة مبكرة من ولاية حزب العمال".

أولويات داخلية.. وعود التغيير والإصلاح

والأهم من الأجندة الخارجية بالنسبة للبريطانيين هو السياسة الداخلية، ووعود "العمال" بالتغيير، وإصلاح مَواطِن الخلل التي أفرزها حُكْم "المحافظين" خلال السنوات الـ14 الماضية.

ويرى الكاتب والصحافي مايكل بنيون أن الناس ينتظرون من الحكومة الجديدة قبل كل شيء توضيح خططها لتمويل المشاريع والبرامج التي تعهّد بها حزب العمال.

ولفت بنيون في حديثه لـ"الشرق" إلى أن هذه النقطة بالغة الأهمية لأنها المؤشر الرئيسي في حقبة العمال الجديدة، وليس فقط بالنسبة للداخل وإنما لجميع المهتمين والمعنيين بالاقتصاد البريطاني عالمياً، منوها بأن خطاب الملك تشارلز الثالث في افتتاح البرلمان الجديد يوم 17 يوليو الجاري سيرسم الخطوط العامة لهذه الحقبة، وتبقى التفاصيل للحكومة.

ولفت ستارمر إلى أن الاجتماع الحكومي الأول بحث مضمون الخطاب المنتظر للملك، لكنه رفض الإفصاح عن أي التزام قد يرد فيه، أو يمكن أن تطلقه الحكومة كتعهد خلال الـ100 يوم الأولى من ولايتها، قائلاً: "الناس سوف يلمسون التغيير المنشود في بعض المجالات بعد أشهر من تولي حزب العمال للسلطة".

وبحسب رئيس الوزراء البريطاني، لن تتضح إنجازات الحكومة في كل القضايا والقطاعات بالسرعة ذاتها، لأن حل المشكلات المتراكمة لسنوات سيكون بطيئاً في أماكن تحتاج لعمل متدرج وعلى مراحل، ولذلك لا يريد إطلاق وعود مبكرة، ولا يُفضّل استعجال التعهدات قبل أن تلم الحكومة بكل جوانب العمل التي تحتاجه لتحقيق وإنجاز "التغيير المنشود".

أزمة "المحافظين"

بينما يعيش حزب "العمال" ثمرة فوزه الساحق بالانتخابات، وقد شرع في قيادة الدولة لـ5 سنوات مقبلة على الأقل، يجلس "المحافظون" على أطلال 14 عاماً مضت في السلطة، ويغرق نوابه في التفكير بقائمة القادة القلائل المحتملين لخلافة سوناك الذي تحمّل مسؤولية خسارة استحقاق 2024، وقرر الاستقالة من زعامة الحزب.

وسويلا برافرمان واحدة من الأسماء المطروحة لخلافة سوناك على زعامة حزب المحافظين، بعد أن احتفظت بمقعدها البرلماني، لكنها قالت لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، إن "الحزب بحاجة إلى وقت ليلملم أوراقه، ويفكر بما مضى وما ينتظره قبل أن يختار زعيماً جديداً"، مشيرة إلى عدم وجود أي قرارات داخلية في هذا الشأن حتى الآن.

ولا تحظى برافرمان بإجماع نواب الحزب قبل القاعدة الشعبية، ورغم أنها تُمثّل أقصى اليمين في "المحافظين"، إلا أنه لم يُحسم بعد إن كان الحزب سيتجه نحو تيارها أو يلتزم الوسطية بعد الانتخابات التي أفرزت منافساً يمينياً أوصل 5 نواب إلى مجلس العموم، هو حزب "الإصلاح" الذي يقوده السياسي اليميني الشعبوي والنائب نايجل فاراج.

ومن وجهة نظر الدبلوماسي السابق جيرالد راسل "يحتاج المحافظون إلى جهد كبير للنهوض مجدداً"، معتبراً أن "أولى مهام الزعيم المقبل للحزب ستكون توحيد الصفوف ومن ثم المضي في خطوات استرداد الثقة الشعبية بالحزب.

وفي حديثه لـ"الشرق"، قال راسل: "هذه ليست أول خسارة للمحافظين في تاريخهم، لكن صعوبة العودة هذه المرة تكمن في وجود تمثيل جديد لتيار اليمين في البرلمان يتزعمه سياسي مؤثر في الشارع، كان عرّاب بريكست قبل 5 سنوات".

ولفت إلى أن "فوز فاراج بمقعد برلماني خلَق حسابات جديدة، وأفرز دعوات داخل المحافظين لضمه إلى صفوف الحزب".

وكان أحد النواب الجدد للحزب وهو إدوارد لاي، دعا لذلك علناً، وقال لصحيفة "جارديان" إن حزب "الإصلاح" أثّر على التصويت في منطقته، وبات يُهدد مستقبل حزب المحافظين هناك.

مفارقات الانتخابات

ومع ذلك، فإن حزب "المحافظين" ليس الخاسر الوحيد في الانتخابات الأخيرة، فهناك أيضاً "القومي الإسكتلندي" الذي خسر 38 مقعداً في برلمان المملكة المتحدة وحلَّ رابعاً في عدد نوابه.

ووضعت هذه الهزيمة، الحزب الذي يقود حكومة إدنبرة وزعيمه جون سويني في موقف محرج، وفرَض عليهم إعادة النظر في أوراقهم وسياساتهم للمرحلة المقبلة.

ويعتقد الصحافي المختص في الشأن الاسكتلندي جارث روز أنه "يجب على حزب سويني الذي يقود حكومة إدنبرة منذ عقد ونصف تقريباً، أن "يتعظ من تجربة المحافظين ونزعة الناخبين لإزاحته فقط من أجل التغيير، وبالتالي يحتاج "القوميون" إلى التجديد قبل أن يلقوا المصير ذاته في انتخابات اسكتلندا 2026.

ومن الأحزاب الخاسرة أيضاً هناك "Workers"، الذي راهن على ورقة حرب غزة للوصول إلى البرلمان البريطاني، فخسر جميع مرشحيه بمن فيهم زعيمه جورج جالاوي الذي عاد إلى البرلمان قبل أشهر فقط عبر انتخابات فرعية.

ويرجع سبب خسارة هذا الحزب الذي تأسس عام 2019، في عدم جديته في طرح برنامج انتخابي يأخذ بعين الاعتبار الأولويات الداخلية للبريطانيين إضافة إلى ملف غزة الخارجي، بحسب أستاذ القانون المقارن في جامعة "ميدليسكس" نهاد خنفر.

وأضاف خنفر في تصريحات لـ"الشرق" أن حرب غزة سببت خسارة حزب "العمال" في بعض المناطق ولكن على يد مستقلين.

وفي الانتخابات الأخيرة خسر حزب العمال في 4 دوائر انتخابية يُشكّل المسلمون 10% أو أكثر من سكانها، ومعظم الفائزين عليه كانوا ينتمون إليه ثم انشقوا بعد مواقفه من حرب غزة.

وصحيح أن هذا لم يؤثر على الفوز الساحق للحزب الأحمر في نهاية المطاف، إلّا أنه فتح الأبواب أمام مرحلة جديدة عنوانها "أصوات المسلمين في بريطانيا لم تعد تُحسب مسبقاً لصالح أي طرف، وستخضع لمقاربات داخلية وخارجية من الجالية".

وفي السياق ذاته، لا بد من الإشارة إلى أن المهاجرين العرب الذين حاولوا التمرد على "العمال" في الاستحقاق الأخير من خلال الترشح ضد ممثليه في الدوائر الانتخابية لم يُوفقوا.

لكن كما قالت عضو حزب الخضر منى آدم لـ"الشرق"، إن هذه التجربة كانت "مهمة للجالية العربية من الناحية السياسية، ولا بد أنها ستُمهد لتجارب أكثر نضجاً في الدورات المقبلة للبرلمان، حيث تكون الحسابات أكثر دقة، والمبادرات أكثر حكمة وواقعية".

تصنيفات

قصص قد تهمك