لطالما تبنت إسرائيل موقفاً رسمياً بشأن استمرار وضع الضفة الغربية قابلاً للتفاوض مع القادة الفلسطينيين، إلا أن الأشهر الماضية شهدت "خروقات كبيرة"، في ظل رئاسة بنيامين نتنياهو للحكومة اليمينية الأكثر تطرفاً في تل أبيب، إذ يستغل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش موقعه لتنفيذ حيل سياسية، تهدف لدفع الأمور على أرض الواقع نحو هذا المسار، حسبما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال".
واحتفل سموتريتش، الأربعاء الماضي، بما وصفه بـ"الإنجاز"، وهو إنشاء حدود بلدية لبناء مستوطنة جديدة، فوق أرض صنفتها منظمة "اليونسكو" كموقع للتراث العالمي في عام 2014، تربط الضفة الغربية بمستوطنة أخرى في القدس المحتلة.
وبعد عودة نتنياهو إلى منصبه في ديسمبر 2022، على أساس اتفاق ائتلافي، وعد بـ"تعزيز وتطوير الاستيطان في الضفة الغربية".
واستمر سموتريتش وحلفاؤه في السلطة، بالدفع في تعزيز الاستيطان، ما دفع مجلس التخطيط الإسرائيلي إلى الموافقة على ما يقرب من 12 ألف وحدة سكنية في المستوطنات خلال 19 شهراً، مقارنة بأكثر من 8 آلاف وحدة في العامين السابقين، وفقاً لمنظمة "السلام الآن" الإسرائيلية.
وجرى إضفاء الشرعية على عدد متزايد من البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، وهو أمر غير قانوني بموجب القانون الإسرائيلي. كما تم الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي من قبل الدولة.
وتشكل هذه الخطوات جزءاً من استراتيجية ينتهجها المستوطنون الإسرائيليون لفصل البلدات الفلسطينية في الضفة الغربية عن القدس الشرقية، وتقويض إمكانية أن تصبح القدس الشرقية ذات يوم عاصمة لدولة فلسطينية مستقلة، وفق الصحيفة.
سموتريش.. "مهندس الاستيطان"
وخلال احتفال سموتريتش، الأربعاء، بقرار الإدارة الخاضعة لسيطرته بالمضي قدماً في بناء المستوطنة الجديدة، قال "سنستمر في محاربة الفكرة الخطيرة المتمثلة في الدولة الفلسطينية، وخلق حقائق على الأرض"، وأضاف: "هذا هو هدف حياتي، وسأستمر فيه بقدر ما أستطيع".
ومنذ توليه منصبه، تقول منظمات المراقبة الفلسطينية والإسرائيلية للاستيطان، إن عمليات الاستيلاء على الأراضي وتصاريح البناء والبؤر الاستيطانية غير القانونية في الضفة الغربية زادت، كما ارتفعت بالتزامن عمليات هدم منازل الفلسطينيين، فيما زعم أحد مساعدي سموتريتش أن ضم الضفة الغربية ليس الهدف، وأن تحسين البنية التحتية يفيد الفلسطينيين أيضاً.
وبصفته وزيراً للمالية، وجه سموتريتش مئات الملايين من الدولارات من أموال دافعي الضرائب نحو تحسين البنية التحتية في المنطقة.
وبحكم منصبه كمسؤول عن الاستيطان بالضفة الغربية برتبة وزير في وزارة الدفاع، استبدل المؤسسات العسكرية التي أشرفت منذ فترة طويلة على عمليات الاحتلال الإسرائيلية، بأخرى مدنية مجهزة بشكل أفضل للتعامل مع أشياء، مثل المياه وبناء الطرق وتصاريح البناء.
وقال سموتريتش عن خططه في الضفة، وفقاً لتسجيل في يونيو الماضي أصدره نشطاء إسرائيليون مناهضون للاستيطان وتحققت منه صحيفة "وول ستريت جورنال"، إن "الهدف هو تغيير الحمض النووي للنظام لسنوات عدة".
وأوضح أن الهدف النهائي هو تشديد السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وإنهاء إمكانية قيام دولة فلسطينية، مع تجنب الاهتمام الدولي".
وكانت الضفة الغربية تحت الاحتلال العسكري منذ استيلاء إسرائيل على المنطقة في عام 1967، ما أعطى القادة العسكريين صلاحية الإشراف على الشؤون الإدارية والقانونية والمدنية، وفق ما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست".
وبموجب شروط اتفاقات أوسلو التي توسطت فيها الولايات المتحدة، تتمتع إسرائيل بالسيطرة الكاملة على المنطقة "ج"، والتي تشكل 60% من الأرض، على الرغم من أن قواتها تعمل أيضاً في المنطقتين "أ"، و "ب"، والتي تديرها السلطة الفلسطينية "نظرياً".
وفي أواخر مايو، أعلن الجيش الإسرائيلي، أنه تم إعادة تعيين صلاحيات إدارية كبيرة على الضفة لمنصب "نائب رئيس" تم إنشاؤه حديثاً داخل الإدارة المدنية، وهي الهيئة الحاكمة لإسرائيل في الضفة الغربية، وفي نفس اليوم، تم منح الدور إلى هيليل روث، وهو أحد المقربين من سموتريتش.
وكان نقل السيطرة العسكرية إلى مدني مختار بعناية بمثابة خطوة أخرى نحو طموح سموتريتش طويل الأمد، والذي تم تحديده في أطروحة عام 2017، لتحقيق "النصر من خلال الاستيطان" وتوسيع الحكم الإسرائيلي على المنطقة، والذي يقول الخبراء إنه سيحول الاحتلال فعلياً إلى ضم.
عاش روث لسنوات في يتسهار، المعروفة بأنها واحدة من أكثر المستوطنات عنفاً في الضفة الغربية، وهو الآن مخول باتخاذ قرارات شاملة بشأن البناء الجديد في المنطقة وإدارة أراضي الدولة، ورفض التعليق على التقرير لـ"وول ستريت جورنال"، ولم يستجب سموتريتش لطلبات متعددة للتعليق.
وقالت ساريت ميخائيلي من منظمة "بتسيلم"، إحدى منظمات حقوق الإنسان الرائدة في إسرائيل: "إن ما يفعله سموتريتش هو ترسيخ وضع فيه يتم تحديد كل جانب من جوانب حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية من قبل مدني إسرائيلي".
في يونيو الماضي، أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث أن 49% من الإسرائيليين اليهود يعتقدون أن استمرار بناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، يساعد الأمن القومي للبلاد، في حين قال 26% إنه يضر.
وعملت حركة المستوطنين بصبر لعقود من الزمن للوصول إلى هذه النقطة، ولسنوات لم تكن هناك إشارة واحدة على خريطة الضفة الغربية لما هو قادم، وكانت عمليات الاستيلاء على الأراضي تدريجية؛ وربما بدا وضع بعض المستوطنات غير منطقي للوهلة الأولى.
وبمرور الوقت، تم دمج المستوطنات الأصغر في كتل، وربطتها الطرق السريعة، والطرق الالتفافية بإسرائيل ذاتها.
سيادة إسرائيلية على الضفة الغربية
وتقول "وول ستريت جورنال" إن التغييرات التي يجريها سموتريتش يمكن أن تمهد لسيادة إسرائيلية على الضفة الغربية من كافة النواحي، وهي تغييرات تتم بشكل خفي ومعقد لدرجة يصعب على معظم الناس متابعتها.
وقال يوهانان بليسنر، عضو سابق في البرلمان الإسرائيلي من تيار الوسط ورئيس مركز أبحاث معهد الديمقراطية الإسرائيلي في القدس: "إنها بيروقراطية للغاية، وتنظيمية ومفصلة للغاية بالنسبة لعامة الناس".
في يونيو، وبناء على طلب سموتريتش، وافقت الحكومة الإسرائيلية على بناء نحال هيليتز، وأربع مستوطنات أخرى. وفي صفقة تبادلية واضحة، وافق سموتريتش أيضاً على رفع تجميد عائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية، والتي تم حجزها بعد هجوم السابع من أكتوبر.
ولسنوات، تقول إسرائيل إن سيطرتها على الضفة الغربية هي احتلال عسكري مؤقت يديره الجيش، وليس ضماً دائماً تحت سيطرة مدنية، وتزعم أن الوضع النهائي للمنطقة سيكون جزءاً من تسوية تفاوضية مع الفلسطينيين.
لكن سموتريتش أشرف على إنشاء هيئة مدنية تسمى إدارة المستوطنات بسلطة شاملة على القضايا المدنية، بما في ذلك الاستيلاء على أراضي الضفة الغربية، والموافقة على توسيع المستوطنات وإصدار تصاريح البناء.
ومهدت التغييرات الطريق لتخصيص ما يقرب من 6000 فدان في الضفة الغربية كأراض تابعة لإسرائيل، وهي مقدمة للمستوطنات المستقبلية في تلك المناطق.
وقالت منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية لمراقبة الاستيطان، إن الأراضي التي تم الاستيلاء عليها هذا العام أكبر من تلك التي تم الاستيلاء عليها خلال العقود الثلاثة الماضية، وتم بناء آلاف الكيلومترات من الطرق، مما أدى إلى توسيع نطاقها في عمق المناطق الفلسطينية.
حلم الدولة المستقبلية
وفي عهد سموتريتش، خصصت ميزانية إسرائيل لعام 2024 حوالي 960 مليون دولار، أو 25% من ميزانية وزارة النقل للبنية التحتية للطرق، لتحسين شبكة الطرق في الضفة الغربية.
ويوجد ما يقرب من 500 ألف مستوطن في الضفة الغربية، من بين ما يقرب من 10 ملايين إسرائيلي، وبالنسبة للمستوطنين الإسرائيليين، فإن كونهم تحت السيطرة المدنية مثل مواطنيهم داخل الحدود الإسرائيلية المستقرة، يبسط كل شيء من الحصول على تصاريح البناء إلى توسيع الطرق، ولكن بالنسبة للفلسطينيين، فإنه يرسخ الحكم الإسرائيلي ويجعل حلم الدولة المستقبلية أقل احتمالاً.
وقالت نعومي خان، وهي مستوطنة يهودية، إن المدة التي تقضيها في التنقل اليومي إلى العمل، انخفض بأكثر من ساعة بعد توسيع طريق قريب في نهاية عام 2023.
وقال يسرائيل جانز، رئيس مجلس يشع، وهي منظمة تمثل المستوطنات في الضفة الغربية، إنه في طريق رئيسي يخترق المستوطنات اليهودية شمال رام الله، تم تركيب مصابيح الشوارع لأول مرة هذا العام.
وفي حين تبدو هذه التغييرات غير ذات أهمية، إلا أنها علامة مبكرة على تحسن نوعية الحياة في المستوطنات الإسرائيلية، والتي قد تجذب المزيد من الإسرائيليين للانتقال إلى هناك وتهميش الفلسطينيين بشكل أكبر.
وقال رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في السلطة الفلسطينية، مؤيد شعبان، إن التغييرات تعادل الضم التدريجي، مضيفاً أن الهدف هو زيادة الأراضي التي يسيطر عليها المستوطنون الإسرائيليون، مع تقليص أجزاء الضفة الغربية التي يمكن للفلسطينيين الوصول إليها.
ويتفق منتقدو ومؤيدو سموتريتش على أنه بيروقراطي فعال بشكل غير عادي، يجمع بين القوة السياسية والمعرفة العميقة بأساسيات الحكم.
ومنذ أوائل عام 2023، نما العدد الإجمالي للبؤر الاستيطانية غير القانونية إلى حوالي 200، بزيادة 25% عن العام السابق، وفقاً لحجيت عفران، التي تتعقب نمو المستوطنات لصالح منظمة "السلام الآن".
إقامة دولة فلسطينية
وفي ذلك الوقت، بدأت الحكومة الإسرائيلية عملية الموافقة على 20 ألف منزل جديد في الضفة الغربية، مقارنة بـ8 آلاف في العامين من 2021 إلى 2022، حسبما قالت المجموعة.
وكتب سموتريتش على منصة إكس في بداية يوليو بعد الإعلان عن بناء 6000 منزل جديد في المنطقة: "نحن نبني أرضنا الطيبة ونمنع إقامة دولة فلسطينية".
وتعتبر المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية غير قانونية من قبل المجتمع الدولي، على الرغم من أن إسرائيل تنكر ذلك.
وقبل دخوله السياسة، شارك في تأسيس منظمة "ريجافيم"، وهي مجموعة مؤيدة للمستوطنين تتعقب وتحتج على البناء الفلسطيني غير القانوني في الضفة الغربية، وجنوب إسرائيل.
وقال محللون إن سموتريتش قدم عريضة تلو الأخرى للضغط من أجل هدم المنازل والمباني الفلسطينية. وقد منحه ذلك أساساً متيناً ومعرفة بالشبكة المعقدة من القانون العثماني والبريطاني والأردني والعسكري التي تنظم الضفة الغربية.
وتُظهر ترقيته الأخيرة في الحكومة، القوة السياسية المتنامية لليهود المتطرفين الدينيين في إسرائيل، الذين ينظر الكثير منهم إلى الأرض على أنها حق للشعب اليهودي، ورغم قلتهم العددية نسبياً، فإنهم يمارسون سلطة غير متناسبة من خلال تحالفهم مع نتنياهو.
وأفاد الفلسطينيون منذ بداية حرب غزة عن تزايد في مضايقات المستوطنين، وقال محمد إشتية، وهو مزارع فلسطيني يبلغ من العمر 48 عاماً، إن المستوطنين اليهود أصبحوا أكثر وقاحة في الأشهر العشرة الماضية، فقد سرّعوا البناء، ومنعوا الفلسطينيين من الوصول إلى مزارعهم الخاصة، وأغلقوا المدخل الرئيسي لمدينة سلفيت حيث يعيش.
وأضاف إشتية أنه تعرض للهجوم من قبل المستوطنين، وتلقى تهديدات بالقتل عندما حاول زراعة أرضه.
وفي الخطاب المسجل للمستوطنين، قال سموتريتش إن الحكومة أبقت الرقابة على الضفة الغربية داخل وزارة الدفاع لإعطاء الانطباع بأن الجيش لا يزال مسيطراً، وأضاف: "سيجعل ذلك من الأسهل استيعاب السياق الدولي والقانوني، حتى لا يقولوا إننا نقوم بالضم".