قبل ثلاث سنوات ونصف، جمع شيرمان هاريس مجموعة من أفراد الأسرة والأصدقاء في منزله على قمة تل في ريف جامايكا، لمشاهدة ابنة عمه وهي تدخل التاريخ، ويتذكر أنه عندما أدت كامالا هاريس اليمين الدستورية كنائبة لرئيس الولايات المتحدة، انفجرت الغرفة بالصراخ، والدموع.
قال شيرمان، البالغ من العمر 59 عاماً، في مقابلة مع شبكة CNN الأميركية: "حتى عندما أتحدث الآن، أشعر بنوع من الدموع تنهمر من عيني أيضاً، كما تعلمون، إنها مثل دموع الفرح".
أفراد الأسرة والأصدقاء سيتجمعون مرة أخرى أمام شاشة التلفزيون العريضة، لمشاهدة هاريس تصنع التاريخ من جديد، عندما تقبل رسمياً ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة، لتصبح أول أميركية من أصل جامايكي، وآسيوي تترشح للرئاسة.
ورغم أن أقاربها سيحتفلون بهذا الحدث في هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو 12 ألف نسمة على الساحل الشمالي للجزيرة، فإن جذور هاريس الكاريبية لا تزال تكتسب أهمية كبيرة بالنسبة لملايين الأميركيين، الذين يتعرفون عليها بعد أن صعدت فجأة إلى قمة قائمة الحزب الديمقراطي قبل شهر، عندما أنهى الرئيس جو بايدن مساعيه لإعادة انتخابه، وأيّد ترشيح نائبته.
وبالفعل، سعى منافسها الجمهوري دونالد ترمب إلى التشكيك في هويتها العرقية، إذ يتنافس الاثنان على الدعم بين الناخبين الأميركيين من أصل إفريقي في ولايات مثل ميشيجان وجورجيا، والذين قد يحددون نتيجة سباق هذا الخريف، وفي تجمع للصحفيين من أصل إفريقي الشهر الماضي، زعم الرئيس السابق أن هاريس اختارت مؤخراً تحديد هويتها على أنها من أصل إفريقي من باب الانتهازية السياسية، وفق شبكة CNN.
وسأل ترمب في تعليقات ساخرة على نطاق واسع: "لا أعرف، هل هي هندية أم سوداء؟"، وتشير CNN إلى أن عرقية هاريس مزدوجة بين الإثنين، فهي ابنة لأم من أصل هندي تدعى شيامالا جوبالان، باحثة في مجال سرطان الثدي توفيت في عام 2009، وأب من أصل جامايكي، دونالد هاريس، وهو خبير اقتصادي متقاعد من جامعة ستانفورد يبلغ من العمر 85 عاماً، والذي ظل إلى حد كبير بعيداً عن الأضواء.
وينحدر والد هاريس من عائلة تمتد لأجيال في بلدة أبرشية سانت آن (براون) الجامايكية، وهي قرية صغيرة تتحول إلى سوق مفتوح، حيث يتجمع الباعة على طول الشارع الرئيسي في صباح أيام الأحد، لبيع الأفوكادو الأخضر اللامع والبطاطا وحزم الزعتر العطري.
وقال مايكل بيلنافيس، عمدة أبرشية سانت آن، الذي يفكر في طرق تكريم هاريس إذا فازت في نوفمبر، "عليك أن تتعرف على الأفراد الذين يأتون من مساكن متواضعة ويتفوقون حقاً.. القادمون من بلدة أبرشية متواضعون للغاية".
جذور عميقة وأم قوية
تم تسمية المدينة على اسم هاملتون براون، مالك العبيد الذي جاء إلى الجزيرة من إيرلندا، ووفقاً لتقاليد العائلة، يُعتقد أنه كان أحد أسلاف جدة كامالا هاريس الكبرى، كريستيانا براون، وهي أيضاً من نسل الجامايكيين المستعبدين، وفق شبكة CNN.
"السيدة كريسي"، كما كانت تُعرف كريستيانا براون، ساعدت في تربية حفيدها دونالد هاريس، الذي وصفها في مقال نُشر لأول مرة في عام 2018 في Jamaica Global Online، بأنها "متحفظة وصارمة في المظهر، وحازمة، ولكنها قادرة على إظهار الحب والمودة والرعاية الحقيقية".
قال هاريس إن اهتمامه بالاقتصاد والسياسة نشأ جزئياً من خلال مراقبة "الآنسة كريسي"، أثناء قيامها بعملها اليومي في متجرها للسلع الجافة في بلدة براون.
وعلى الرغم من وفاتها في عام 1951، إلا أن كريسي لا تزال تحظى بمكانة كبيرة بين أحفادها، الذين ما زالوا يتحدثون عن فساتينها الأنيقة وأخلاقها اللائقة والمعايير العالية التي وضعتها لأطفالها وأحفادها.
وقالت لاتويا هاريس جارتي، ابنة شيرمان هاريس البالغة من العمر 43 عاماً: "كانت العمود الفقري"، وأضافت أن جدتها الكبرى "كانت تؤمن بالحصول على الكتب، وعلى تعليم جيد، وهذا النوع من الأشياء.. أعتقد أن هذا قد انتقل عبر الخط، والجميع يدفعك دائماً إلى أن تكون أفضل، وأن تتفوق".
وأنجبت كريسي العديد من الأطفال من جوزيف هاريس، الذي كان يربي الماشية ويزرع ثمار الفلفل الحلو في مزرعة تقع على ارتفاع عالٍ فوق بلدة براون، وتوفي في عام 1939، بعد عام من ولادة دونالد هاريس، ودُفن في أراضي كنيسة القديس مرقس الأنجليكانية، وهي ملاذ أسسه هاملتون براون.
قد تكون بلدة براونز مكاناً صغيراً، لكن العائلة احتلت مكانة بارزة هناك بصفة أفرادها، ملاك أراضي ورجال أعمال.
وكان دونالد هاريس يأخذ كامالا، وشقيقتها الصغرى مايا إلى الجبال المحيطة بالبلدة لقضاء العطلات، وفقاً لما كتبه عام 2018، حيث اصطحبهما عبر سوق المدينة الصاخب، وتجول في مدرسته الابتدائية ومعالم أخرى وجدها ذات مغزى، وروى قصة الثلاثي وهم يتجولون عبر مراعي الأبقار والمسارات المليئة بالأعشاب على تلة أورانج خلال زيارة لا تُنسى في عام 1970، واستعادوا هناك ذكريات طفولته حول ممتلكات العائلة.
وكتب في المقال: "عند الوصول إلى قمة تل صغير، انفصلت كامالا، المغامرة والحازمة دائماً، فجأة عنا، تاركة وراءها مايا الأكثر حذراً، وانطلقت مثل غزال، تقفز فوق الصخور والشجيرات والأغصان المتساقطة، في فرحة شديدة وفضول مطلق، لاستكشاف نفس التضاريس المغرية"، وتابع: "لم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في تلك اللحظة: يا لها من لحظة مثيرة لإعادة الاكتشاف تنتقل من جيل إلى جيل!".
يتذكر شيرمان هاريس كل أبناء عمومته، وهم يلعبون معاً خلال تلك الرحلات إلى جامايكا في السبعينيات، بينما كان الكبار يستمتعون بالطعام ويتواصلون اجتماعياً، هو وكامالا في نفس العمر، حيث ولدا بفارق أيام قليلة في أكتوبر 1964.
وقال إن أبرز ما يميز تلك الذكريات هو مدى ذكاء الفتاتين (كامالا ومايا)، تماماً مثل والدهما، الذي نشأ في طفولة ريفية ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، ويصبح أول أستاذ اقتصاد من أصل إفريقي يحصل على وظيفة دائمة في جامعة ستانفورد.
قال شيرمان هاريس عن (كامالا ومايا): "فتاتان رائعتان، وحتى عندما كانتا طفلتين صغيرتين، كانتا تسألان عن الشؤون الحالية للجزيرة، ولم أكن قادراً على الإجابة عليها".
يرى شيرمان هاريس أن صعود ابنة عمه هو مثال آخر على "جامايكا للعالم"، في إشارة إلى ثقافة الجزيرة وموسيقى الريجي والطعام المنتشر في جميع أنحاء العالم، وقال عن عشيرة هاريس: "لم نجازف أبداً بالكثير من الفشل، كما تعلمون"، مضيفًا أن أفراد الأسرة "ناجحون دائماً في كل ما يفعلون".
دونالد هاريس.. البعيد عن الأضواء
حتى مع صعود ابنته إلى آفاق جديدة، ظل دونالد هاريس بعيداً عن الأضواء إلى حد كبير، فيما كتبت كامالا هاريس عن والديها في مذكراتها لعام 2019 بعنوان "الحقائق التي نتمسك بها: رحلة أميركية"، إن دونالد هاريس، وشيامالا جوبالان، اللذان التقيا في الستينيات كطالبين في الدراسات العليا في بيركلي، وقعا في حب بعضهما البعض أثناء النضال من أجل الحقوق المدنية.
ولكن بحلول الوقت الذي بلغت فيه الخامسة من عمرها (هاريس)، "توقفا عن التعامل بلطف مع بعضهما البعض"، وسرعان ما انفصلا.
وأصبحت جوبالان بمثابة الوالد، الذي كان له التأثير الأكبر في تشكيل حياة بناتها، وتربيتهما، كما كتبت كامالا هاريس، لكي يصبحن "نساء سوداوات واثقات وفخورات" في بلد سينظر إليهن، أولاً وقبل كل شيء، كأميركيات من أصل إفريقي.
واصلت كامالا هاريس الالتحاق بواحدة من أكثر الكليات والجامعات شهرة في البلاد، جامعة هوارد في واشنطن العاصمة، وتعهدت بأن تكون من أنجح الطالبات أثناء وجودها هناك، وانضمت إلى أقدم جمعية نسائية سوداء في البلاد.
في كتابها، "تتحدث هاريس صفحة بعد صفحة عن والدتها"، كما قال المراسل السياسي المخضرم في كاليفورنيا دان موراين، الذي كتب سيرة ذاتية عام 2021 بعنوان "طريق كامالا: حياة أميركية"، والتي سلطت الضوء على صعود الديمقراطية عبر الولاية الذهبية والسياسة الوطنية، وقال: "إنها مهمة حقاً في حياتها، وأعتقد أن والدتها لا تزال معها على أساس يومي"، بعد سنوات من وفاتها.
وأضاف موراين: "لكنها تتجاهل والدها"، وكتبت هاريس أن والدها "ظل جزءاً من حياتنا" بعد الطلاق، حيث كان يقضي وقتاً معهم في عطلات نهاية الأسبوع وفي الصيف.
اشتكى هاريس الأب من أن علاقته بابنتيه تخضع لـ "حدود تعسفية" بعد معركة حضانة مثيرة للجدل، وكتب في المقال بمرارة إن ولاية كاليفورنيا تعمل على "الافتراض الخاطئ.. بأن الآباء لا يستطيعون التعامل مع تربية الأبناء، وأضاف: "ومع ذلك، لم أتخل أبداً عن حبي لأطفالي أو أتنصل من مسؤولياتي كأب لهم".
لم يستجب دونالد هاريس للعديد من طلبات المقابلات من شبكة CNN، وابتعد إلى حد كبير عن الدعاية، حتى مع وقوف ابنته على أعتاب تحقيق فوز تاريخي على ترمب، لكنه ظهر علناً خلال محاولة هاريس عام 2020 للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة.
وصف ستيفن فازاري، وهو خبير اقتصادي يدرس في جامعة واشنطن في سانت لويس، أستاذه السابق بأنه شخص يفكر "بعمق في النظرية الاقتصادية"، وقال: "إنه ليس من نوع الاقتصاديين الذين سيتحدثون إليك عن الناتج المحلي الإجمالي، وما سيكون عليه التضخم في الربع القادم".
وأضاف فازاري أن هاريس، الذي عمل كمستشار لأطروحة الدكتوراه لفزاري في جامعة ستانفورد، شجع الأصالة، وكان شخصية ودودة وداعمة لطلابه.
"هذه ابنة عمي تترشح"
يقود ترمب عبر حملة إعلامية مركزة "حرباً شرسة" ضد أصول هاريس العرقية، وذلك في إطار استراتيجية لتقليص زخمها، وخلال مقابلة صحافية في مؤتمر الرابطة الوطنية للصحفيين من أصول إفريقية في أواخر الشهر الماضي، ادعى ترمب أن نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية لم تؤكد إلا على تراثها الآسيوي الأميركي حتى وقت قريب عندما زعم أنها أصبحت امرأة سوداء.
في غضون ذلك، شكك زميل ترمب في الترشح، السيناتور عن ولاية أوهايو جي دي فانس، في أصولها، واصفاً إياها بـ"المزيفة" التي "نشأت في كندا"، في إشارة إلى السنوات التي قضتها في مونتريال، حيث تولت والدتها منصباً تدريسياً في جامعة ماكجيل.
قالت دانييل كاساريز ليمي، التي تدرس السياسة العرقية والإثنية كزميلة في مركز تاور بجامعة ساوثرن ميثوديست في دالاس، إن سوء وصف الهوية العرقية لهاريس "يلعب دوراً في ترسيخ تلك الصورة المرتبطة بالأشخاص من أصول إفريقية المحكوم عليهم بالفشل، وبالماكر والمخادع، ولا ينتمي إلى أي مكان"، مضيفة: "إنها طريقة لمحاولة الإضرار بمصداقيتها بأي طريقة ممكنة".
ووصفت داليا ووكر هنتنجتون، المحامية الأميركية من أصل جامايكي والمؤيدة لهاريس منذ فترة طويلة، تعليقات ترمب التي تتحدى الهوية العرقية لنائبة الرئيس بأنها "متعالية".
وقالت هنتنجتون: "من الجهل أيضاً أن نعتقد أنه لا يمكن أن يكون لدينا سوى هوية واحدة" في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات بشكل متزايد: "أميركا عام 2024 هي أميركا التي تمثلها كامالا هاريس".
وقالت إنها تابعت مسيرة هاريس لسنوات، عندما اشتغلت كمدعية عامة محلية ومدعية عامة في كاليفورنيا، والتقت بها لأول مرة في حملة لجمع التبرعات بفلوريدا عام 2018 لحملة السناتور بيل نيلسون في فلوريدا، واستمرت في أن تصبح داعمة متحمسة لهاريس.
وتقوم ووكر هنتنجتون حالياً، بتنشيط شبكات الأصدقاء والأقارب والمعارف على أمل جعل هاريس تتفوق هذه المرة، وقالت: "أنا أدعمها لأنها امرأة قوية، وهي تدافع عن قناعاتها"، مضيفة: "حقيقة أنها جامايكية، هذا هو الكرز على الكعكة.. يجعلني أشعر وكأن هذه ابنة عمي تترشح لرئاسة الولايات المتحدة".
وعشية أداء اليمين كنائبة للرئيس، أخبرت هاريس صحيفة "واشنطن بوست"، أن والدها غرس فيها وفي أختها فخراً عميقاً بجامايكا وتاريخها.
وقالت ووكر هنتنجتون، إنها كانت سريعة في المزاح مع مجموعة منهم بلكنة جامايكية عندما التقوا بها لأول مرة في حدث نيلسون قبل بضع سنوات، فيما قال ابن عم نائبة الرئيس، شيرمان هاريس، إنه لم يرها منذ سنوات، لكن دونالد هاريس لا يزال يزور العائلة.
اعترفت جامايكا رسمياً بدونالد هاريس، ومنحته وسام الاستحقاق في عام 2021 "للمساهمة المتميزة في التنمية الوطنية"، وعلى مر السنين، عمل كمستشار اقتصادي للحكومة الجامايكية، وساعد في صياغة استراتيجية عام 2012 لتشجيع النمو الاقتصادي في الجزيرة.
وفي بلدة براون، كان هناك حديث عن إضافة وجه كامالا هاريس إلى الجدارية التي تصور شخصيات جامايكية بارزة تحيط بأراضي كنيسة القديس مرقس، كما قال ابن عمها، وتضم الجدارية حالياً شخصيات مثل العداء يوسين بولت والزعيم القومي ماركوس جارفي.
لكن بيلنافيس، عمدة سانت آن، قال إنه يفكر في شيء أكبر، ربما تمثال في مبنى بلدي أو بالقرب منه إذا فازت هاريس برئاسة الولايات المتحدة، مضيفاً: "ستتلاشى الجداريات التي تراها على الجدران في النهاية وما إلى ذلك.. نريد شيئاً أكثر ديمومة".