وسط تحذيرات "اليونيسكو".. آثار ومتاحف سودانية عرضة للتدمير

المتحف القومي في السودان - المصوّر السوداني إبراهيم سائحون
المتحف القومي في السودان - المصوّر السوداني إبراهيم سائحون
بورتسودان -خالد عويس

كشف مسؤولون سودانيون في حقل الآثار والمتاحف عن أخطار كبيرة محدقة بالمتحف القومي في الخرطوم، والآثار السودانية بشكل عام، فيما حذر باحثون ومثقفون من أن الحرب الحالية قد تطمس "ذاكرة" السودان التاريخية والحضارية، بعد تعرّض ما لا يقل عن 3 متاحف للنهب وأضرار مختلفة.

وقالت مسؤولتان في الهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية لـ"الشرق"، إن المعلومات تشير إلى أن متحف السودان القومي في الخرطوم تعرّض لعمليات نهب كبيرة.

وفيما فضلّت مسؤولة عدم ذكر اسمها، أشارت الثانية، وهي إخلاص عبد اللطيف أحمد، مديرة إدارة المتاحف بالهيئة العامة للآثار والمتاحف ورئيسة وحدة متابعة واسترداد الآثار المسروقة في السودان، إلى أن مخازن متحف السودان القومي تعتبر المستودع الرئيسي لكل آثار البلاد، موضحة أن متاحف سودانية  أخرى تعرضت للنهب والتدمير بينها متحف نيالا بدارفور ومتحف الخليفة عبدالله التعايشي بأم درمان.

وأكدت أن المتحف القومي بالخرطوم يحوي مقتنيات وآثاراً تعود لمختلف الحقب التاريخية منذ العصر الحجري وحضارات كرمة ونبتا ومروي وما قبل المسيحية، ثم الحقبتين المسيحية والإسلامية.

المتحف القومي.. "كنز" السودان

وقالت مديرة إدارة المتاحف بالهيئة العامة للآثار والمتاحف ورئيسة وحدة متابعة واسترداد الآثار المسروقة في السودان لـ"الشرق"، إن المتحف القومي تم افتتاحه في 1971 بعد أن كان ملحقاً صغيراً بجامعة الخرطوم.

وتم اختيار  موقعه الحالي على النيل الأزرق، وسط الخرطوم، لجغرافية المكان قريباً من ملتقى النيلين الأبيض والأزرق، بعد بناء السد العالي في مصر، والذي هدد بشكل مباشر الآثار السودانية، ما دفع السلطات السودانية لإطلاق نداء إلى اليونيسكو للمساعدة في حفظ آثار البلاد، وفقاً لإخلاص أحمد.

وبالفعل شرعت مؤسسات دولية في تنظيم حملات مكثفة للتنقيب وسحب كثير من الآثار الصخرية مثل المعابد وجداريات الكنائس من مواقعها إلى مواقع أخرى، بحسب المسؤولة السودانية.

وقالت إخلاص أحمد، إن "المتحف يتألف من صالتي عرض، الأرضية تحوي مقتنيات العصور الحجرية وثقافة المجموعات الحضارية ثم حضارة كرمة، والتي تعتبر المرحلة الأولي للحضارة الكوشية وعاصمتها كرمة، ثم انتقلت جنوباً إلى إقليم نبتا وجبل البركل حيث أنشئت العاصمة الكوشية الثانية، وفي عهدها شهدت الدولة الكوشية ازدهاراً وتوسعاً شمل حكم مصر قرناً كاملاً، إضافة إلى بلوغ جيوشها فلسطين والحدود الإثيوبية شرقاً ووادي هور غرباً".

وشرحت أحمد أن هذا القسم يضم أيضاً مقتنيات من حقبة مروي، وهي عاصمة المرحلة الثالثة لمملكة كوش وتفرت "بالمحلية وظهور الكتابة المروية وصراعها مع الإمبراطورية الرومانية والانتصار عليها بواسطة الملكات اللواتي كنّ يُعرفن بالكنداكات".

وأكدت أن المتحف يضم أيضاً قطعاً مصرية، نظراً للوجود المصري في عدد من أقاليم السودان خلال فترات مختلفة. أما القسم الثاني من المتحف في الطابق الأول، فيشمل مقتنيات العصر المسيحي والجداريات من كنائس فرس ودنقلا، والقليل من آثار مملكة الفونج لتمثيل المرحلة الإسلامية، حتى يتم إنشاء صالة عرض خاصة بها.

تدابير حكومية

واتخذت لجنة حماية وتأمين المجاميع المتحفية والمواقع الأثرية في السودان، وهي لجنة حكومية، الأسبوع الماضي، إجراءات قالت إن من شأنها حماية الآثار السودانية واستعادتها.

وبحسب بيان لها، بحثت اللجنة التي تضم في عضويتها النيابة العامة، ووزارة الخارجية، والهيئة القومية للآثار والمتاحف، والمخابرات العامة، وشرطة الجمارك، شرطة "إنتربول"، شرطة المباحث والتحقيقات الجنائية، شرطة السياحة، المعلومات المتداولة بشأن ما وصفته بـ"نهب مليشيا الدعم السريع للمتاحف في البلاد وخاصة المتحف القومي".

ومنذ بداية الحرب الحالية في السودان، فرضت قوات الدعم السريع سيطرتها على المنطقة المحيطة بالمتحف القومي في وسط الخرطوم. لكن هذه القوات أكدت سابقاً عملها على حماية كل آثار البلاد ومقتنياتها، غير أنها لم ترد على استفسارات "الشرق" بشأن التقارير الحديثة عن تعرّض المتحف القومي بالخرطوم للنهب.

"يونيسكو" تقرع أجراس الإنذار

وفي 12 سبتمبر، قرعت "اليونيسكو" جرس الإنذار بعد تلقيها، حسب بيان لها، تقارير تفيد بوجود اتجار "غير مشروع" للآثار السودانية. وأشار بيان المنظمة الدولية إلى احتمال تعرّض متاحف عدة في السودان للتدمير والنهب، بما في ذلك المتحف القومي في الخرطوم. ودعا المجتمع الدولي إلى اتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بحماية الإرث الحضاري للسودان والحيلولة دون الاتجار غير الشرعي للآثار السودانية.

وطالبت المنظمة الدولية الأطراف المتقاتلة بالالتزام بالقانون الإنساني الدولي وعدم التعرض للمرافق الثقافية أو استخدامها لأغراض عسكرية. وقالت إن المتحف القومي السوداني يضم قطعا تاريخية وتماثيل ومجموعات أثرية في غاية الأهمية و"لا تقدر بثمن".

وأشارت إلى أن قطعاً أخرى من التاريخ "المذهل" للسودان سُرقت، ربما، تبعاً لتقارير، من متحف الخليفة عبدالله التعايشي في أم درمان، وهذه ترجع لحقبة الثورة والدولة المهدية، إضافة إلى متحف نيالا في جنوب دارفور أيضاً. وأكدت أنها تدرس هذه التقارير جميعاً لتقدير الأضرار التي لحقت بالآثار السودانية.

ورأى عبد الحفيظ مريود، وهو باحث وكاتب سوداني، رأى أن هناك خطراً كبيراً على آثار السودان جراء الحرب. وقال لـ "الشرق"، إن طرفي الحرب درجا على استخدام كافة أنواع الأسلحة بما في ذلك الطائرات المسيرة والمدافع التي لا تفرق بين المرافق المدنية والعسكرية.

وأشار إلى أن استهدافاً "مدروساً" تم لبعض الجسور علاوة على القصر الرئاسي ومصفاة الجيلي في شمال الخرطوم، مضيفاً أن "الخطر الأكبر الذي يهدد الآثار هو الحرب نفسها، وليس الاتجار بها".

وبشأن الاتهامات الموجهة للدعم السريع بالضلوع في الاتجار بالآثار السودانية وإلحاق أضرار بالمتاحف، قال مريود إن هذه القوات "نشرت مقاطع مصورة أكدت فيها محافظتها على المتحف القومي"، غير أن الحديث يجري عن وصول قطع أثرية إلى جنوب السودان، بغرض البيع، الأمر الذي اعتبره "مشكوكاً فيه"، لأن النقل من الخرطوم إلى جنوب السودان محفوف بعقبات كثيرة من بينها عدم توفر طرق علمية في حفظ ونقل المقتنيات، فضلاً عن أن جمهورية جنوب السودان "ليست سوقاً للآثار".

غير أنه ختم بأن الحرب الحالية لم تشهد دخول أي طرف، باستثناء الدعم السريع إلى المتحف القومي وغيره من المتاحف للقطع بأن محتوياتها تم العبث بها أم لا.

مبنى المتحف القومي في السودان. 16 يناير 2022
مبنى المتحف القومي في السودان. 16 يناير 2022 - الصورة لصانع الأفلام والمصوّر السوداني إبراهيم سائحون

من جانبه، قال الباحث والأكاديمي السوداني، محمد جلال هاشم لـ "الشرق"، إن القضية برمتها تتوقف على فهم طبيعة الحرب، فـ"المنظمات الدولية تأتمر بأمر حكوماتها والخط العام السائد"، متهماً أجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل بالتمهيد لسرقة آثار العراق بعد غزوه، والمنظمات الدولية بـ"الصمت المطبق" عن العبث والأضرار التي لحقت بتاريخ الرافدين.

ومضى هاشم لاتهام هذه الأجهزة بصناعة "داعش" بغية نشر الفوضى وتشويه صورة العرب والمسلمين على حد تعبيره، وبذات الطريقة تم خلق "بوكو حرام" في الحزام السوداني.

وأضاف أن الحرب الحالية في السودان "تشنها دول إمبريالية، ولن تنبس المنظمات ببنت شفة"، داعياً الجيش إلى تخصيص قوة ضاربة لنظافة محيط المتحف القومي في منطقة مقرن النيلين في الخرطوم. وقال إن التقرير إذا كانت دقيقة، فإن سرقة الآثار تعد جريمة دولية.

"تاريخنا عرضة للضياع"

وذهب الروائي السوداني، حمور زيادة في حديثه لـ"الشرق"، إلى أن الاهتمام بتوثيق وحفظ تاريخ السودان لم يكن مرضياً في السابق، و"القليل الذي حفظناه أصبح عرضة للضياع".

وأشار إلى أن المتحف القومي ومتحف الخليفة عبدالله ومتحف القصر الرئاسي ودار الوثائق القومية وغيرها "هي جزء من ثقافة وتاريخ إنساني يتجاوز قيمته للسودانيين باعتباره جزءاً من ذاكرة الإنسانية و"من المعيب ألا تولي أي جهة هذا الأمر اهتماماً".

وتأسف زيادة كون متاحف أخرى في السودان تعرضت للنهب والسرقة، على حد قوله،

ومرت هذه الجرائم من دون اهتمام يذكر من الرأي العام. ولفت إلى أن وزير الثقافة السوداني، حين زار قبل 3 أعوام، الأهرامات في البجراوية - شمال السودان - عندما هددتها الفيضانات "شن أنصار النظام السابق حملة ضده، بحجة أن الآثار آخر اهتمامات السودانيين".

وقال إن حملات كهذه موجهة بالأساس ضد الآثار والتاريخ، ويسهل ترويجها في وقت الحروب في ظل قلة الاهتمام الرسمي والدولي، ضارباً المثل بما جرى في العراق وسوريا من نهب للآثار وتدميرها.

دعوة لحملة سودانية لإنقاذ الآثار

ودعا وزير الثقافة والإعلام السوداني السابق، فيصل محمد صالح، لإطلاق حملة لإنقاذ الآثار والمقتنيات التاريخية السودانية، لأن "حمايتها مسؤولية جماعية بغض النظر عن المواقف والانتماءات السياسية".

وأضاف صالح لـ"الشرق"، أنه من المؤسف أن يتعرض المتحف القومي للنهب والسلب، موضحاً أن كتاباً ومثقفين سودانيين خاطبوا جهات دولية من بينها "اليونيسكو" في هذا الشأن، بعد أن عرضت الدعم السريع مقاطع مصورة لعناصرها داخل المتحف القومي، ونجمت عن ذلك تصريحات إيجابية من قادة الدعم السريع، حسب قوله، للتأكيد على حماية الآثار، لكن ووفقاً له، فإن المعلومات الحالية "مزعجة للغاية" بحسب أن هذا التراث ملك للبشرية، ويخص تحديداً السودانيين، مشدداً على أن المسؤولية تقع على عاتق المجتمع الدولي، ولا سيما "اليونيسكو" في حماية الآثار والحيلولة دون بيعها، بل وإعادتها إلى السودان.

"مؤشر لانقسام مجتمعي خطير"

من ناحيته، أوضح الكاتب السوداني، محمد جميل أحمد، لـ"الشرق"، أن المحيّر حقا في حرب السودان، هو تعرض مؤسسات الثقافة ومقومات القوة الرمزية الناعمة للسودانيين كالمتاحف  إلى سرقات وأضرار، ما عدّه مؤشراً خطيراً وعلامة من علامات الهوية العبثية الضارة لهذه الحرب.

صورة متداولة على نطاق واسع تظهر الدمار الذي لحق بمبنى القصر الجمهوري القديم في الخرطوم
صورة متداولة على نطاق واسع تظهر الدمار الذي لحق بمبنى القصر الجمهوري القديم في الخرطوم - Twitter

ومضى أحمد للتأكيد أن الحروب الأهلية لا تشهد عادة تخريباً متعمداً للمؤسسات المشابهة، مشيراً إلى أن الاعتداء على متحف السودان القومي والعبث بمحتوياته وسرقتها، هو في أخطر احتمالاته "مؤشر انقسام مجتمعي خطير لأثر الحرب في النسيج الوطني للسودانيين".

وتابع أحمد: "وعادة حين تصل مراحل الحرب الأهلية إلى أطوار مثل  هذا الانقسام، فإن انعكاسات ذلك تعبر عن نفسها من خلال ذلك التخريب والعبث الذي جرى للمتحف الوطني السوداني".

وزاد: "وفي أخف التأويلات تعتبر حادثة الاعتداء على متحف السودان القومي والعبث بمحتوياته علامة  للفوضى وأثراً مؤسفاً من آثار سياسات تخريب الوعي الوطني في قطاعات كثيرة، بسبب الإهمال وممارسات سياسة التجهيل التي اشتغل عليها النظام القديم على مدى 30 عاماً."

ولا يقتصر التهديد على الآثار السودانية في الخرطوم فحسب، فقد دارت معارك في محيط جزيرة مروي في شمال البلاد، وهي مدرجة على قائمة التراث العالمي، ما أثار قلقاً واسعاً على آثار مملكة كوش التي تعود لقرابة 2500 سنة.

تصنيفات

قصص قد تهمك