تحتاج مشاهدة البث المباشر للقنوات التلفزيونية في المملكة المتحدة، إلى رخصة باتت تكلّف نحو 170 جنيهاً إسترلينياً (نحو 223 دولاراً) سنوياً، ومن يخالف القانون في هذا الشأن يعرض نفسه للسجن وغرامة تصل قيمتها إلى ألف جنيه (نحو 1312 دولاراً)، أما المستفيد من رسوم التراخيص وأموال الغرامات فهي جهة واحدة هي هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
والترخيص ليس فقط من أجل مشاهدة التلفاز، وإنما لمتابعة أي بث مباشر لقنوات فضائية أو أرضية أو إلكترونية عبر الحاسوب أو الأجهزة الذكية، كما أنه الطريقة الوحيدة للوصول إلى برامج هيئة الإذاعة البريطانية في جميع منصاتها، حتى يتاح تسجيلها أو تنزيلها أو مشاهدتها "حية" وعلى الهواء مباشرة، كما يقال.
شهدت السنوات الأخيرة سجالاً متصاعداً بشأن مواصلة الهيئة جمع مليارات الجنيهات عبر "رخصة البث المباشر"، رغم تغير معطيات كثيرة في المشهد الإعلامي المحلي والدولي خلال أكثر من 100 عام على صدور القرار الحكومي بفرض رسوم على البريطانيين لتمويل BBC، ومساعدتها في الحفاظ على حيادها.
الحكومة الجديدة
عندما جاءت الحكومة العمالية الجديدة إلى السلطة قبل 3 أشهر، توقع كثيرون أن يعاد النظر في رخصة BBC، وبدأ الحديث عن عدة خيارات للتعامل معها في مقدمتها ما يسمى بـ"المساهمة التبادلية"، أي أن البريطانيين الذين يدفعون ثمن الترخيص يستفيدون من عائدات الهيئة، ويساهمون في وضع ورسم خططها.
ورد متحدث باسم الهيئة على هذا الخيار في تصريح نقلته وسائل إعلام محلية، بالقول إن "التبادلية" المنشودة يمكن أن تؤثر على القرارات التحريرية لـBBC، ويهتز حيادها الذي واظبت عليه لعقود طويلة عبر الاعتماد على رسوم الترخيص، والابتعاد عن الإعلانات التي تنطوي على أجندات تجارية وسياسية.
السجال الذي تفجر بعد وصول "العمال" إلى السلطة، حسمه، السبت، رئيس الوزراء كير ستارمر عبر إعلان تمسك الحكومة الجديدة بالاتفاق المبرم بين الهيئة وحكومة "المحافظين" في عام 2016، الذي يتيح للهيئة الاستمرار في تحصيل رسوم التراخيص حتى عام 2027، ولكن بـ3 شروط رئيسية تلتزم بها الهيئة.
الشرط الأول هو الادخار من أموال التحصيل سنوياً، والثاني هو إعفاء من تجاوزوا الـ75 عاماً من رسوم التراخيص، لكن BBC نفذت هذا الشرط جزئياً، وقررت مسامحة فقط من يعيشون على الراتب التقاعدي بين أفراد هذه الفئة العمرية، ذلك لأن توسيع الدائرة سيكلفها أموالاً كثيرة من ميزانيتها، وفق بيان رسمي.
اتفاق 2016 وضع في حيز التنفيذ عام 2021 قبل أشهر من احتفال BBC بمرور 100 عام على تأسيسها.
أما الشرط الثالث الذي طرحه ستارمر، فكان عدم زيادة رسوم التراخيص خلال 3 سنوات، فبقيت عند 159 جنيهاً سنوياً حتى أبريل عام 2024، ثم صعدت لنحو 170 جنيهاً مع احتمال زيادتها في العام المقبل إذا اقتضت الحاجة.
3 إشكاليات
وتتمثل الإشكالية في رسوم BBC اليوم، في 3 جوانب أولها قيمتها المرتفعة من وجهة نظر البعض، وثانيها في الملاحقة القانونية للمتهربين من دفعها، أما الثالث فهو مدى تأثيرها على سوق الإنتاج التلفزيوني بكل أنواعه في حال فك احتكار الهيئة لأموال البث المباشر في بريطانيا، وتحكم الدولة بإنفاقها على القطاع.
وثمة تقرير صادر عن مجلس العموم في مارس الماضي يضع بريطانيا في المرتبة الرابعة بين دول أوروبا في رسوم التلفاز، بعد سويسرا التي يدفع مواطنوها 333 يورو (نحو 366 دولاراً) سنوياً، والنمسا 322 يورو (نحو 354 دولاراً) وألمانيا 220 يورو (نحو 242 دولاراً)، وهذا الترتيب لم يتغير بعد رفع BBC أسعارها في أبريل إلى ما يعادل 203 يوروات (نحو 223 دولاراً).
وكانت رخصة التلفاز في بريطانيا تُكلّف قبل 100 عام نحو نصف جنيه فقط، وبسبب ارتفاع قيمتها بشكل واضح مع مرور الوقت، اتسعت رقعة التهرّب منها وخاصة بعد 2012، حيث بلغت نسبة المتهربين من الدفع ذلك العام نحو 6% بين المستفيدين من خدمات البث المباشر، وارتفعت إلى ما يقارب 11% نهاية عام 2023.
النائب في البرلمان لي أندرسون واحد من الذين يرفضون دفع رسوم رخصة التلفاز، احتجاجاً على "تحيّز" هيئة الإذاعة البريطانية. والمفاضلة بين إنتاجها وإنتاج غيرها من وسائل إعلام كبرى في المملكة المتحدة اليوم، ليست نزعة فردية من أندرسون، وإنما حالة تتردد على ألسنة كثيرين في سوق حرة مفتوحة على المنافسة.
الملاحقة القضائية
أكثر من 5 ملايين منزل في بريطانيا ألغوا اشتراكهم في خدمة البث التلفزيوني المباشر بحلول عام 2023، ووفقاً لاستطلاع رأي أجري عبر منصة "واتش شوت" المتخصصة، وتباينت آراء المقاطعين لهذه الخدمة بين من يتهم BBC "بالتحيز"، ومن يقول إنه بات يشاهد برامجه المفضلة مسجلة عبر الأجهزة الذكية.
ومع تحوّل التهرب من دفع رسوم التلفاز إلى ظاهرة عرّضت 34 ألف شخص إلى المحاكمة والغرامة في عام 2023، بدأت الحكومة مناقشة جدية مع BBC لوقف التعامل مع هذه الحالة باعتبارها مسألة جنائية، خاصة، وأن النساء يشكلون نحو 75% من هؤلاء المخالفين، والأمر اكتسى نتيجة لذلك "طابعاً عدائياً" للمرأة.
وبحثت وزيرة الثقافة البريطانية ليزا ناندي المسألة مع BBC بعد تأييد وزارة العدل، ويبدو أن التهرّب من دفع رسوم التلفاز سيتحول قريباً إلى مخالفة مدنية، لا تستدعي السجن أبداً، ويجري تحصيلها بذات الآلية المتبعة في مخالفات السيارات والمواقف، وهو ما يضمن لـBBC أموالها، دون أن يعرّض المخالفين إلى أحكام جنائية.
وتخشى BBC أن يكلّفها التحول لنظام العقاب المدني بدل الجنائي في ملاحقة المتهربين من دفع الرسوم نحو مليار جنيه سنوياً (نحو 1.312 مليار دولار)، ولكن المحامي المختص في شؤون التقنية جيرمي فينت، أكد لـ"الشرق"، أن الآلية المدنية في تحصيل الغرامات أصعب من المحاكم التي تبدي مرونة للمخالفين، وتسمح لهم بتقسيط المخالفات.
عائدات الترخيص
تجمع BBC من رخصة التلفاز أكثر من 3 مليارات جنيه (3.936 مليار دولار) سنوياً منذ عام 2012، ووصلت القيمة إلى نحو 3.8 ملياراً نهاية العام المالي المنتهي في أبريل 2023، قبل أن تزيد الهيئة من رسومها إلى نحو 170 جنيه سنوياً هذا العام، إذ من المتوقع أن تجمع نحو 5 مليارات جنيه حتى شهر أبريل 2025.
وأشارت مديرة الرصد في منصة "واتش شوت" لورين هيل، إلى أن حياد BBC لم يعد محط إجماع بين البريطانيين، ومع ازدحام السوق الإعلامية بالمنافسين المحليين أو الدوليين بات أمام الناس خيارات كثيرة للمقارنة، والتدقيق في المحتوى المعروض عليهم، وانتقاء ما يبدو أكثر قبولاً، وموائمة لتوجهاتهم بشكل أو بآخر.
ويبدو تولي الحكومة مسؤولية جمع عائدات الترخيص وتوظيفها في دعم جميع وسائل الإعلام المحلية، فكرة مقبولة بالنسبة لهيلي، ربما تتفق فيها مع كثيرين ممن يعتقدون بأن رسوم BBC ليست عادلة، وهؤلاء وفقاً لاستطلاع حديث أجرته مؤسسة "يوجوف" تتجاوز نسبتهم 60% على الأقل من سكان المملكة المتحدة.
وصدر قرار ترخيص البث المباشر عام 1923 لصالح الإذاعة أو الراديو، ومقابل نصف جنيه تقريباً جمعت الدولة أكثر من 200 ألف ترخيص في ذلك العام، ثم ازداد العدد إلى 2.5 مليون ترخيص بحلول عام 1928، وعندما انضم الإنتاج التلفزيوني إلى الترخيص في عام 1946 صعدت الرسوم إلى 2 جنيه إسترليني.
وتولت هيئة الإذاعة البريطانية مسؤولية إدارة رسوم ترخيص البث المباشر، وفق قانون البث الإذاعي الصادر عام 1990. وكتب المحرر التقني في صحيفة "إندبندنت" البريطانية ألكس جرين، أن هذا التشريع ربما لا يبقى على حاله بعد 2027، وستجد الحكومة قبل ذلك التاريخ صيغة أخرى لجمع هذه الرسوم أو لتوظيف عائداتها.
ولفت جرين إلى أن مراجعة كل الخيارات في هذا الخصوص بدأت منذ عهد حكومة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون في عام 2022، ولكنها تعطلت عدة مرات.
أما الباحث في كلية "جرين تمبلتون" روبارت بيكارد، فكتب في موقع "كونفيرزيشن"، إن الخيار الذي ستتبناه الحكومة في هذا الشأن مستقبلاً أياً كان، سيؤثر على الإنتاج التلفزيوني البريطاني داخل البلاد وخارجها، ذلك لأن BBC ليست مجرد قناة، وإنما هي علامة فارقة في هذا القطاع، وأي تغير في محددات إنتاجها سوف يؤثر محلياً وعالمياً بشكل واسع.