لم يمض وقت طويل على تدشين مقبرة في جنوب تونس مخصصة لضحايا "قوارب الموت" حتى امتلأ نصفها.. في هذا المكان المزروع بالزهور ترقد جثامين مهاجرين لقوا حتفهم خلال محاولة عبور البحر نحو أوروبا، ويقول مؤسسه إن الهدف منه حفظ كرامة الضحايا المجهولين.
صُمم باب مدخل المقبرة القديم بأسلوب هندسي تونسي يعود للقرن السابع عشر، ويؤدي إلى مسالك صغيرة أرضها مغطاة ببلاط سيراميك مزخرف باليد، تعلوها قبّة بيضاء وقاعة صلاة لمختلف الأديان.
أسس مشروع "حديقة إفريقيا" الفنان الجزائري ورجل الدين رشيد قريشي، الذي قال إن المهاجرين المدفونين "الذين قضوا في البحر"، "واجهوا الصحراء والعصابات والإرهابيين"، وأحياناً التعذيب ثم الغرق، و"أردت أن أمنحهم جزءًا من الجنة" بعد جحيم محاولات العبور على أمل تحسين حياتهم.
في نهاية العام 2018، اشترى قريشي (74 عاماً) قطعة أرض في منطقة جرجيس القريبة من الحدود مع ليبيا، يحيط بها شجر الزيتون.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن هناك أكثر من 21 ألف وفاة بين مهاجرين ولاجئين مسجلة منذ العام 2014 في البحر الأبيض المتوسط.
"تكريم للباحثين عن حياة أفضل"
وزارت المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي الأربعاء، المقبرة وكرّمت "الذين لقوا حتفهم وهم يبحثون عن حياة أفضل".
وقالت المسؤولة في كلمة ألقتها في المكان: "في هذا البحر حيث كتب جزء من التاريخ، تدور اليوم مأساة"، مشيرة إلى أن عدد الضحايا "المفقودين أكبر بكثير (مما هو معروف) ويتم تجاهله ونسيانه".
في المقبرة، يصطف قرابة مئتي مدفن، مرقّمة ومطلية باللون الأبيض ومحاطة بخمس شجرات زيتون ترمز لأركان الإسلام الخمسة، و12 كرمة لصحابة المسيح. ويمكن قراءة بعض المعلومات على شواهد القبور من قبيل "امرأة بفستان أسود، شاطئ الحناشي"، و"ورجل بثوب أسود، شاطئ فندق خمس نجوم".
وتضفي رائحة زهر الياسمين وروائح شجيرات أخرى سكوناً على المكان الذي يستقبل أحياناً جثثاً متعفنة.
ويتم انتشال هذه الجثث من البحر بعد حوادث غرق، أو تصل أحياناً إلى الشواطىء في الجنوب التونسي بسبب التيارات البحرية. وغالباً ما تكون لأشخاص خاضوا المغامرة انطلاقاً من ليبيا أو من تونس.
تقول المهاجرة فيكي (23 عاماً) التي قدمت من النيجر مشياً على الأقدام، إنها حاولت مرّات عدة الوصول إلى السواحل الإيطالية انطلاقاً من ليبيا دون جدوى.
وتتنقل فيكي بين مسالك المقبرة الحديقة وفي عينيها نظرات يائسة. وتضيف: "أحلم بالذهاب إلى أوروبا والتخصص في الموضة، ولكنني عشت جحيماً. عندما أرى هذا، لا أعود متأكدة من أنني سأحاول ركوب البحر مرة ثانية".
ويتم تشييد مبنى في المقبرة ليضم لاحقاً قاعة تشريح تسهّل عملية التعرّف على الجثث.
وتجرى التحاليل حالياً في مستشفى محافظة قابس الذي يبعد 140 كيلومتراً، وتواجه السلطات المحلية صعوبات في نقل الجثث في ظروف صعبة.
"المكان الرمز"
وصمّم الفنان الذي فقد شقيقه غرقا في البحر، المكان، "لمساعدة العائلات على بكاء موتاهم، ولكي يدركوا ولو بمجرد صور (ترسل إليهم) أن هناك مكاناً للدفن بكرامة".
ويتابع "هو أيضاً مكان رمز مثل قبر الجندي المجهول، لأن الكلّ مسؤول عن هذه المأساة".
ويموّل رشيد المشروع بأكمله. وكان باع عدداً من أعماله الفنية لجمع المال في البداية والانطلاق في مشروعه بعد أن ظهرت العديد من العراقيل في عملية دفن الجثث التي يتم انتشالها من البحر، في مدينة جرجيس التي يعيش فيها العديد من الصيادين.
ومنذ مطلع العام 2000، أخذت بلدية جرجيس على عاتقها دفن أكثر من ألف جثة لمهاجرين مجهولين جاؤوا من آسيا وإفريقيا والمناطق القريبة، في قطعة أرض معزولة عن المدينة.
ويكشف رئيس بلدية جرجيس مكي لعريض أن "العديد من الشباب في جرجيس هاجروا إلى أوروبا عبر البحر ومات بعضهم. حين نشاهد المهاجرين، نرى فيهم أبناءنا".