لطالما أكدت مصر وإثيوبيا، الطرفان الرئيسيان في أزمة سد النهضة، حرصهما على اتباع الطرق السلمية، وتفادي أي مواجهة عسكرية قد لا تحمد عقباها. وشهدت السنوات الماضية، حتى وقت قريب، مباحثات عميقة وجولات مكوكية من عاصمة إلى أخرى، دون أي نتائج تُذكر.
لكن بموازاة ذلك، كانت تجري في العالم الافتراضي مواجهة ساخنة بين الإثيوبيين والمصريين، وفقاً لتقرير نشرته مجلة فورين بوليسي، ميدانها مواقع التواصل، جنودها نشطاء مدفوعون بفيض مشاعر وطنية، وأسلحتها هواتف ذكية، وذخيرتها منشورات تؤكد عدالة القضية.
على الرغم من وعود سابقة بعدم اتخاذ قرارات أحادية، فإن إثيوبيا أعلنت رسمياً، في الـ15 من يوليو الماضي، البدء بالمرحلة الأولى في ملء سد النهضة، مستغلة موسم هطول الأمطار، ما أحدث صدعاً في مسار المفاوضات، ولا سيما بالنسبة إلى الجانب المصري، الأكثر تضرراً، كما يؤكد دائماً.
وتصاعد التوتر مع فشل الاتفاق على صيغة مرضية للجميع، إذ تشترط مصر اعتماد آلية ملء السد على الأمطار، لضمان الحد الأدنى من التدفق في حالة حدوث جفاف، في حين تقول إثيوبيا: إن مثل هذا الضمان غير مقبول.
وفي ما بدا أنه موقف دولي مؤيد للمطالب المصرية، أعلنت واشنطن، في أغسطس الفائت، تعليق جزء من مساعداتها المالية إلى إثيوبيا، رداً على ما وصفته بالقرار أحادي الجانب، في إشارة إلى ملء السد قبل التوصل لاتفاق.
في ذلك الوقت، وبعيداً عن البيانات الرسمية والقنوات الدبلوماسية، عادت المواجهة إلى ساحات مواقع التواصل، وتحت تغريدة أعلن فيها حساب "إثيوبيا بالعربي" بدء ملء السد رسمياً، انهالت التعليقات من كل حدب وصوب، وتفاوت مدى حدتها بين الدعوى إلى التوزيع العادل لمياه النيل، وبين من يلوح بقوة بلاده العسكرية، واللافت أن تعليقات بعض رواد مواقع التواصل السودانيين، كانت متباينة في ردود الفعل.
وفي منتصف عام 2020، سُئل وزير المياه الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، في مؤتمر صحافي، عن الجهة التي ستسيطر على سد النهضة بمجرد اكتماله، وقد بدا متفاجئاً، قبل أن يرد باقتضاب: "إنه سدي"، ثم ما لبث أن تبنى الإثيوبيون تلك الإجابة، لتصبح شعاراً ووسماً تضج به مواقع التواصل.
ورد المصريون على عبر المنصات ذاتها بنداءات أكثر حنكة وهدوءاً، واستخدموا هاشتاغات مثل: Nile4All# بمعنى "النيل للجميع"، وEgyptNileRights# للإشارة إلى الحق المصري بمياه النيل، في حين ذهب البعض إلى خيارات أكثر حدة، عبر التلويح بقدرات الجيش المصري.
دبلوماسية ناعمة
في السنوات الأخيرة، زادت إثيوبيا نشاط دبلوماسيتها الناعمة في مخاطبة العالم العربي، مستغلة ما توفره منصات التواصل من اتصال مباشر وسريع وشامل، وعلى غرار دول أخرى، أنشأت أديس أبابا حساب "إثيوبيا بالعربي"، المخصص لنشر معلومات تاريخية وأخبار عن إثيوبيا وقضاياها ومظاهر التطور فيها، ومن ضمنها كل ما يتعلق بسد النهضة.
ويكشف تقرير نشره معهد أكسفورد عام 2019، بعنوان "النظام العالمي للمعلومات المضللة والتلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي"، كيف أن الحكومة الإثيوبية تستخدم حسابات لنشر دعاية مؤيدة لسياساتها، وتقول الدراسة، بناء على رسائل إلكترونية مسربة، إن أديس أبابا تُرسل موظفين بشكل رسمي إلى الصين، لتلقي تدريبات تهدف إلى تطوير مهاراتهم في استثمار مواقع التواصل، والتأثير في الرأي العام.
كما تُعلق الدبلوماسية الإثيوبية الآمال، على رئيس الوزراء، آبي أحمد، في الترويج للوجه الجديد للبلاد، وتحاول استثمار ما يتمتع به من كاريزما وحيوية في تحقيق ذلك، إذ يظهر مثلاً الزعيم الشاب (44 عاماً)، خلال أحد مقاطع الفيديو، في أحد شوارع العاصمة، متنكراً بزي شرطي، ويوزع بطاقات التهنئة على المواطنين، بمناسبة العام الجديد 2013 في التقويم الإثيوبي.
هجوم 19 يونيو
في واقعة هي الأولى من نوعها منذ بدء الصراع، أعلنت مجموعة "قراصنة" يحملون اسم "Cyber_Horus Group"، في الـ19 من يونيو الماضي، اختراق عدد من المواقع الإثيوبية الحكومية، رداً على ما وصفوه بـ"تعنت أديس أبابا في موقفها مع مصر بشأن قضية سد النهضة".
وعلى واجهة كل الموقع المُخترقة، وضع "القراصنة" المصريون صورة هيكل عظمي بهيئة فرعون، ممسكاً بمنجل في يد وسيف في اليد الأخرى، تركوا تحته رسالة، تقول: "إذا انخفض مستوى النهر، فليُسرع جميع جنود الفرعون ويعودوا فقط بعد تحرير النيل، مما يعوق تدفقه وسريانه.. الانخراط مع مصر في حرب، قد يكلفك كثيراً، ولتكن لعنة الفراعنة على كل من أراد السوء بمصر".
استهدفت العملية 11 موقعاً تابعاً للحكومة، منها: كلية جنوب الشرطة، ومكتب التطور التعليمي في إثيوبيا، إضافة إلى وكالة الإحصاء المركزية، ومجلس الأمم الإثيوبية، وانتشرت أخبار الهجوم على نطاق واسع، خاصة في منصات التواصل الاجتماعي.
آنذاك، صرح أحد المقرصنين الأربعة الذين نفذوا الهجوم الإلكتروني، وفقاً لـ"فورين بوليسي"، بأن التخطيط للهجوم الإلكتروني استغرق بضعة أسابيع فقط، لافتاً إلى أن العملية كانت سهلةً جداً، وأضاف الشاب الذي طلب عدم كشف اسمه، لما يترتب على ذلك من ملاحقة قانونية، أن "هناك قوة أكبر من الأسلحة".
لا يوجد أية أدلة على تورط أي من الحكومتين في هجمات إلكترونية ضد الأخرى، غير أن ازدياد ظهور عمليات القرصنة في الآونة الأخيرة يثير قلق بعض المراقبين، أحدهم، جيلبرت نيانديجي، الرئيس التنفيذي لمنتدى الدفاع الإلكتروني في إفريقيا، والذي أكد للمجلة الأميركية أن ما يجري، يُمثل أول صراع إلكتروني إفريقي من نوعه، محذراً في الوقت نفسه من آثاره المحتملة بعيدة المدى.
النهضة يوحد إثيوبيا
تعود فكرة إنشاء السد إلى أكثر من 6 عقود، حيث نُوقشت الفكرة للمرة الأولى في عهد إمبراطور إثيوبيا هيلي سيلاسي، آنذاك وُضعت بعض الخرائط الأولية، غير أن الظروف السياسية حالت دون تنفيذ المشروع.
وفي عام 2011، كانت البداية الحقيقية لإنشاء سد النهضة، بتكلفة بلغت حتى وقت قريب أكثر من 5 مليارات دولار، حيث تعوّل إثيوبيا التي بلغ عدد سكانه قبل عامين أكثر من 109 ملايين نسمة، على هذا المشروع الضخم لتغيير واقعها، ولذلك أطلقت عليه اسم "سد النهضة"، ولا سيما أيضاً أنها شهدت أزمة عطش تاريخية من جراء العجز عن استثمار مياه النيل، ومن المتوقع بنهاية إنشاءات السد أن تملك إثيوبيا أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في إفريقيا.
وفضلاً عن الفقر والعطش، لطالما عانت إثيوبيا انقساماً عرقياً، إذ لا تزال مجتمعاتها هشة أمام الدخول في صراعات محلية، وهو ما حدث بالفعل قبل مدة قصيرة، ولهذا يُشكل السد في نظر الكثيرين، قضية يلتف الإثيوبيون حولها، على اختلاف إثنياتهم وأعراقهم، ويبدو ذلك جلياً في توافق الرأي العام داخل إثيوبيا، والذي تعكسه مشاركاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
ينقسم نهر النيل إلى رافدين رئيسيين، هما النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا، والأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا، ومنذ بداية القرن العشرين وعلى مدى 60 عاماً لاحقاً، شهدت منطقة حوض النيل إبرام العديد من الاتفاقيات حول تقاسم مياه النهر، تصفها إثيوبيا بأنها جميعها مجحفة وغير منصفة.
النيل في الوجدان المصري
وصلت المفاوضات حول أزمة سد النهضة إلى طريق شبه مسدود، وهو ما عبر عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما أكد أن "قلق الأمة المصرية يتصاعد حيال المشروع الإثيوبي، محذراً من مخاطر عدم دون التوصل لأية حلول.
وأشار السيسي إلى أن مصر خاضت منذ بداية العام الجري جولات متعاقبة من المفاوضات المكثفة، بغية إبرام اتفاق حول تنظيم ملء السد، وهي العقد الأبرز في القضية، إلا أن تلك الجهود لم تسفر عن أي نتائج، وفق قوله، مؤكداً أن مياه النيل بالنسبة لمصر "ضرورة للبقاء دون انتقاص من حقوق الأشقاء".
للدولة المصرية أيضاً وسائلها لمخاطبة العالم في تعزيز موقفها من القضية، فمنذ نحو 3 أشهر، نشرت وزارة الهجرة المصرية عبر صفحتها في "فيسبوك" مقطعا ترويجياً بتسع لغات، العربية والسواحلية والأمهرية والفرنسية والإنجليزية والصينية والروسية والإيطالية والألمانية، حملت كل النسخ العنوان نفسه "حق مصر في مياه النيل"، وذكرت الوزارة خلاله، أن أكثر من 40 مليون مصري يواجهون خطر الجفاف والعطش، وذلك نتيجة سد النهضة الذي يزيد عن حاجة إثيوبيا بأكثر من خمس مرات.
لطالما حظي النيل بمكانة خاصة في الوجدان المصري، لا يتعلق ذلك بأسباب تاريخية فحسب، بل أيضاً باعتباره مورداً مصيرياً للحياة، فالمصريون يعيشون على 7% فقط من مساحة الدولة الإجمالية، وتحديداً على ضفاف النيل وما حولها، حيث تنتشر الزراعة وتتوفر البيئة الصالحة للعيش.
على مدى الأعوام الماضية، استحضر سد النهضة أقصى المشاعر القومية لدى الإثيوبيين والمصريين، على السواء، باختلاف نظرة وموقف كل طرف تجاه المشروع، والنزاع، بما في ذلك فوائده ومخاطره، فهو، على ما يبدو، أكثر من مجرد مياه داخل كمية هائلة من الخرسانة المسلحة.