مُنعطف جديد دخلته أزمة سد النهضة بعد إعلان إثيوبيا رسمياً الاثنين، اكتمال المرحلة الثانية من الملء بنجاح، مؤكدة في الوقت ذاته أن مخزون المياه الحالي سيكون كافياً لبدء إنتاج الطاقة.
ورغم إرسالها التطمينات لجيرانها إلا أن دولتي المصب استنكرتا الأمر بشدة. وفي أول رد فعل، أكدت وزارة الخارجية السودانية لـ"الشرق"، رفضها خطوة أديس أبابا الأحادية بملء السد دون اتفاق قانوني وملزم.
وقالت هيئة الإذاعة الإثيوبية إن عمليات إنشاء السد أنُجزت بنسبة 80%، مضيفة عبر حسابها بموقع فيسبوك، أنه تم جمع أكثر من 15 مليار و729 مليون "بر إثيوبي"، من الإثيوبيين لبناء السد (نحو 355 مليون و400 ألف دولار).
وأكد وزير الطاقة والمياه الإثيوبي سيليشي بيكيلي، اكتمال الملء الثاني للسد، وأوضح في تغريدات على تويتر، أن حجم المياه أصبح كافياً لتشغيل تربونين لتوليد الكهرباء.
وأوضح مدير خزان الرصيرص السوداني المهندس حامد محمد، أن عملية تفريغ خزان السد مستمرة منذ يوليو الماضي وحتى اللحظة، مشيراً إلى أن بلاده "مستعدة لاستقبال وارد المياه عقب الملء الثاني لأن الأمر لا يخلو من تأثيرات سالبة منها حدوث فيضانات".
وفي 5 يوليو الجاري بدأت المرحلة الثانية من ملء سد النهضة، والتي تتطلب تخزين 13.5 مليار متر مكعب من المياه، لتتصاعد الأزمة إلى مستويات جديدة، فيما بات أقرب لـ"قنبلة موقوتة" على وشك الانفجار.
لكن ماذا يعني الملء الثاني لسد النهضة؟ وما هي تداعياته على دولتي المصب.. مصر والسودان؟ وما هو السيناريو المتوقع لردود الفعل خلال المرحلة المقبلة؟
ماذا يعني الملء الثاني؟
في حديث لـ"الشرق"، أوضح خبير المياه والأراضي الزراعية الدكتور نادر نور الدين، أن اكتمال الملء الثاني لسد النهضة في مثل هذا الوقت، يعني أن التخزين تم بحد أقصى يصل إلى 9.6 مليار متر مكعب، تضاف إلى ما خُزّن العام الماضي بنحو 4.9 مليار متر مكعب، وبالتالي يكون إجمالي المياه المخزنة أمام السد نحو 14.5 مليار متر مكعب".
وقال نور الدين إن حجم الملء هذا يمنح أماناً ذاتياً لسد النهضة ضد أي عمل عسكري مُحتمل، حيث أن اندفاع هذا الحجم الكبير من المياه إلى السودان مرة واحدة وفي ساعة أو يوم واحد كفيل بتدمير مساحات شاسعة من شرق السودان وصولاً إلى الخرطوم.
وقد يجرف ويضر السدود السودانية الثلاث الروصيرص وسنار على النيل الأزرق، ومروي عند التقاء الفرعين.
أما بالنسبة لمصر، فقد تصل المياه إلى بحيرة السد العالي بعد 17 يوماً، دون حدوث أضرار، لأن البحيرة قادرة على استيعاب هذا الحجم من المياه.
وأشار نور الدين إلى أن تخزين إثيوبيا هذا العام 6.9 مليار متر مكعب من المياه يعني حرمان السودان ومصر من استلام حصتهما المياه المعتادة سنوياً.
وفي الوقت نفسه سيضطر البلدان بحسب نور الدين إلى البحث عن مصدر آخر للمياه أو السحب من المخزون الاستراتيجي ما يعادل هذا الحجم من المياه، وذلك لتعوض النقص الحاد، وفي هذه الحالة سيكون التأثير مزدوجاً، فمن جهة تٌحرم مصر والسودان من 6.9 مليار متر مكعب، ووفي آن واحد تستنزفان مخزونهما، الأمر الذي سيؤثر على مستقبل الأمن المائي في البلدين.
كيف ترى مصر التطمينات؟
الخبير المصري اعتبر أن تصريحات وزير الطاقة والمياه الإثيوبي التي قال فيها إن المياه ستتدفق إلى مصر والسودان عبر الفتحتين السفليتين للسد، لا تتمتع بالشفافية المطلوبة، بحسب تعبيره.
وأوضح نور الدين أن "هذا يعني أن الملء لا يزال مستمراً ولم يكتمل، ثم يزعم الوزير الإثيوبي أن المياه وصلت إلى أعلى الحاجز الأوسط وستتجه إلى مصر والسودان، ومعنى ذلك أن الملء قد اكتمل وأنهم لم يستطيعوا العمل في إضافة ارتفاعات جديدة للحاجز الأوسط فوق المستوى الذي سبق الإعلان عنه بارتفاع 13 متراً فقط، وسط الأمطار الغزيرة، وفيضان النهر الذي يبدو مرتفعاً نسبياً هذا العام".
وتابع: "كما أن البيان الإثيوبي غير الصريح لم يوضح حجم الملء الثاني الذي تم. هل هو 6.9 مليار متر مكعب، وفقاً للبيان الأول في 7 يوليو الماضي، والخاص ببدء الملء لارتفاع 13 متراً فقط للحاجز الأوسط للسد، أم وفقاً لبيان الشركة الإيطالية المنفذة للسد بأنها توصلت إلى خلطة اسمنتية جديدة تمكنها العمل تحت ظروف الأمطار الغزيرة وفيضان النهر للوصول إلى ارتفاع 30 متراً للحاجز الأوسط، واحتجاز 13.5 مليار متر مكعب. فهل التخزين الذي تم حجزه 6.9 مليار متر مكعب، أم أنه سيصل إلى 13.5 مليار مترب مكعب؟".
وأشار نور الدين إلى أنه في العموم يبلغ متوسط تدفقات النيل الأزرق أثناء الفيضان 11 مليار متر مكعب في الشهر، وقد تصل إلى 15 مليار متر مكعب إذا كان الفيضان مرتفعاً كما تُبشر أمطار هذا العام.
وبالتالي فإن إثيوبيا يمكنها تخزين ما بين 7و9 مليارات متر مكعب خلال الفترة المنقضية من شهر يوليو الجاري الذي يشهد عادة الفيضان الفعلي للنهر.
وبالتالي يمكنها تخزين 6.9 مليار متر مكعب المستهدفة، ولكن ليس أبداً حجم 13.5 مليار متر مكعب الذي يتطلب التخزين حتى نهاية الأسبوع الأول من أغسطس.
ويرى نور الدين أنه بشكل عام فإن هذه الأحجام كافية لتوليد الكهرباء من التوربينين السفلييين، ولكن من المؤكد أن هناك مشاكل في تركيب التوربينات وأنها غير قادرة على توليد الكهرباء خلال هذه الفترة، إلى جانب أن محطة الكهرباء وكابلات وشبكة نقل الكهرباء لم تتم بعد، ما يعني أن إثيوبيا لا يمكنها توليد الكهرباء ونثرها في الهواء لعدم وجود شبكات الضغط العالي لنقل الكهرباء، سواء إلى داخل إثيوبيا أو خارجها للتصدير".
سيناريوهات مقبلة
أما بالنسبة للسيناريو المتوقع بعد الملء الثاني، فيعتقد نور الدين، بحسب قوله لـ"الشرق"، أن المرحلة المقبلة ستشهد عودة إلى المباحثات الدبلوماسية، مع انحسار كافة الخيارات المتعلقة بحدوث عمل عسكري ضد السد.
وأضاف: "هذه الخطوة ستمنح إثيوبيا قوة أكبر في المفاوضات، خاصة بعد توصية مجلس الأمن بعودة الدول الثلاث إلى مظلة الاتحاد الإفريقي فقط، دون التوصية بمشاركة دولية من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو البنك الدولي أو الأمم المتحدة".
لكن مع ذلك، يرى نور الدين أنه بإمكان مصر تنفيذ ضربة عسكرية على السد الجانبي للمشروع، والذي لا يمكنه بدء تخزين المياه إلا إذا تجاوز تخزين بحيرة السد 14.5 مليار متر مكعب، وبذلك يمكن للقاهرة حرمان إثيوبيا من أي تخزين إضافي خلال السنوات المقبلة.
وكذلك تقليص سعة سد النهضة إلى 14.5 مليار متر مكعب فقط، بدلاً من 75 مليار متر مكعب المستهدف تخزينها، وفي حال هذا السيناريو، كما يُشير الخبير المصري، ستتوقف أي أضرار مستقبلية عن التخزين خلال قادم الأعوام.
"إثيوبيا لن تتراجع"
من جانبه، يعتقد الصحافي الإثيوبي أنور إبراهيم أن أديس أبابا ستواصل تقديم التطمينات للسودان ومصر بشأن الملء الثاني، لافتاً إلى أن "الخطوة في الأصل لا تتعدى أن تكون مجرد عملية ملء جزئية لبحيرة سد النهضة".
وقال إبراهيم إنه "يمكن للدول الثلاث الجلوس ووضع خارطة طريق لعملية التفاوض، حتى لا تكون هنالك هواجس أو تخوفات من أي تحركات قادمة في هذا الملف، وهنا لابد من الثقة المتبادلة والتي ظلت غائبة لفترات طويلة، خاصة بعد الملء الأول، إضافة إلى ضرورة الابتعاد عن التصعيد من قبل الأطراف الثلاث".
وأوضح أن إثيوبيا ترفض أي حديث أو تفاوض بشأن الاتفاقيات القديمة لتقسيم مياه النيل، لاسيما تلك التي تراها مُجحفة بحقها، وأردف: "الإثيوبيون يرفضون حتى سماع ما يُسمى بالحقوق التاريخية لدولتي المصب".
وفي ما يتعلق بعدم إفصاح إثيوبيا عن حجم المياه في الملء الثاني، اعتبر إبراهيم في حديثه لـ"الشرق"، أن ذلك ليس مهماً ما دامت المرحلة الثانية نجحت واكتملت، خاصة أن "مصر والسودان كانتا تسعيان لعرقلة هذه المرحلة عبر حجج متعددة".
وأضاف: "إن لم تعترف مصر والسودان بحق إثيوبيا في النيل، وبالتالي مشروعية سد النهضة وأية مشاريع أخرى، سيدخل الملف في دوامة جديدة من الخلاف، وفي حال التلويح باستخدام القوة العسكرية، فلن تكون إثيوبيا وحدها، بل ستكون كافة دول حوض النيل في صفها".
وقال إبراهيم إن "الخلاف بشأن سد النهضة أصبح صراعاً يحمل في طياته أفكاراً استعمارية، ومحاولة لفرض وصايا على نهر النيل".
ولفت إلى أن "الداخل الاثيوبي يرى أن هناك من يحاول عرقلة مشاريعه التنموية التي ينتظرونها بفارغ الصبر. والآن تتلقى إثيوبيا دعماً إفريقياً كبيراً، لأن الجميع يسعي للاستفادة من مياه النيل مستقبلاً".
ثمة طريق واحد لإيجاد حل لقضية سد النهضة، بحسب أنور إبراهيم، ويتمثل في تفهّم الدول لمصالح بعضها البعض، ومن ثم تقديم بعض التنازلات.
وتابع: "لا أتوقع وصول التوتر بين إثيوبيا ومصر والسودان إلى درجة النزاع العسكري، فالحلول في نهاية المطاف ستكون سلمية وعبر التفاوض".
السودان يختار طريف التفاوض
ما إن أعلنت أديس أبابا اكتمال الملء الثاني لسد النهضة حتى سارعت الخرطوم للتنديد بهذه الخطوة، محذرة من مخاطر ذلك على مصالحها المائية.
وفي حديث لـ"الشرق"، قال خبير استراتيجيات المياه سامي محمد أحمد، إن إثيوبيا كانت تخطط لملء السد في المرحلة الثانية بمقدار 13.5 مليار متر مكعب عندما يكون منسوب البحيرة 595 متراً فوق سطح البحر، إلا أن المنسوب لم يتجاوز 575 متراً، ما أدى إلى تقليل حجم المخزون في الملء الثاني، بما لا يتجاوز 3 مليار متر مكعب، وهو الأمر الذي يضر بالسودان كثيراً.
وأضاف محمد أحمد: "من المتوقع أن يبلغ الفيضان ذروته خلال الشهر المقبل، ما يعرض السودان إلى فيضان على طول مجرى النيل. كما أن شح البيانات من الجانب الإثيوبي يؤثر على الخطة المائية السودانية وسلامة سدودها، لا سيما الرصيرص الذي يبعد 100 كيلو متر فقط من سد النهضة ".
وأشار الخبير السوداني إلى أن حجم المخزون المائي في سد النهضة هذا العام سيؤثر على خطة الملء للعام المقبل، إذ لم تستطع إثيوبيا تحقيق هدفها المُقدر بـ 10 مليار متر مكعب، وسيلقي ذلك بظلاله على مستقبل التفاوض الذي يتطلب المرونة من كل الأطراف.
وتابع: "يعتبر السودان التصرفات الأحادية من إثيوبيا، وعدم تبادل البيانات، خرقاً كبيراً (لإعلان المبادئ عام 2015)، إذ تأمل الحكومة في التوصل لاتفاق تتكامل فيه المصالح اقتداءً بتجارب إفريقية وعالمية تُشكل نموذجاً لحسن النوايا، على غرار تجربة نهر السنغال".
مع ذلك، بالنسبة لخبير استراتيجيات المياه، هناك فوائد كبيرة سيجلبها سد النهضة على السودان، لكن ذلك وفق قوله، يشترط التوصل لاتفاق ملزم، مضيفاً أن "السودان يطرح الحل عبر التفاوض، قناعةً منه أن ليس هناك من حل سواه، إلى جانب الطرح الأكاديمي الذي يتعلق بالعدالة المائية، وهي مفهوم يستمد قوته من الأعراف والقوانين الدولية، وينطلق من أسس قانونية وأخلاقية، تنشد العدالة والتنمية وفق الاستخدام المنصف والمعقول".
ويعتقد محمد أحمد، كما قال لـ"الشرق"، أن "السيناريوهات المستقبلية لأزمة سد النهضة تعتمد على توسع دور الوسطاء، وقدرة الاتحاد الإفريقي على تقريب وجهات النظر".