تتصاعد في اليابان أصوات مناهضة للمهاجرين الأجانب، مدعومة بتصريحات رسمية، رغم ظاهرة الشيخوخة السكانية، وحاجة البلاد إلى العمالة الوافدة.
لم تعد هذه المطالبات قاصرة على اليمين الذي يرفع شعار "اليابان أولاً"؛ إذ أطلقت رئيسة الوزراء المحافظة، ساناي تاكايتشي، في وقت سابق، شعارات تدعو إلى التشدد تجاه المهاجرين، وتقنين استقبالهم، وفرض شروط تضمن التزامهم بالقوانين والقواعد اليابانية.
تأتي هذه المساعي، رغم حاجة اليابان الملحّة للمهاجرين؛ نظراً للشيخوخة التي تضرب سكانها، حيث يمثل من هم فوق سن الـ65 نحو 30% من السكان، في ظل انخفاض معدل المواليد.
اليابان وملف الهجرة
بعد توليها منصبها، كأول امرأة تقود حكومة اليابان في تاريخ البلاد، بدأت تاكايتشي في 4 نوفمبر الماضي، تعزيز تدابير منع الأنشطة غير القانونية من قبل الرعايا الأجانب، لتحقيق "مجتمع من التعايش المنظم والمتناغم معهم".
وتقضي توجيهات رئيسة الوزراء، التي اتهمت السياح الأجانب، في تصريح سابق، بأنهم يؤذون الغزلان في مسقط رأسها بمدينة نارا، بتمكين إدارة الهجرة من الوصول مباشرة إلى بيانات المقيمين الأجانب، المتعلقة بدفع الضرائب، وأقساط الرعاية الصحية، والضمان الاجتماعي، وفي حال تخلفهم عن تسديدها قد يتم إلغاء إقاماتهم.
وبداية من العام المقبل، ستزيد الحكومة اليابانية رسوم تجديد تأشيرات الإقامة لمدة عام واحد، من نحو 40 إلى 250 دولاراً، وزيادة رسوم الإقامة الدائمة 10 أمثال لتصبح حوالي 700 دولار.
أعداد الأجانب في اليابان
في عام 2008 لم يكن عدد العمال الأجانب في اليابان يتجاوز 500 ألف، لكن الرقم تضاعف نحو خمس مرات خلال 16 عاماً ليصل في عام 2024 إلى 2.3 مليون، كما ارتفع عدد المقيمين الأجانب في الفترة نفسها إلى نحو 4 ملايين.
ويتزامن هذا الازدياد مع تراجع عدد اليابانيين بنحو 900 ألف شخص سنوياً؛ لأسباب تتعلق بانخفاض معدل الإنجاب، وازدياد أعداد المعمّرين.
يأتي هذا في وقت تشير مؤشرات وكالة التعاون الدولي اليابانية "جايكا" إلى أن الاقتصاد الياباني بحاجة لـ6.7 مليون عامل أجنبي بحلول عام 2040، لتحقيق نمو مستدام.
وتقول ميهو كوماجاي، المسؤولة في إدارة المواد البشرية بوزارة العمل اليابانية: "وزارتنا تدرك الحاجة الملحة للعمالة الأجنبية لدعم الاقتصاد، وسننتهي خلال شهرين تقريباً من وضع دراسة تفصيلية لحجم القوى البشرية التي يحتاجها كل قطاع".
وأضافت كوماجاي لـ"الشرق"، أن الإدارة "سترفع توصياتنا إلى الحكومة التي ستقرر بدورها الحصص، وسقوف الأعداد التي سيتم السماح بدخولها إلى اليابان".
وترى أن تصريحات رئيسة الوزراء، المتعلقة بتشديد القيود على التزام الأجانب بالقوانين والقواعد اليابانية "لن تؤثر على سير خطة وضعتها وزارتنا بالتنسيق مع المؤسسات الأخرى المعنية لتطبيق إطار عمل جديد من شأنه تسهيل إحضار العمال الأجانب".
نظام تأشيرات صارم
وأوضحت أن "هناك نظامين للحصول على تأشيرة عمل في اليابان؛ أحدهما لمن يمتلكون مهارات عالية، ويسمح لهم بالإقامة لـ5 سنوات أو أكثر، أما البرنامج الآخر، وهو الأوسع، فمخصص للعمال العاديين، ويُعرف ببرنامج التدريب التقني الذي يمنح العامل حالياً تأشيرة لمدة 3 سنوات فقط، لا يستطيع خلالها تغيير مكان عمله، أو إحضار عائلته، وعليه أن يعود إلى بلده الأصلي بعد انتهاء تدريبه".
وأشارت إلى أن "هذا النظام سيتم إلغاؤه في أبريل 2027، وسيتم استبداله ببرنامج التوظيف لتطوير المهارات الأكثر مرونة، الذي يفتح المجال أمام العامل لتغيير مكان عمله، وخوض اختبارات تطوير المهارات لتمديد تأشيرته من ثلاث إلى 5 سنوات أو أكثر وإحضار عائلته".
ووفقاً لكوماجاي، فإن البرنامج الجديد سيشجع على توظيف الأجانب في المناطق الريفية، لمنع التركيز المفرط على طوكيو والمدن المكتظة الأخرى، وسيحقق حماية أفضل لحقوق العمال الأجانب، وسيعالج قضايا استغلالهم التي تعرضت اليابان بسببها للانتقادات في الماضي.
لماذا يفضل العمال الأجانب اليابان؟
تظهر بيانات وزارة العمل اليابانية أن أكبر نسبة من العمال الأجانب في اليابان تأتي من دول جنوب شرق آسيا، التي تتصدرها فيتنام بنحو 570 ألف عامل، تليها الصين بنحو 400 ألف.
وتعد اليابان المنافس الأكبر لكوريا الجنوبية، وتايوان من حيث استقطاب العمالة من دول جنوب شرق آسيا والصين.
ولكن كوريا الجنوبية تحدد حصصاً سنوية لعدد الوافدين من العمال الأجانب، على خلاف اليابان التي فتحت الباب على مصراعيه، كما أنها تتمتع بصورة البلد الجميل، والمجتمع الفريد، والطبيعة الساحرة، وتتفوق على كوريا الجنوبية وتايوان في مستويات أجور العمال.
انخراط المهاجرين في سوق العمل
يقول شوئيتشيرو إيكيبه، الخبير في شؤون توظيف الأجانب، إن "العامل الأجنبي يدفع حوالي ألفي دولار لشركات وسيطة في بلده تقوم بتقديمهم للشركات اليابانية، وقبل حضورهم لليابان عليهم أن يخضعوا لدورة لغة يابانية مدتها 6 أشهر، وبعد دخول اليابان يخضعون أيضاً لدورة تعليمية مدتها 6 أشهر، يتعلمون فيها عن المجتمع الياباني والعادات والتقاليد وغيرها من سمات الحياة اليابانية، والهدف هو أن يتمكنوا من العمل، بشكل سلس، وبانسجام مع المجتمع المحلي الذي يتواجدون فيه".
وأضاف إيكيبه لـ"الشرق"، أن الأجانب "يمثلون نحو 3% من عدد سكان اليابان الذي يبلغ 123 مليوناً، وهو أقل بكثير من نظيره في الدول الصناعية الأخرى، ولكن الفارق أن نسبة ازدياد الأجانب في اليابان كانت سريعة جداً"، معتبراً أن ذلك "هو ما أثار مخاوف المواطنين خاصة أنها ترافقت مع ازدياد التضخم وارتفاع الأسعار".
من ناحية أخرى، استبعد أن تعني تصريحات رئيسة الوزراء حول فرض قيود على الأجانب رفضها للعمالة الأجنبية، مشيراً إلى أن الحكومة تدرك حاجة الاقتصاد لهم.
وتابع: "لكن تاكايتشي تحاول تهدئة مخاوف المواطنين من خلال تشديد القيود على الأجانب ومراقبة أنشطتهم، وفرض عقوبات صارمة في حال قاموا بأي خطأ. وهذا أمر جيد يضمن سلامة المجتمع ككل".
شيخوخة اليابان
تُعد اليابان من أكثر الدول شيخوخة في العالم، إذ يشكّل من تجاوزوا 65 عاماً نحو 30% من السكان. كما تسهم الأعباء الاقتصادية وساعات العمل الطويلة في تراجع إقبال الشباب على الزواج والإنجاب.
وبينما يتركز طموح الشباب على العمل في العاصمة طوكيو والمدن الكبرى، تشهد المناطق الريفية أزمة ديموغرافية حادة، أدت إلى هجر الكثير من الأراضي الزراعية وسط نقص اليد العاملة، وعجز أصحاب الأراضي عن مواصلة العمل؛ بسبب التقدم في السن.
قد يبدو أن الحل الأمثل هو ملء النقص بالعمال الأجانب، لكن المُزارع هيروشي واتانابيه، من قرية توجانية بمحافظة تشيبا المجاورة لطوكيو، يتحفظ على هذا الحل.
وقال واتانابيه: "كنا نعمل ساعات طويلة من الفجر حتى الخامسة مساء، ونشعر بسعادة كبيرة، لكنني اليوم كمعظم أصحاب هذه الأراضي من المُعمِّرين، لقد بلغت الثمانين، ولم تعد لدي القوة اللازمة للعمل، على الرغم من توفر الآليات الحديثة".
وأضاف: "وقعت عقداً مع شركة لتستثمر أرضي لمدة 10 سنوات، ولا أعلم ربما يحضرون عُمَّالاً أجانب إلى أرضي. فهناك عدد كبير من العمال الأجانب في البلدة قدموا من سريلانكا والصين وغيرها، ولا أعتقد أن هناك مشكلة؛ فالجميع هنا يحتاج إلى عمال في الأراضي والمطاعم والمتاجر، لكن المشكلة تكمن في اندماج هؤلاء العمال في المجتمع الياباني الريفي".
وأضاف واتانبية لـ"الشرق"، أن "سكان الريف يلتزمون بصرامة بالقوانين والقواعد، ولكن يبدو أنه من الصعب على الأجانب التقيد بها في بادئ الأمر. فكثير منهم لا يفصلون القمامة بأكياس خاصة كما نفعل نحن، وأحياناً يرمونها قرب الأراضي الزراعية، وبعضهم لا يتحدث اليابانية بشكل جيد، فنجد صعوبة بالتواصل معهم، وهذه الفئة وإن كانت قليلة، إلا أنها قد تصبغ جميع الوافدين بسمعة سيئة".
وتمنى المزارع العجوز من الحكومة والمؤسسات المسؤولة عن استقطاب الأجانب أن "تُركز على هذه النقاط مع الوافدين؛ لأننا نحب اليابان، ونخشى عليها من الفوضى".
أصوات مناهضة للهجرة
بعد تولي تاكايتشي رئاسة الحكومة، ازدادت وتيرة الاحتجاجات ضد الأجانب بشكل ملحوظ، والتي تحظى بدعم من أحزاب يمنية كحزب "سانسيتو"، الذي يرفع شعار "اليابان أولاً"، وحقق نتائج مفاجئة في انتخابات مجلس الشيوخ خلال يوليو الماضي، حيث زاد عدد مقاعده من مقعد واحد إلى 15.
ويدعو الحزب إلى فرض قيود صارمة على الأجانب، كتحديد عدد العمال المهاجرين، وتشديد إجراءات منح الجنسية للمقيمين الأجانب، ووقف استفادتهم من إعانات نظام الرعاية الاجتماعية.
وفي أواخر نوفمبر الماضي، نظم مؤيدو الحزب، وآخرون، احتجاجات متزامنة ضد الأجانب على مستوى البلاد، شملت 12 مدينة منها طوكيو، وأوساكا وفوكوشيما وتشيبا وجونما وناجويا، وردد المشاركون فيها شعارات: "لا للهجرة، اليابان أولاً، احموا اليابان، ولا نريد أن تواجه اليابان مشكلات أوروبا".
ويعتبر إيبيه توريي، من "شبكة اليابان لدعم المهاجرين"، أن هذه الاحتجاجات ضد الأجانب تتغذى على ما يصفه بـ"الكراهية الرسمية"، وهي تصريحات المسؤولين السلبية تجاه فئة أو قضية معينة، مشيراً إلى أن "رئيسة الوزراء تاكايتشي تنتمي للتيار المحافظ، وهي تتحمل مسؤولية ازدياد خطاب الكراهية ضد الأجانب، فبدلاً من تكرار انتقادهم يجب أن تطلق خطاباً شاملاً هدفه توحيد المجتمع بكل مكوناته".
ويرى توريي، في تصريحات لـ"الشرق"، أنه "ليس أمام المجتمع الياباني سوى فتح أبواب الهجرة لضمان بقائه"، مؤكداً أن "هذه حقيقة معروفة للمسؤولين؛ لأن لديهم البيانات التي توضح هذا الأمر"، منتقداً إصرار بعضهم على "نظرته إلى الأجانب على أنهم مجرد قوة بشرية، يمكن إعادة تدويرها باستغلال طاقتها، ثم التخلص منها بأفراد آخرين من دون منحهم حقوق العيش والاندماج بشكل دائم".
وأعرب عن خشيته من أن يفاقم هذا الوضع "ما ترصده شبكتنا من انتهاكات لحقوق العمال الأجانب في اليابان".
قلق المهاجرين
في المقابل، بدأ المهاجرون يشعرون بالقلق من القيود التي قد تفرض عليهم.
من هؤلاء الشابة الفيتنامية ليو فونغ، التقتها "الشرق" في حديقة بحي نيشي كاساي في طوكيو، وكانت تنادي ابنها، البالغ من العمر عامين، قائلة باليابانية: "في كيوتسوكيته"، أي "انتبه"، بينما يلعب مع أقرانه من الأطفال اليابانيين.
درست ليو اليابانية في فيتنام، ثم جاءت إلى اليابان قبل 5 سنوات، عن طريق شركة لتقديم العمال الأجانب للشركات اليابانية. وتعمل منذ ذلك الحين في قسم للمبيعات الدولية في شركة تجهيزات طبية.
وتقول ليو إنه بعد عامين من قدومها "تمكنت من تأمين فرصة عمل لزوجي أيضاً في شركة لتقنية المعلومات، وأنجبنا طفلاً".
وأضافت: "نحن نعيش الآن بسعادة كبيرة بين اليابانيين، ولكنني أصبحت قلقة بشأن المستقبل؛ فهناك حديث عن قيود حكومية جديدة على المقيمين الأجانب".











