قبل أيام، حظي الممثل الكندي ويليام شاتنر، الشهير بدور كابتن كيرك في حلقات وأفلام "ستار تريك" ذات الأجواء الفضائية، بدقائق مثيرة من الشعور بانعدام الوزن الحقيقي، وذلك في رحلة سياحية فضائية دون مدارية "Suborbital"، باتت تُعد أحد أشكال سياحة الفضاء المرشحة للرواج في الأعوام المقبلة.
ورغم تقدمه في السن، إذ يبلغ (90 عاماً)، لكن لم يحُل ذلك دون صعود شانتر على متن المركبة التابعة لشركة "بلو أوريجن" المعروفة باسم "نيو شيبرد"، فالرحلات دون المدارية، بخلاف الرحلات المدارية، لا تستلزم ضوابط صحية وتدريبية صارمة، ما يجعلها فرصة لتوسيع قاعدة السياحة الفضائية، ومن ناحية أخرى، فإن متوسط أسعار التذاكر من شأنه أن يكسر حظر السياحة الفضائية على نادي أثرياء العالم.
على حافة الفضاء
تختلف الآراء حول الحد الفاصل بين الفضاء الخارجي والغلاف الجوي، فلا يوجد تعريف واحد متفق عليه بين الجميع، ما يجعل تعريف رحلة بأنها "رحلة فضائية" أمراً شائكاً.
في عُرف الجهات المعنية بتلك التقديرات، كوكالة "ناسا"، والإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، والاتحاد الدولي للملاحة الجوية، تتأرجح التقديرات حول حدود الغلاف الجوي بين 80 كيلومتراً فوق سطح الأرض، و100 كيلومتر (المعروف بخط كارمان الفاصل بين الغلاف الجوي والفضاء).
وتَعتبر وكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، كما يرد في تقرير لصحيفة "الجارديان"، أي طيار، أو اختصاصي مهام فضائية، أو حتى مواطن مدني، يعبُر حد 80 كيلومتراً فوق سطح الأرض "رائد فضاء" تماس مع حافة الفضاء، حتى لو لم يصل لارتفاعات مهولة، فالفيصل وفقاً لمعاييرها هو كثافة الهواء.
مدارية.. دون مدارية
بالرغم من أن مصطلحات الرحلات الفضائية المدارية ودون المدارية توحي بأنهما يستخدمان لوصف نمطين متشابهين من رحلات الفضاء، فإنهما يشيران في الحقيقة إلى نمطين من الارتحال إلى الفضاء بينهما فروق جوهرية.
وبحسب ما تُشير منصة "سبايس" المتخصصة بالفضاء، فإن السرعة هي الاختلاف الجوهري بين الرحلات المدارية ودون المدارية، فالأولى تستلزم من المركبة الفضائية سرعة استثنائية يطلق عليها "السرعة المدارية"، بينما في الثانية، تكون السرعة أقل من حد "السرعة المدارية".
وللبقاء في المدار، يتطلب الأمر سرعة تُقدر بـ8 كيلومترات في الثانية على الأقل، ما يُمثل تحدياً تقنياً معقداً، أما في الرحلات دون المدارية، فيكفي الارتحال بنحو كيلومترين في الثانية فقط، حيث السرعة لا تتيح للمركبة الفضائية إكمال المدار بالتأكيد.
ويختبر الركاب في المركبات دون المدارية بضع دقائق من الشعور بانعدام الجاذبية، أثناء سقوطهم الحر من أعلى تجاه الأرض مرة أخرى.
وتتجه بعض الأصوات لعدم اعتبار الرحلات دون المدارية رحلات فضائية، وبحسب شبكة "سي إن إن"، تُثار تساؤلات حول ما إذا كانت تلك الرحلات توفر لروادها رؤية واضحة لانحناء سطح كوكب الأرض.
تاريخ طويل
تاريخ الرحلات دون المدارية يمتد إلى النصف الأول من القرن العشرين، إذ استطاع مهندسون في الجيش الألماني إبّان الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عام 1942، توظيف تقنية السفر دون المداري للصاروخ (V2) لأغراض عسكرية. وفي عام 1962، استطاع رائد الفضاء آلان شيبرد، وهو أول أميركي يصل إلى الفضاء، أن يحظى برحلة دون مدارية مدتها 15 دقيقة.
غيرَ أن الشق التجاري من الرحلات الفضائية دون المدارية، يرتبط باسم الملياردير الإنجليزي السير ريتشارد برانسون، الذي أسس شركته "فيرجين جالاكتيك" عام 2004، وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، كان يتوقع أن يستغرق الأمر عامين أو ثلاثة على الأكثر لإرسال رحلات سياحية دون مدارية للفضاء، إلا أن أمنيته استمرت 17 عاماً لتتحقق.
وكان الملياردير الأميركي جيف بيزوس قد سبق منافسه برانسون، ببضعة أيام إلى حافة الفضاء عبر رحلة دون مدارية في يوليو الماضي لم تتعد الساعة، على ارتفاع وقدره 86 ألف كيلومتر فوق سطح الأرض، بواسطة طائرته الفضائية (VSS Unity).
معايير متساهلة
لم تستغرق رحلة "نيو شيبرد" أكثر من 10 دقائق، وبخلاف الرحلات المدارية التي قد تشترط وجود حدٍّ أدنى من اللياقة الصحية والبدنية لدى الرواد، فإن مركبة "بلو أوريجن" تضع شروطاً متساهلة لرحلاتها دون المدارية.
ووفقاً لموقع "سي إن إن بيزنس"، فإن أي شخص يستطيع الصعود إلى "نيو شيبرد"، لكن بعد الخضوع لتدريب خفيف، وتضع شركة "بلو أوريجن" معايير عامة، كأن يكون الراكب فوق 18 عاماً، وبعض التفاصيل المتعلقة بالطول والوزن.
وفي حين يُعد الخضوع للقوة "جي"، أو قوة التسارُع، من أبرز مخاطر الرحلات الفضائية، لاسيما لكبار السّن والمصابين بأمراض القلب، فإن مقدار القوة التي يخضع لها رُكاب "نيو شيبرد" تصل لـ 5.5 جي (وهو ما يبدو وكأنه 5 أضعاف وزن جسمهم تضغط على صدورهم)، فيما الحد الآمن يصل لـ 6 جي، بحسب دراسات يستشهد بها فريق "بلو أوريجن" لإثبات أمان الرحلات.
فرصة بحثية
موقع "بزنس إنسايدر" يُشير إلى أنه في يوليو الماضي فقط، حجز نحو 600 شخص مقاعدهم على متن رحلات "فيرجين جالاكتيك" دون المدارية، من بينهم مجموعة من المشاهير هم: ليدي جاجا، وجاستن بيبر، وتوم هانكس، وليوناردو دي كابريو.
وفي حين تبلغ تكلفة التذكرة على متن طائرة "فيرجين جالاكتيك" 250 ألف دولار، فإن تذكرة الرحلات دون المدارية لدى "بلو أوريجن" لم تُحدد بعد، لكن التقديرات تُشير إلى أنها هي الأخرى ستُكلف مئات آلاف الدولارات.
وعلى الرغم من أن المعطيات الحالية تحصر رواد الرحلات دون المدارية بالمشاهير والأثرياء، على اعتبار أنهم الوحيدون الذين يبدون اهتماماً بها، فإن العلماء أيضاً لديهم مآرب في تلك الرحلات، إذ تخصص على سبيل المثال "فيرجين جالاكتيك" رحلات بحثية دون مدارية للعلماء والمهندسين والأساتذة والطلاب على متن "في إس إس يونيتي".
وتُعد قوة التسارع المنخفضة نسبياً، والتكلفة غير العالية مقارنةً بالرحلات المدارية، ميزات لصالح الرحلات البحثية دون المدارية، إذ تتيح أعماراً افتراضية أطول للآلات التي يجري تجريبها تحت تأثير الجاذبية الصغرى في تلك الرحلات.