مأساة في المكسيك.. 94 ألف مفقود والأهالي يبحثون حتى عن "عظمة"

ماريا ماجدالينا والدة الطفلة فاطمة سيسيليا ألدريجيت البالغة من العمر 7 سنوات التي فُقدت في 11 فبراير 2020 وتم العثور على جثتها بعد أسبوع داخل كيس قمامة، مكسيكو سيتي، المكسيك - 17 فبراير 2020 - REUTERS
ماريا ماجدالينا والدة الطفلة فاطمة سيسيليا ألدريجيت البالغة من العمر 7 سنوات التي فُقدت في 11 فبراير 2020 وتم العثور على جثتها بعد أسبوع داخل كيس قمامة، مكسيكو سيتي، المكسيك - 17 فبراير 2020 - REUTERS
ماتاموروس، المكسيك- أ ف ب

تشهد المكسيك تواصل حالات الاختفاء القسري وهي الظاهرة التي بدأت منذ عام 2006، حين أعلن الرئيس السابق الحرب على تجار المخدرات، وظلت الظاهرة تتفاقم حتى وصلت حالات الاختفاء إلى نحو 94 ألف شخص، يواصل ذووهم البحث عن جثثهم أو حتى بقايا عظامهم ليطمئنوا.

تتوسل أم يائسة في المكسيك جندياً بقولها "لا أريد سوى عظمة واحدة"، في إشارة مباشرة إلى رفات ابنها المفقود.

وتتفاوض الأم التي فقدت أثر ابنها قبل عام، مع قوات الأمن للسماح لها بدخول حقل ذرة سابق في ولاية تاماوليباس (شمال غرب)، حيث عثر على نصف طن من الرفات البشري منذ عام 2017.

وتصرخ المرأة الخمسينية في وجه الجنود الذين يتجاهلونها: "أجيبوني! أليس لديكم أبناء؟ أريد فقط عظمة من ابني ليرقد بسلام إلى جانب زوجي".

جرى هذا الحوار من طرف واحد على مسافة كيلومترات قليلة من عاصمة الولاية ماتاموروس، وهي منطقة واقعة على الحدود مع ولاية تكساس الأميركية تعاني من عنف تجار المخدرات خصوصاً "كارتيل ديل غولفو".

موقع لا بارتولينا "معسكر إبادة" بحسب اللجنة الوطنية للبحث عن المفقودين، ودخوله محظور حتى على عائلات الضحايا، وهذه الوالدة التي لم ترغب في كشف اسمها لأسباب أمنية، ليس لديها أي دليل على أن رفات ابنها مدفون في مكان ما تحت الأرض، لكنها قررت المجيء بعدما علمت أن إحدى المجموعات التي تطالب بمعرفة مكان الضحايا ستكون حاضرة، وتضم بغالبيتها أمهات ينددن بـ"عدم فعالية" السلطات، ويقمن ببحثهن الخاص.

جريمة منظمة

ولاية تاماوليباس التي تعتبر ممراً للمخدرات إلى الولايات المتحدة والتي فقدت 11 ألفاً و667 شخصاً، هي الأكثر تضرراً من هذه الظاهرة جنباً إلى جنب مع ولاية خاليسكو (غرب). وفي المجموع، يوجد في المكسيك ما بين 93 ألفاً و94 ألف مفقود، وفقاً للأرقام الرسمية.

وبدأت حالات الاختفاء مع "الحرب القذرة" التي شنتها السلطات على الحركات الثورية بين الستينيات والثمانينات، وارتفع عددهم بشكل حاد بالتوازي مع الاغتيالات التي حدثت عام 2006 عندما أعلن الرئيس السابق فيليبي كالديرون حرباً شاملة على تجارة المخدرات.

100 عملية اغتيال يومياً

وخلال 15 عاماً، سجلت المكسيك التي يبلغ عدد سكانها 126 مليون نسمة، 300 ألف عملية اغتيال، وأكثر من 36 ألفاً خلال العام الماضي وحده، بمعدل 100 عملية اغتيال يومياً.

وقالت لورا أتويستا من مركز التحقيق والخبرة الاقتصادية إن "الجريمة المنظمة تبقى أحد الأسباب الرئيسية لحالات الاختفاء" في إشارة إلى تجارة المخدرات والمهاجرين وسرقة الوقود، كما تذكر السلطات "فساد الشرطة المرتبط بالجريمة المنظمة" حسب ما قال في منتصف نوفمبر، وكيل وزارة حقوق الإنسان أليخاندرو إنسيناس.

بالنسبة إلى الغالبية، المفقودون هم شبان تتراوح أعمارهم بين 15 و30 عاماً يعانون الفقر (43.9 % من السكان) والبطالة (أكثر من 50% من القوى العاملة تعمل في القطاع غير الرسمي) والحلقة المفرغة للتجنيد، أو ببساطة الحظ السيئ لوجودهم في المكان والزمان الخاطئين.

وفي مناطق الصراع بين الشرطة و"تجار المخدرات" تخطف فتيات للاتجار بهن، وهذا موضوع "نوتشي دي فويجو" (صلاة من أجل المفقودين) وهو فيلم مكسيكي من إخراج تاتيانا هويزو كان له تأثير كبير هذا العام في مهرجاني كان، وسان سيباستيان للأفلام.

تقصير

بالعودة إلى بارتولينا، تعبّر ماريا إيسيلا فالديز (58 عاماً) تحت أشعة الشمس الحارقة عن غضبها من قوات الأمن التي تمنع الأمهات من العبور، قائلة: "لماذا لم يكن الحرس الوطني (وهو هيئة أمنية شكّلت عام 2019) والجيش والبحرية هنا عندما تم اختطافهم وذبحهم وتعذيبهم ودفنهم وحرقهم؟".

وتبحث مع ابنتها ديليا (38 عاماً) عن ابنها روبرتو الذي اختطف في بلدة رينوسا المجاورة عام 2014، وفي يونيو 2019 جثت الأم أمام رئيس الجمهورية أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، طلباً لمساعدته.

وطلبت ديليا علانية من "كارتل ديل جولفو" في يونيو، هدنة لتتمكن من دخول لا بارتولينا والبحث عن رفات شقيقها.

خيمت الأم وابنتها أمام النيابة العامة قبل أن تفوزا أخيراً بقضيتهما للتمكن من الاقتراب من الموقع.
وقالت ديليا لوكالة "فرانس برس": "نحن هنا لتقوم السلطات بعملها، لأننا إذا غادرنا، فلن تفعل شيئاً".

في ذلك اليوم، بقيتا في خيمة فيما كان الأطباء الشرعيون يجرون أبحاثهم، الانتظار طويل ومرهق، تحت درجة حرارة 40 مئوية في هذه المنطقة الصحراوية حيث تتنقل الثعابين بين الشجيرات الشائكة، لكن المواجهات بالذخيرة الحية التي اندلعت بين الشرطة والمسلحين تسببت في اختصار عمل الخبراء.

غض النظر

قالت كارلا كوينتانا من مركز التحقيق والخبرة الاقتصادية، لوكالة "فرانس برس": "ما زالت العائلات تواجه نظاماً لا يعطيها إجابات".

وأشارت إلى أن 98% من الجرائم في المكسيك تمر من دون عقاب، وآلاف الجثث مجهولة الهوية تتكدس في المشارح لأن النظام القضائي لا يملك الإمكانات للبت فيها.

وتفتقر البلاد إلى أطباء شرعيين، والمدعون العامون يشعرون بأنهم مرغمون على إجراء التحقيقات كما أضافت كوينتانا، فيما يتم استنكار اختراق مجرمين الأجهزة الأمنية بما في ذلك من قبل السلطات.

وتقول الحكومة التي تتولى السلطة منذ نهاية عام 2018، إنها تريد الخروج من حالة الجمود، وقال أليخاندرو إنسيناس، وكيل وزارة حقوق الإنسان، منتصف نوفمبر، أثناء استقباله لجنة الأمم المتحدة لمناهضة الاختفاء القسري: "بين مارس 2019 واليوم وحده، أجرى المركز 2300 يوم من البحث مع العائلات".

لكن لجنة تابعة للأمم المتحدة لمكافحة الاختفاء القسري نددت بـ"عدم فعالية السلطات في التحقيقات بشأن قرابة 95 ألف مفقود في المكسيك"، فضلاً عن ظاهرة "الإفلات من العقاب" الذي يتمتع به مرتكبو عمليات الخطف والقتل المرتبطة غالباً بتجارة المخدرات والقرارات "التعسفية" للنيابة العامة في القضايا ذات الصلة.

لكن كوينتانا التي أبلغت في نهاية سبتمبر عن اكتشاف "معسكر إبادة" جديد قرب نويفو لاريدو في ولاية تاماوليباس، أعربت عن أسفها لأن المجتمع المكسيكي غير مبالٍ.

وقالت في تصريح للنسخة المكسيكية من صحيفة "إل باييس" الإسبانية: "لا نفهم كيف أنه مع مئات الآلاف من جرائم القتل (...) مع وجود آلاف المقابر السرية والإفلات شبه التام من العقاب، يفضل المجتمع المكسيكي غض النظر، وغالباً ما يكون هناك عدم اكتراث لحالات الاختفاء هذه".

لكن قضية الطلاب الـ43 في أيوتزينابا الذين اختفوا في 26 سبتمبر 2014 في ظروف مبهمة بولاية غيريرو (جنوب)، هزت المكسيك وما بعدها، لكن بعد 7 سنوات، عثر على بقايا 3 منهم فقط وحددت هوياتهم.

ووفق الرواية الرسمية في ذلك الوقت، فإن الطلاب الـ43 تعرضوا للخطف والقتل على أيدي عصابة من تجار المخدرات تُدعى "جيريروس يونيدوس". لكنها رواية غير مؤكدة إلى حد كبير لدرجة أن الأمم المتحدة اعتبرت عام 2020 "أنه أمر أساسي أن تواصل الدولة المكسيكية تقديم إجابات موثوق بها للعائلات".

اغتيال أثناء عمليات البحث

قدم ميلاجروس فالينزويلا مع مجموعته، تحت حماية الشرطة وهو مزود بمجارف ومعاول والكثير من الصبر، إلى منطقة قرب بلدة هيرموسيّو، للبحث عن رفات شقيقيه ماركو أنطونيو وأليخاندرو.

وتعتبر ولاية سونورا (شمال) منطقة حمراء أخرى يحظر دخولها، ففي يوليو، قتلت واحدة من هذه المجموعة وهي أرانزا راموس، (28 عاماً)، بالرصاص في منزلها، وكانت راموس تبحث عن رفات زوجها براين المفقود منذ ديسمبر 2020، وكان للزوجين ابنة تبلغ عاماً.

وطلب مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، من المكسيك التحقيق في الصلة المحتملة بين عملية قتل الشابة ونشاطها.

وخلال بحث آخر، اعتقد ميلاجروس أنه اكتشف وجود بقايا بشرية. لكن الموقع أغلق بعدم قتل 4 أشخاص في اليوم نفسه في عملية إطلاق نار، وقال له شرطي: "هذا يعني أنهم لا يريدونك أن تدخل".

وأوضحت الأمم المتحدة أنه "عندما لا تتمكن الدولة من تولي مسؤولية البحث، فإنها تعرض عائلات المفقودين للخطر".

وتقول النيابة العامة في ولاية سونورا إنها تدعم عمليات البحث التي تقوم بها العائلات منذ إنشاء أول مجموعة في الولاية.

وصرحّت ناطقة باسم النيابة العامة لوكالة "فرانس برس" بأن "المدعي العام ما زال مستمراً في التزامه برعاية ودعم العائلات التي تبحث عن أحبائها"، لكن كل أسبوع، تلتقي النساء في المجموعة قرب محطة وقود في هيرموسيّو.

وهذا التجمع في أجواء مرحة يرقى إلى علاج جماعي، حسب ما قالت واحدة من المجموعة فقدت ابنها قبل 4 سنوات، وقال ميلاجروس إن "الجزء الأصعب هو المغادرة على أمل العثور على شيء ما والعودة إلى المنزل خالي الوفاض".

وتطلب مجموعته علانية من مرتكبي الجريمة المنظمة احترام الجثث متسائلة "إذا قتلتوهم، فلماذا  تدفنونهم؟ ولماذا تحرقونهم؟".

ميلاجروس يملك جواباً لهذا السؤال، موضحاً: "للأسف، تقول السلطات إنه من دون جثة لا يمكن بدء تحقيق".

وعلى الرغم من الخطر، لا تزال أنيل روبليس، شقيقة ميلاجروس، مصممة على مواصلة البحث عن زوجها الذي اختفى بين أيدي الشرطة، وقالت "إذا لم نبحث عنه، فمن سيقوم بذلك؟".

اقرأ أيضاً: