تجدَّد الاهتمام في الكونجرس الأميركي، أخيراً، بمشروع قانون ظلّ حبيس الملفات لفترة طويلة، يسمح للولايات المتحدة، مواطنين ومؤسساتٍ، برفع قضايا ضد الدول الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك"، والمنظمة نفسها.
وأقرت لجنة تابعة لمجلس الشيوخ الأميركي، في الخامس من مايو الجاري، مشروع القانون، الذي بات يُعرف باسم "لا لأوبك"، والذي من شأنه أن يُعرِّض منظمة "أوبك"، والدول الأعضاء فيها وشركاءها، للمُساءلة بموجب قوانين مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة، استناداً إلى اتهامات بتنسيقها خفضاً في الإمدادات النفطية إلى الأسواق العالمية، للتأثير في ميزان العرض والطلب، بحيث يؤدي هذا إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية.
حتى الأمس القريب، كان يُعتقد أن فرص تحوُّل هذه المقترحات إلى قانون ضئيلةٌ جداً؛ فما الذي تغير اليوم؟ وما هو قانون "لا لأوبك"؟ وما خلفياته وتداعياته؟ وما موقف الرئيس الأميركي جو بايدن والإدارة منه؟ وما موقف "أوبك" والدول الأعضاء فيها من هذا القانون؟
التقت "الشرق" الدكتور سعود العماري، وهو محامٍ سعودي حاصل على درجة دكتوراة القانون من "كلية تكساس"، وعلى درجة الماجستير في القانون من "جامعة هارفارد"، وعمل مستشاراً قانونياً لشركة "أرامكو السعودية"، ومستشاراً قانونياً لوزارة البترول السعودية، لإلقاء الضوء على هذا الملف الحساس من منظور قانوني، وكذلك من منظور دول أعضاء في "أوبك".
فاعلية "أوبك +"
ما الذي تغير الآن وأعاد مشروع قانون "لا لأوبك" إلى الحياة؟
لكي تكون الصورة واضحة أكثر، مهم أن أعود بك إلى ما حدث قبل بضع سنوات. ففي عام 2016 شهدت أسواق النفط العالمية انخفاضاً غير مسبوق، وغير منطقي، في أسعار البترول نتيجة قيام بعض المنتجين بضخ كميات أكثر مما تحتاجه السوق، الأمر الذي أدى إلى هذه الانخفاضات. لذلك، وفي الربع الأخير من ذلك العام، توافقت دول "أوبك"، خلال اجتماع في الجزائر على تخفيض إنتاجها بهدف تحسين الأسعار والوصول بها إلى مستويات عادلةٍ للمنتجين والمستهلكين معاً.
ثم أُعلن، خلال اجتماع فيينا في نفس الفترة، عن التوصل لاتفاق لخفض الإنتاج بمشاركة دول منتجة للبترول من خارج المنظمة في مقدمتها روسيا، وهو ما عُرف باسم اتفاق "أوبك+"؛ وهو اتفاق يضم 23 دولة مصدرة للنفط منها 13 دولة عضواً في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك). وبعد تطبيق هذا الاتفاق، وعلى الرغم مما شهده من بعض التجاوزات، فقد بدأت الأسعار تشهد اعتدالاً يدل على أنها تسير في الاتجاه الصحيح.
وهنا، لا بد لي من أن أقف لأذكر أن الولايات المتحدة، نفسها، تواصلت بشكلٍ مكثّف مع الدول المنتجة، وفي مقدمتها السعودية، أثناء فترة انخفاض أسعار النفط، داعيةً إلى خفض الإنتاج لرفع الأسعار، وذلك لتعزيز رغبة المُستثمرين في الولايات المتحدة في الاستثمار في قطاع النفط.
أعود الآن إلى الحديث عن اتفاق "أوبك+"؛ إذ أثبت هذا الاتفاق جدواه وفاعليته في المحافظة على توازن أسواق البترول واستقرارها، وذلك عندما فوجئ العالم بجائحة كورونا، التي كان من أبرز آثارها انخفاض الطلب على النفط بشكلٍ حاد. وتوصلت الدول الأطراف في الاتفاق إلى توافق على أكبر خفضٍ في الإنتاج شهدته الصناعة النفطية في تاريخها، حيث قارب 10 ملايين برميل يومياً. ومرةً أخرى كانت الولايات المتحدة طرفاً في الدفع باتجاه الوصول إلى هذا الاتفاق الذي قادته المملكة العربية السعودية.
ومع ظهور علاماتٍ على تعافي الاقتصاد العالمي، بعد انحسار الجائحة وآثارها، وتعزُّز التوازن بين العرض والطلب في السوق، توافقت دول اتفاق "أوبك+" على البدء تدريجياً بإعادة الكميات التي تم خفضها إلى الأسواق.
كورونا وأوكرانيا
ولكن العالم واجه أزمتين متتاليتين؛ كانت الأولى أزمةً في إمدادات الفحم والغاز في دول أوروبا وبعض الدول الكبرى الأخرى، أدت إلى ارتفاعٍ شديدٍ وغير مسبوق في أسعار الكهرباء التي تعتمد في توليدها على مصدري الطاقة هذين، ثم جاءت الأزمة الثانية وهي الأزمة العسكرية الروسية الأوكرانية، التي ألقت بظلالها على إمدادات الغاز والبترول الروسية إلى أوروبا وغيرها من دول العالم، خاصةً بعد أن فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيين عقوبات صارمةً على هذه الواردات.
ورُغم أن جميع الدراسات التي أجرتها المؤسسات والمنظمات المُستقلة، أكّدت أنه لا يوجد نقصٌ في الإمدادات في سوق النفط، بل إن بعضها أكّد أنه سيكون هناك فائض إذا استمرت دول "أوبك+" بتنفيذ اتفاقها الذي يقضي بإعادة الكميات التي تم خفضها تدريجياً إلى الأسواق، رغم هذا فقد واصلت أسعار البترول الارتفاع لأسباب لا ناقة ولا جمل لأوبك أو دولها الأعضاء أو لدول اتفاق "أوبك+" فيها، حيث وصفها المحللون بأنها أسبابٌ تتعلق بتدهور معنويات السوق جراء أزمتي "كورونا" و أوكرانيا.
وهنا، حاولت الولايات المتحدة ودول أوروبا إقناع المجموعة، من خلال محاولات التواصل مع السعودية وغيرها من الدول المنتجة، بزيادة الإنتاج لخفض الأسعار.
ولما كانت هذه الدول، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية على قناعةٍ بأنه لا علاقة لنقص الإمدادات بارتفاع الأسعار، فقد رأت أنه سيكون لزيادة الإنتاج أو العرض، دون أن يكون هناك طلبٌ يُقابله، آثارٌ وخيمةٌ على اقتصادات هذه الدول، وعلى صناعة النفط العالمية، وعلى الاقتصاد العالمي ككل.
"العصا والجزرة"
هل أهداف مشروع القانون في الكونجرس سياسية برأيك إذاً؟
يبدو ذلك. إذ أن جهاتٍ معينةً في الولايات المتحدة قررت استخدام سياسة "العصا والجزرة"، التي أشارت إليها وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلنتون، في تعاملها مع الدول الأعضاء في المنظمة، ضمنها السعودية، وذلك بإحياء مشروع قانون "لا لأوبك".
هل يمكن تنفيذه؟
يتعين، لكي يُصبح القانون نافذاً، إقراره من قِبل مجلسي الشيوخ والنواب، ثم توقيعه من قِبل الرئيس جو بايدن ليصبح بذلك قانونا سارياً.
ومن شأن هذا القانون، أن يُعرّض "أوبك" وأعضاءها، وأبرزهم المملكة العربية السعودية، وشركاءها، وأبرزهم روسيا، لدعاوى قضائية في المحاكم الأميركية، بتُهم التواطؤ لتعزيز أسعار النفط. ولم يتضح، بعد، ما إذا كان القانون يحظى بتأييد كافٍ في الكونغرس للوصول إلى مرحلة الموافقة عليه وتمريره لاعتماد الرئيس، أم لا.
معارضة رئاسية سابقة
هل يؤيد بايدن مشروع القانون؟
لم يوضح البيت الأبيض ما إذا كان الرئيس بايدن يؤيد مشروع القانون أم يُعارضه، ولكن علينا أن نتذكر أن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، التي كان الرئيس الحالي جو بايدن نائباً للرئيس فيها، عارضت بقوة في عام 2016 قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" الذي يُعرف اختصاراً بقانون "جاستا"، وهو، كقانون "لا لأوبك"، ينطوي على خرقٍ واضحٍ للأعراف والقوانين الدولية المتعلقة بالحصانة السيادية واستهانةٍ بها، حيث استخدم الرئيس أوباما آنذاك حقه في النقض "فيتو" ضد قانون "جاستا"، ولكن القانون مُرر في الكونجرس حيث حصل على الأغلبية المطلوبة بشكلٍ مفاجئ.
ما حظوظ تمرير القانون؟
رغم فشل محاولات تمرير النسخ السابقة عن مشروع قانون "لا لأوبك" بسبب مقاومة مجموعات الضغط من قطاع الطاقة في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن اتفاقية "أوبك +" أكدت جدواها وفاعليتها في إنقاذ العالم في الأزمات السابقة، كما أنها لا تزال تلعب دور صمام الأمان لإمدادات النفط للأسواق العالمية، وعلى الرغم من أنه لا علاقة لارتفاع أسعار النفط عالمياً بنقص الإمدادات في السوق، وعلى الرغم من أن الأسباب الحقيقية وراء ارتفاع الأسعار باتت معروفة بين الاقتصاديين والمتخصصين في الصناعة، رغم محاولات تسييس القضية، وعلى الرغم من أن الانتعاش الذي يشهده الاقتصاد العالمي لا يزال هزيلاً وليس بالوتيرة المتوقعة، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية، والعقوبات الأميركية على روسيا وعلى نفطها، وحظر الاتحاد الأوروبي المحتمل على النفط الروسي، عززت الارتباك الذي تشهده أسواق الطاقة، وأدت إلى ارتفاع أسعارها وخاصةً البنزين والكهرباء في الولايات المتحدة. وبالمناسبة، فإن ارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة لا علاقة له بنقص الإمدادات النفطية، وإنما يتعلق بنقصٍ، ربما كان مؤقتاً، في قدرات التكرير وببعض الخدمات اللوجستية اللازمة لتوفير هذا الوقود الحيوي.
على أية حال، الأسباب التي ذكرتها، والتي كما قلت لا علاقة لها بتوازن العرض والطلب في أسواق النفط العالمية، أدت إلى تنامي الغضب، في المجتمع الأميركي، وبالتالي داخل الكونجرس في الفترة الأخيرة، وباتت تُشكل هاجساً وعاملاً كبيرين للضغط على الكونجرس والإدارة الحالية، معاً، لأنها أسهمت في وصول التضخم إلى أعلى مستوياته في عقود. ونتيجة للإخفاقات المتلاحقة للحكومة الأميركية في إدارة دفة الاقتصاد بشكلٍ جيد، فإن فرص نجاح سن القانون هذه المرة، تبدو أكثر حظاً.
ماهية مشروع القانون
أولاً؛ ما نتحدّث عنه ليس قانوناً، أو بمعنى أدق، لم يُصبح قانوناً بعد، وإنما هو، حتى الآن، مشروع قانون. وهذا المشروع مشابه لمشروع قانونٍ قُدم في 30 مارس من عام 2001، من قبل السيناتور هيرب كول، عضو مجلس الشيوخ في حينه؛ الديمقراطي عن ولاية وسكنسون، بعنوان " لا لأوبك"، أو “No To OPEC” أو ما يُعرف اختصاراً باسم "لا لأوبك" “NOPEC”.
ويتركز مشروع القانون حول نقاطٍ رئيسة هي:
تعديل القانون المعروف باسم "قانون شيرمان" الخاص بمنع الاحتكار. وبموجب هذا التعديل، سيُعد عملاً غير قانوني ومخالفاً لقانون "شيرمان"، أي إجراء يتم اتخاذه في ما يتعلق بأعمال إنتاج النفط الخام وتصديره لوضع سقف للإنتاج، على نحوٍ يؤثر، حسب المزاعم الأميركية، بشكل مباشر وملموس، على سوق المنتجات النفطية في الولايات المتحدة.
الاستثناء من قانون حصانات السيادة الأجنبية الصادر عام 1976م(Foreign Sovereign Immunities Act 1976) فبموجب التعديل الذي يُدخله مشروع القانون هذا على قانون شيرمان، يتم الاستثناء من قانون حصانات السيادة الأجنبية، أو ما يُعرف بالحصانة السيادية، التي تشمل الدول والمنظمات التي تُمثّل الدول. ويعني هذا الاستثناء أن النشاطات التي أشرتُ إليها، أي أعمال إنتاج النفط الخام وتصديره، لا تندرج تحت قانون حصانات السيادة الأجنبية، فيُصبح بالإمكان مقاضاة الدول والمنظمات الدولية أمام المحاكم الفيدرالية الأميركية في هذا الإطار.
إلغاء القاعدة القانونية الدولية العامة المعروفة بـ "قاعدة تصرف الدولة" Act of State Doctrine؛ وهي قاعدة قانونية تحول دون قيام المحاكم الأجنبية (بما في ذلك الأميركية) بالنظر في شرعية التصرفات العامة التي تمارسها دولة أجنبية معترف بها داخل أراضيها.
التعدّي على حصانة الدول
لمن السيادة في هذه الحالة وتطبيق العقوبات للدولة المستوردة أم المصدرة؟
الحقيقة أن تصرف أي دولة بخفض أو زيادة إنتاج النفط فيها هو تصرف تمارسه دولة داخل أراضيها للتحكم في مواردها الطبيعية، ومن ثم فهو يُعدّ "تصرف دولة" حسب مفهوم القاعدة القانونية المذكورة.
وعلى هذا، فمفهوم هذه القاعدة يشير إلى حق الدولة ذات السيادة في التصرّف بحرية في أمورها، وفي جميع المجالات والنشاطات التي تخضع لسيادتها بدون فرض قيود على سيادتها في هذا الخصوص. ومن ذلك حقها في التصرف في ثرواتها واستغلال مواردها الطبيعية، بما يحقق مصلحتها السيادية. وهذا الحق مُستمد من القانون الدولي، الذي يكفل للدولة الحق في التصرف، وهو مُتفِق مع إعلان الأمم المتحدة الذي يؤكد أحقية الدول في التصرف بحرية في ثرواتها ومواردها الطبيعية وفقًا لما تقتضيه مصالحها .
ويشير واضعو مشروع قانون "لا لأوبك" إلى أن الهدف منه، على وجه الخصوص، هو تصحيح الحكم الخاطئ الصادر في دعوىً سابقة رفعتها الرابطة الدولية لعمال الآلات وعمال شركة "أيروسبيس" ضد منظمة "أوبك"، وهو الحكم الذي صنف أعمال المنظمة، التي زعم المدعون بأنها مخالفة للتنافس الشريف، واقعةً ضمن "قاعدة تصرف الدولة". وبالتالي فقد امتنعت المحكمة عن النظر في الدعوى، وكذلك امتنعت محكمة الاستئناف العليا الأميركية من مراجعة الحكم، لأن قاعدة تصرف الدولة تنص على ما يلي:
"تمتنع الهيئات الفدرالية عن الطعن في تصرفات الدول الأجنبية إذا كانت الوقائع والظروف تشير إلى ما يلي:
1. كون التصرف المشكو منه عملاً رسمياً لدولة ذات سيادة.
2. كون الإجراءات المُتخذة قد تمت ضمن الحدود الإقليمية لتلك الدولة.
3. كون المسألة حكومية لا تجارية.
وهكذا، فإن مشروع القانون هذا، يتعدى على مبادئ حصانة الدول ذات السيادة، وحصانة المنظمات الدولية التي تكتسب حصانتها من حصانة الدول الأعضاء فيها. كما يتعدى على قاعدة حرية تصرف الدولة، ويمنح وزارة العدل وهيئة التجارة الفدرالية الأميركية صلاحية رفع دعاوى ضد دولٍ ومنظماتٍ ذات سيادة، في خرقٍ وتجاوزٍ للأعراف والمواثيق والقوانين الدولية.
قانون "جاستا"
هل مشروع القانون سابقة بحد ذاته؟
لا، ليس بجديدٍ على الولايات المتحدة. مع الأسف الشديد، فقد سبق لها أن أقرت في عام 2016 القانون الذي أسمته قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" أو قانون "جاستا" كما بات معروفاً، وهو قانونٌ يسمح للأفراد الأميركيين، والمؤسسات الأميركية من ضحايا الهجمات الإرهابية، بمقاضاة الدول الأجنبيَّة، التي يدّعون تورطها في دعم أو تنفيذ العمليات الإرهابية التي تعرضوا لها، وتنتج عنها إصابات أو حالات وفاةٍ، أو أي أضرار أخرى، سواء حدثت هذه العمليات داخل الولايات المتحدة الأميركية، أم خارجها.
وعلى الرغم مما في اسم هذا القانون من معان طيبة، إلا أنه نموذجٌ لعدم احترام الأعراف والمواثيق الدولية، ومن بينها قوانين ومعاهدات الحصانة السيادية، التي ترتكز على عدم جواز خضوع دولةٍ ما، بغير إرادتها ورضاها، لقضاء دولة أخرى. بمعنى أنه لا يجوز لدولة ذات سيادة أن تفرض سلطتها القضائية على دولة أخرى ذات سيادة، نظراً لأنه لا توجد دولة تملك الحق، قضائياً وقانونياً، في الحكم على أفعال دولة أخرى، استناداً إلى مبدأ سيادة الدول والمساواة بينها، الذي نصت عليه العديد من المعاهدات والمواثيق الدولية، وفي مقدمتها ميثاق الأمم المتحدة. وبالتالي فإن فرض إحدى الدول سلطتها القضائية على دولة أخرى يعد انتهاكاً وإخلالاً بمبدأ السيادة.
وهكذا، جاء قانون "جاستا" لينسف هذه المبادئ التي استقرت لحقبة زمنية طويلة من أساسها، ولينسف السوابق القضائيَّة التي استقرَّ عليها رأي القضاء في ما لا حصر له من الدول، وفي مقدمته القضاء الأميركي، في خطوة تمثل اعتداءً صارخًا وانتهاكاً جسيماً لقواعد ومبادئ القانون الدولي العام، ولما استقر عليه قضاء الولايات المتحدة نفسها لأزمنة بعيدة.
ويأتي طرح مشروع قانون "لا لأوبك" اليوم ليزيد الطين بلةً، ويُعزز الشعور بعدم احترام المُشرعين الأميركيين للأعراف والقوانين الدولية.
خطوات تحويله إلى قانون نافذ
ما الوضع الحالي لمشروع قانون "لا لأوبك"؟
كما ذكرت آنفاً، فقد مررت اللجنة القضائية التابعة للكونجرس، في الخامس من مايو الجاري (2022) مشروع قانون "لا لأوبك"، الذي يُعرف باسم لا لأوبك "NOPEC" ضد أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك".
وبالتالي بات مشروع القانون مطروحاً للتصويت في مجلسي الكونجرس، وإذا وافق مجلسا الكونجرس (الشيوخ والنواب) على مشروع القانون، فإنه يحتاج لتوقيع الرئيس بالموافقة خلال عشرة أيام (باستثناء يوم الأحد)، ليصبح قانوناً نافذاً. وباستطاعة الرئيس رفض المشروع خلال تلك المدة (استخدام حق النقض أو الفيتو)، وعندها يُعاد القانون إلى الكونجرس للنظر فيه وإيقافه، أو إعادة التصويت عليه، فإن قرر الكونجرس إعادة التصويت عليه وجب أن يحصل مشروع القانون على ثلثي عدد الأصوات ليُصبح قانوناً نافذاً دون الحاجة إلى موافقة الرئيس.
وإذا أصبح قانون "لا لأوبك" قانونا سارياً، سيكون بمقدور وزارة العدل (المدعي العام الأميركي) مقاضاة "أوبك"، أو دولها ذات السيادة، أمام محكمة فدرالية بحجة ممارستها الاحتكار.
كما سيُمكّن هذا القانون وزارة العدل الأميركية من مقاضاة منتجين آخرين متحالفين مع "أوبك"، مثل روسيا، على اعتبار أنهم يعملون مع المنظمة، ضمن ما يعرف باسم مجموعة "أوبك +"، على خفض الإمدادات بغرض التأثير في الأسعار.
ولن تُستثنى أي دولة عضو في "أوبك +" من تطبيق القانون، ولو كانت ذريعتها عدم امتلاكها طاقة إنتاجية فائضة، طالما أنها طرفٌ في الاتفاق.
وبالتالي يُمهد إقرار اللجنة القضائية، الذي أشرت إليه آنفاً، الطريق أمام إجراءات فدرالية تتخذها حكومة الولايات المتحدة ضد "أوبك" أو دولها، أو الاثنين معاً، لأن من شأن هذا القانون إزالة عقبتين قانونيتين تحولان، حالياً، دون إقامة حكومة الولايات المتحدة أي دعاوى ضد أوبك ودولها، وهما قانون حصانات السيادة الأجنبية ومبدأ حرية تصرف الدولة.
وعلينا أن نُدرك، في هذا الإطار، أن قرار رفع مثل هذه الدعاوى منوطٌ بوزارة العدل أو هيئة التجارة الفدرالية، أي أنه قرارٌ سياسي منوطٌ بإدارة الرئيس الأميركي. والذي يبدو لي أن الإدارة الحالية لن تتردد في مقاضاة "أوبك" ودولها الأعضاء.
وهذا الأمر، أعني إقرار القانون واستغلاله لمقاضاة "أوبك" ودولها، أمرٌ مؤسفٌ، فبالإضافة إلى تعدي هذا القانون على مبادئ الحصانة السيادية للدول، ومبدأ حق الدول في التصرّف في مواردها الطبيعية، فإن من الواضح أنه بُني على خُططٍ وتحركاتٍ انتخابية، دون أن يأخذ بعين الاعتبار الأبعاد السياسية الأعمق والأشمل، والتي تهم الولايات المتحدة، كدولة، في علاقتها وتعاملها مع دول أوبك، خارج إطار صناعة النفط وسوق النفط العالمية.
"نموذج سيء للتنمر"
هل سينفذ التهديد على جميع دول "أوبك"؟ أليست هذه عملية صعبة؟
أظن أن غالبية من كانوا وراء هذا القانون، صاغوه بشكلٍ مُعيّن ليكون أداة تهديدٍ قانونيةٍ في يد الولايات المتحدة، أكثر من كونه أداة عقوباتٍ فعلية. بمعنى أنهم أرادوا الضغط باتجاه جعل "أوبك"، ودول معينة، أكثر استجابةً لمطالب الولايات المتحدة. وهذا، في حد ذاته يلطخ القانون، لأنه نموذجٌ سيءٌ للتنمُّر الدولي الذي ظهرت ملامحه واضحة، قبل ذلك، في قانون جاستا، وتزداد وضوحاً في هذا القانون ضد "أوبك".
ولا أدل على هذا التسييس في التعامل مع دول العالم الأخرى من قول ديفيد جولدوين؛ المبعوث والمُنسق الخاص السابق لوزارة الخارجية الأميركية لشؤون الطاقة، ورئيس شركة " جولدوين للاستراتيجيات العالمية"، المتخصصة في شؤون الطاقة وأمنها؛ حيث يقول: "إذا فشلت الدبلوماسية، فإن هذا النوع من التهديد قد يكون أداة مفيدة".
ولكن، احتمال تمرير هذا القانون وإقراره، يعني أن واشنطن باتت على وشك التوصل إلى حلٍّ لصالحها وسيعقد علاقتها مع أوبك ودولها، التي استمرت قرابة 63 عاماً حتى الآن. بل إنها ربما تصبح أبعد كثيراً عن هذا الحل، بسبب المآخذ الكثيرة والجسيمة على هذا القانون، وبالتالي بسبب المشكلات التي سيتسبب فيها والتي ستكون، فيما أرى، أكثر بكثيرٍ من الحلول التي يُقدمها.
وكيف تقارن بين موقفي بايدن وترمب حيال هذا القانون؟
الرئيس الأميركي بايدن والإدارة الأميركية، فيما يبدو، في موقف لا يحسدان عليه. فكما ذكرت آنفاً، أدى ارتفاع أسعار النفط، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا إلى زلزلة أسواق الطاقة ورفع معدلات التضخم في الداخل، كما أن العقوبات الغربية وحظر الاتحاد الأوروبي المحتمل على النفط الروسي يعني خلق فجوة في السوق، قد تؤدي إلى تفاقم الوضع الأميركي. ومع اقتراب موعد الانتخابات النصفية، المقرر إجراؤها في نوفمبر القادم، فإن إيقاف قطار التضخم يزداد صعوبةً على الرئيس بايدن في الوقت الحالي.
موقف الرئيس الأميركي السابق
ومن جانبٍ آخر، نعلم أن مواقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب من "أوبك" كانت معروفةً، قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، فقد كان، باستمرار، مناوئاً لـ"أوبك"، ومؤيداً لمشروع قانون "لا لأوبك". وقد قال في كتابٍ له، نُشر عام 2001: "بإمكاننا أن نبدأ بمقاضاة أوبك لخرقها القوانين التي تمنع التكتلات"، ولكن لم يمرر هذا القانون في عهده، كما لم يتمكن الكونجرس من إقرار مثل هذا القانون بسبب اعتراض الرؤساء الأميركيين السابقين عليه. بل سبق وقدّم الكونجرس قوانين متطابقة تقريباً، مع قانون "لا لأوبك" أثناء فترة حكم الرئيس جورج دبليو بوش، والرئيس باراك أوباما، ولكن أيّاً منهما لم يكن لديه الاستعداد للتوقيع على مثل هذا المشروع ليُصبح قانوناً، وذلك تحسُّباً لردود الأفعال، التي قد يصفها البعض بأنها انتقامية، من البلدان المتضررة، التي يمكن أن تجرد الولايات المتحدة الأميركية من حصانتها السيادية، وكذلك خوفاً من التأثيرات السلبية على الجهود الدبلوماسية الأوسع نطاقاً.
وكمثالٍ آخر، أقرّ الكونجرس بمجلسيه، في عام 2007 نسخة من قانون "لا لأوبك" لكنه عاد فجمّده بعد أن قال الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش إنه سيمارس حق النقض ضد ذلك التشريع. ولم يستغرب أحدٌ ذلك لأن هذا القانون، كما ذكرت سابقاً، يتعارض مع مبادئ قانونية دولية راسخة ويضر كذلك بالمصالح الأميركية مع بعض أقرب حلفائها، وذلك لأن علاقة الولايات المتحدة مع بعض الدول المنتجة للنفط، مثل المملكة العربية السعودية، تتجاوز مجرد توفير النفط، ويتعين أن تكون متينة ومتوازنة تُراعي المصالح المُشتركة الرئيسة الأخرى كالتعاون على مكافحة الإرهاب، والعمل على إرساء الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط.
انعكاسات أميركية
هل يمكن أن يكون لإقرار هذا القانون تأثير ضار على الولايات المتحدة نفسها؟
بالطبع، فكما ذكرت آنفاً، قد تحدث ردود أفعال إجرائية أو تشريعية، يصفها البعض بأنها انتقامية، من البلدان المتضررة من هذا القانون على مبدأ المعاملة بالمثل ويضعف مبدأ الحصانة السيادية.
وعلاوة على ذلك، سيضر قانون "لا لأوبك" بالعلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأعضاء في "أوبك"، وكثير منهم حلفاء مهمون للولايات المتحدة، يقدمون الدعم العسكري وغيره من أشكال الدعم للقوات الأميركية، ويدعمون أهداف السياسة الخارجية الأميركية الأوسع، بالإضافة إلى الكثير من التأثيرات السلبية على الجهود الدبلوماسية الأوسع نطاقاً، حيث سيُعقّد إقرار قانون "لا لأوبك" العلاقات الثنائية.
كما قد ترد دول "أوبك" بأساليب أخرى بالابتعاد عن الولايات المتحدة وإضعاف التجارة معها، الأمر الذي سيقوض الهدف الأساس من سن القانون.
وفي هذا الإطار، يقول مارك فينلي، من معهد "بيكر" في جامعة "رايس"، المختص بشؤون الطاقة والنفط العالمية، والمحلل والمدير السابق في وكالة الاستخبارات المركزية: "إنها لخطوة سيئة أن تضع السياسات وأنت في حال غضب".
كيف ترى موقف أوبك ودولها من هذا القانون؟
لا شك أن منظمة "أوبك"، والدول الأعضاء فيها، ممتعضون ومستاؤون أشد الاستياء من هذا الإجراء الذي بدأت الولايات المتحدة باتخاذه. ومع أن من أهم أسباب هذا الامتعاض هو أن قانون "لا لأوبك" يخرق المواثيق والأعراف المتعلقة بالحصانة السيادية، وبحق الدول في التصرّف بحرية في ثرواتها ومواردها الطبيعية، بالإضافة إلى نظرته الضيقة والمحدودة للأبعاد العديدة والمهمة للعلاقات التي تربط الولايات المتحدة بالمنظمة والدول الأعضاء فيها، إلا أن من أهم ما يُزعج "أوبك" ودولها من هذا القانون الذي أسميه "استقوائي" هو أنها قامت بكل ما يمكنها القيام به للإسهام في تحقيق التوازن بين العرض والطلب في هذه السوق بشكلٍ يخدم الدول المنتجة والمُستهلكة على حدٍّ سواء.
ولكن قوىً معينة في الولايات المتحدة، مع الأسف الشديد، تنظر إلى مصالحها، ولعلي أؤكد هنا أن أكثرها مصالح انتخابية محدودة، فقط، ولا تُراعي أن دور "أوبك" في السوق النفطية العالمية لم يعُد بالحجم والقوة التي كان عليها في السبعينيات من القرن الماضي، وأن هناك عوامل أخرى تؤثر بقوةٍ في سوق النفط العالمية، وهي خارجة عن سيطرة الدول الأعضاء في أوبك منها، على سبيل المثال، عدم انضباط أو توازن أسواق الطاقة الأخرى، خاصة الفحم والغاز، والصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا، والعقوبات الغربية وحظر الاتحاد الأوروبي المحتمل على النفط الروسي، الذي سيترك فجوة في السوق قد تؤدي إلى تفاقم الوضع النفطي في الأسواق العالمية.
وخلاصة ما أرى، أن على "أوبك" والدول الأعضاء فيها، بذل كل جهد إعلامي واتصالي ممكن لإقناع المؤسسة الحاكمة، والمجتمع الأميركي، بالجهود التي تبذلها للحفاظ على أمن إمدادات الطاقة واستقرار أسواقها العالمية، ولإيضاح العوامل الخارجة عن إرادتها التي باتت تؤثر في السوق بشكلٍ واضح، ولبيان المآخذ والمخاطر المترتبة على قانون "لا لأوبك".
ومن ناحيةٍ قانونيةٍ، على "أوبك" ودولها الاستعداد لمواجهة أي دعاوى محتملة قد تُرفع ضدها في المحاكم الأميركية جراء إقرار هذا القانون، مُتذرعةً في مواجهة هذه الدعاوى بجميع الحجج المنطقية والقانونية التي تُبيّن سلامة مواقفها، وتدحض مواقف وادعاءات خصومها.
اقرأ أيضاً: