في محاولة لخفض معدلات الطلاق المرتفعة بمصر، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حزمة من البيانات للوقوف على أسباب هذه الظاهرة، حيث شهدت البلاد حوالي 222 ألف حالة طلاق خلال عام 2020 فقط، لتصبح بذلك أزمة انفصال الأزواج وتوابعها مادة خام ثرية للمواد الدرامية والبرامج الحوارية.
وأشار الجهاز إلى أن تلك الزيادة جاءت تدريجية على مدار السنوات الـ10 الماضية، الأمر الذي دفع السلطة التشريعية إلى إطلاق عدد من مشروعات القوانين والتعديلات على قانون الأحوال الشخصية المصري، في وقت أبدت القيادة السياسية المصرية اهتمامها بظاهرة الطلاق، متمثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي عبّر عن اهتمامه بالقضية منذ عقود خلال مداخلة تليفزيونية الأسبوع الماضي.
فكيف صعدت ظاهرة الطلاق إلى السطح وشكّل تفاقمها ضغطاً على المشهد الاجتماعي المصري؟
ملحوظات رئاسية
أثناء مداخلة هاتفية في برنامج صالة التحرير على قناة "صدى البلد" الفضائية المصرية، أعرب الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مخاوفه بشأن زيادة نسبة الطلاق في المجتمع المصري على مدار الـ20 عاماً الماضية.
وتحدث مع مقدمة البرنامج عزة مصطفى عن مشكلات الأسر المصرية المتكررة في محاكم الأسرة والمتشابهة في مضمونها على مدار 40 عاماً، حيث أبدى مخاوفه من تأثير التفكك الأسري على قرارات الأجيال الجديدة ومدى قبولهم خوض تجربة الارتباط.
وتُشير بعض من إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، إلى زيادة ملحوظة في أعداد حالات الطلاق في مصر، ففي العام 2012 سجلت البلاد 155.3 ألف حالة طلاق واستمر المنحنى في حالة صعود وهبوط حتى وصل ذروته في العام 2019 مُسجلًا 225.9 ألف حالة طلاق، ثم عاد ليسجل 222 ألف حالة في العام 2020.
وتركزت أغلب حالات الطلاق في محافظتي القاهرة والجيزة، إذ تتربع العاصمة على رأس القائمة بإجمالي 46.3 ألف حالة طلاق، تليها الجيزة بإجمالي 26.4 ألف حالة، ثم الدقهلية مُسجلة 17.2 ألف حالة طلاق، أما محافظات جنوب سيناء والوادي الجديد والبحر الأحمر وشمال سيناء ومطروح، فتتمتع باستقرار نسبي في العلاقات الزوجية.
عناصر محركة
في حديث لـ"الشرق"، قالت أستاذة علم الاجتماع بكلية التربية بجامعة عين شمس، الدكتورة سامية خضر، إن البعض يُعزي زيادة نسب الطلاق في المجتمع للعديد من الأسباب، من بينها تأثيرات مواقع التواصل الاجتماعي على سلوكيات الزوجين، سواء عبر تشتت كلاً منهما عن الآخر أو تأثره بالأقران ونصائحهم غير المجدية، في حين يرى آخرون أن الأزمة ترتبط بخروج المرأة للعمل وتبدل أولوياتها بما يجعل الاهتمام في الأسرة في مرتبة متأخرة، مقابل إدارة شؤونها المهنية والمادية، غيرَ أن خضر ترى أن الأزمة أكثر عمقاً من ذلك.
وتضيف: "ما يحدث اليوم هو نتيجة لفراغ فكري وتعليمي، وضعف في التوعية وتكوين فكر الشباب، حيث نشهد اليوم حالة جفاف في السلوكيات، وهبوط في الأخلاقيات، وفي بعض الأحيان تتحول الحياة بين الزوجين إلى ما يُشبه مبارزة عدائية يحاول من خلالها كل فريق أن يسحق منافسه".
وتؤكد الأكاديمية المصرية أن هناك أكثر من عامل يسهم في تشكيل ملامح المشهد الحالي، ما بين تمجيد العنف، وضعف التوعية، وغياب نموذج القدوة عن المنصات الإعلامية، فتقول: "علينا أن نعقد موزانة بسيطة بين المحتوى الإعلامي لبرامج المرأة في السابق واليوم. سابقاً كان لدينا برامج توعوية تُشكل دواءً للأسرة كبرنامج (ربات البيوت) من تقديم الإعلامية صفية المهندس الذي عمد إلى مناقشة المشكلات وطرح حلول فعالة، أما اليوم فالبرامج عادةً ما يقتصر محتواها على مناقشة أمور فرعية تتعلق بمظهر المرأة وترتبط بالمواد الإعلانية".
إعادة نظر
من جهة أخرى ترى الدكتورة سامية خضر أن الأزواج الجدد يفتقرون في بعض الأحيان لمهارات أساسية في إدارة الحياة المشتركة، كإدارة المنزل والأمور المادية.
وتابعت: "الأمر يعتمد على التربية، فيتعلم الفرد منذ سن مبكرة تنظيم إنفاق المال وكيفية اتخاذ القرار، كي يتمكن مستقبلاً من التخطيط للقرارات الشرائية أو إنجاب الأطفال بعيداً عن العشوائية، إلا أن الواقع لا يسير على هذا النحو، فلا يتعلم الزوجين كيفية إقامة حياة يومية مُرضية إن لم تكن سعيدة ومن ثم بناء رحلة زوجية هادئة".
وأضافت: "هناك ثقافة أيضاً تحتاج لإعادة النظر، فالأسرة الأصلية تنصح ابنتها بكثرة الإنجاب مخافة هروب زوجها، ما يُثقل الأعباء على كاهله، ومن جهة أخرى لا تغرس الأسرة في أبنائها مبادئ التعاون مع الزوجة في الأمور المنزلية وتحمل المسؤولية".
تأهيل متأخر
على الرغم من توفر بعض أنماط الدورات التأهيلية للمقبلين على الزواج، إلا أن الجمهور، وعلى عكس المأمول، عادة ما يُقبل عليها في نهاية فترات الإعداد للزواج، وذلك وفق ما يُحدد استشاري الطب النفسي الدكتور جمال فرويز، مشيراً إلى أن مثل تلك الدورات تستهدف مساعدة الأشخاص على حسن اختيار شركاء حياتهم، عبر التعرف على أنماط الشخصيات المختلفة، وكيفية التعامل معها، يلي ذلك التعامل مع الضغوط وغيرها من القضايا، إلا أن الشباب يقبل عليها قبل بضعة أيام من إتمام الزيجة.
وفي تلك الحالات، تُصبح الاستفادة من الدورة منقوصة، خاصة وأن اختيار الشريك تم بالفعل، بينما يُصبح حضور الدورة التدريبية أمر إجرائي، كما أن التعامل مع الدورات التدريبية على نحو مغلوط لن يختلف كثيراً من وجهة نظر فرويز حتى ما إذا اعتُبرت دورات إلزامية قبل الزواج.
ويتابع: "نحن نمر بحالة من الانهيار الثقافي، لذا ربما في حالة تحويل الدورات لخطوة إلزامية قبل الزواج نجد من يسعى للحصول على شهادة الدورة دون إتمامها على نحو صحيح، لذا لا مفر من رفع المستوى الثقافي والتعامل مع المفاهيم المغلوطة".
وقبل الانفصال يحاول بعض الأزواج صيانة علاقاتهم العاطفية عبر زيارة عيادة الطبيب النفسي وحضور جلسات العلاج الزوجي" أو "Couple therapy"، إلا أن نجاح التجربة يتوقف على عدة عناصر وفقاً لتقييم استشاري الطب النفسي خلال حديثه لـ"الشرق"، إذ "يتوقف الأمر على توقيت زيارة الطبيب، وكذلك خبرة المعالج، فلا بد أولاً من تحييد الاحتمالات المرضية التي قد تسهم في تدهور العلاقة ثم العمل على ترميمها وإصلاحها وتقريب وجهات النظر".
ولفت جمال فرويز كذلك إلى أن إصابة أحد الأزواج باضطراب نفسي غير مشخص قد يؤدي إلى تدهور العلاقة الزوجية، ومن ثم فإن استبعاد المرض شرط أساسي لبدء العلاج الزوجي، لكن أغلب الأزواج والزوجات عادة ما يطلبون المشورة النفسية في مرحلة من متأخرة، بعد تداعي علاقاتهم بشكل شبه كامل.
مطالبة بقانون جديد
مع انتفاء احتمالية عودة العلاقات إلى ساحة التفاهم، تنتقل الأزمات الزوجية إلى ساحة القضاء، حيث يتنازع كلاً من الزوج والزوجة إما لإنهاء حياتهم الزوجية أو للحصول على حقوق شرعية بعد انقضائها، الأمر الذي يتم في إطار قانون الأحوال الشخصية المصري الذي وضع بالأصل أوائل القرن الماضي، بحسب ما توضح لـ"الشرق" رئيسة مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، المحامية المصرية انتصار السعيد، والتي قالت إن "القانون الساري وُضع في ظروف مغايرة لواقعنا الحالي، ومن ثم فأنه لم يعد مناسباً، بل يتضمن ثغرات تتعلق بحقوق النساء والأطفال على نحو خاص".
وترى السعيد أن التغلب على الأزمة يكمن في وضع قانون مدني موحد جديد، يتساوى أمامه النساء والرجال كما يُخاطب عدد من القضايا الملحة، كالزواج والطلاق أمام القاضي، وتقسيم الثروة المشتركة بين الزوجين، وتعدد الزوجات بإجراءات قضائية مع توفر ما يدل على يسر الزوج.
وأضافت: "قضايا النشوز أيضاً من الأمور التي يجب الالتفات إليها، بل وإلغائها في القانون الحالي، وما تتضمنه من إنذار الطاعة للزوجة الذي يُعد بمثابة إهانة لها، وهو أمر ملغي بالفعل في دول عربية كالمملكة العربية السعودية".
نماذج برلمانية
في البرلمان المصري هناك بالفعل مشروع لقانون أحوال شخصية جديد، تقدمت به النائبة نشوى الديب خلال أبريل الماضي، تضمنت مواده بنوداً تخص تنظيم تعدد الزوجات أمام القضاء، فضلاً عن مسألة استمرار حضانة الأم لأطفالها بعد زواجها من آخر، وهى قضايا أثارت جدلاً واسعاً في الأونة الأخيرة بعد عرض مشروع القانون، ولاحقاً تم بث حلقات المسلسل التلفزيوني "فاتن أمل حربي" الذي يُجسد معاناة أم تحاول تنظيم حياة طفلتيها في ضوء مكائد متعددة من زوجها السابق.
وفي مايو الجاري تقدمت أيضاً النائبة أمل سلامة بمشروع قانون لتعديل بعض أحكام قانون الأحوال الشخصية، حيث تعتبر سلامة أن مشروع التعديل المقدم يُنصف الأسرة المصرية ككل، ويواكب التطورات العصرية مقارنةً بالقانون الأصلي الذي يعود لعشرينيات القرن الماضي.
وأضافت: "التعديلات المقترحة تتطرق لقضايا متعددة، منها أزمة النساء المطلقات بلا مأوى من غير الحاضنات، وتمنحها نفقة مؤقتة تُدفع خلال 48 ساعة من الطلاق، كما يُنظم القانون أزمة الطلاق الغيابي ويقترح إثباته عبر المحكمة".
بدورها، قالت المحامية انتصار السعيد: "نرحب في مؤسسة القاهرة بأي حالة حوار حول قانون الأحوال الشخصية في المجتمع والبرلمان، فالتشريع وإنفاذ القانون عناصر أساسية، ولابد أيضاً من التوعية بأهمية خطوة الزواج وما يتبعها من مسؤوليات للشباب من قبل منظمات المجتمع المدني، إذ أن الشباب يعتبرون الأمر محض نزهة".