هذا المقال جزء من سلسلة "2023.. عام الأسئلة الصعبة".
بقلم: لواء أركان حرب متقاعد/ سيد غنيم
- رئيس معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع (IGSDA)، وأستاذ زائر بالأكاديمية العسكرية الملكية ببروكسل.
- متخصص في سياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والقرن الإفريقي كأستاذ زائر في الجامعات والأكاديميات في الشرق الأوسط، وفي أوروبا بمعاهد الناتو والقيادات الأوروبية وبالأكاديمية العسكرية الملكية ببروكسل، وفي الجامعات والمعاهد بدول شرق آسيا في الصين وتايوان واليابان وكوريا الجنوبية، وفي أميركا اللاتينية بجامعة الدفاع في هندوراس.
- حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من كلية التجارة بجامعة بورسعيد، ودرجة الزمالة في الاستراتيجية والأمن القومي من أكاديمية ناصر العسكرية العليا في مصر، وماجستير العلوم العسكرية من كليتي القادة والأركان المصرية والباكستانية، وبكالوريوس في إدارة الأعمال من كلية التجارة بجامعة عين شمس في مصر، وبكالوريوس العلوم العسكرية من الكلية الحربية المصرية.
"إذا كان أحد يسأل ما هي سياستنا؟ فسأقول إنها الحرب.. الحرب براً وبحراً وجواً. وإن سأل أحد ما هو هدفنا؟ فسأجيب: تحقيق النصر.. النصر بأي ثمن.. النصر مهما كان الطريق طويلاً وصعباً؛ لأنه بلا نصر فلا بقاء". وينستون تشرشل – 13 مايو 1940.
بعد تلك الكلمات بخمس سنوات، حقق الحلفاء ما أراده تشرشل بانتصار كامل، في حربٍ مرعبة كلفت البشرية نحو 60 مليون قتيل، بينهم 40 مليون مدني و20 مليون جندي، نصفهم تقريباً من الاتحاد السوفييتي.
على هذا الأساس الدامي، تشكَّل النظام الدولي الذي نعيشه، فربحت موسكو التي دفعت الثمن الأفدح في الحرب، مكانها كقطب دولي رئيسي، بالمقابل ربحت لندن مقعدها في النظام الدولي الجديد، أما الولايات المتحدة فقد تسلمت لواء "العالم الحر"، فيما حصدت فرنسا التي سقطت تحت الاحتلال النازي على مكانة مساوية لبريطانيا، بينما خرجت الصين من الاحتلال الياباني الشرس بمقعد دائم في مجلس الأمن. فيما ظلت باقي دول العالم في مقاعد المتفرجين الغاضبين.
التوازنات الدولية التي أرست قواعدها الحرب العالمية الثانية، تحولت تدريجياً إلى مبارزة ثنائية بين معسكري واشنطن وموسكو، حتى انهيار الاتحاد السوفييتي رسمياً في 26 ديسمبر 1991. ليبرز قطب دولي وحيد يفرض "الهيمنة الكاملة"، ويدفع بثقله لسد الجراح القديمة وتأجيل تسوية الحسابات بالدم، خاصة بين الكبار.
الآن وبعد 78 عاماً من انتهاء الحرب العالمية الثانية، و32 عاماً على هيمنة "القطب الأوحد"، بدأت دول العالم تسأل نفسها عن المستقبل، خاصة مع فراغ فادح في القيادة ينذر بأن "الجروح القديمة" والدماء المؤجلة قد تطفو على السطح في أي وقت.
زلزال أوكرانيا
لسنوات طويلة، ظلت روسيا تعلن تململها من اقتراب الناتو من حدودها، وتحذر من خطورة استمرار الضغط على أعصاب موسكو. ورغم تبرم روسيا إلا أن الإقدام على غزو أوكرانيا مفاجأة كاملة. فلا أحد يخوض حرباً مثل هذه بلا حلفاء، ولا توجد استراتيجيات تُبنى على التفكير بالتمني. لكن الدماء المؤجلة بين موسكو وكييف، انفجرت فجأة وعبرت الدبابات خط الحدود الدولية، لتعيد أشباح الحرب إلى أوروبا بعد قرابة 8 عقود في "القارة الآمنة".
مع الحرب اشتعلت أسواق الطاقة والأسمدة والغذاء، وجد العالم نفسه يدخل دوامة جديدة من صراع "تكسير الأصابع"، وتعالت المخاوف من تكرار تجربة أوكرانيا في تايوان، وبدا أن النظام العالمي الجديد يمر بمرحلة مخاض عنيفة، تفتح الباب لسيناريوهات متنوعة، قد تجيب عن أسئلة ملحة مثل التوازن والعدالة والقيادة، لكنها قد تطرح أيضاً أسئلة أكثر أهمية، مثل من يدفع تكاليف الهيمنة الدولية؟ ومن يمكنه تسديد فاتورة "المشاركة"، ومن يملك القدرة على سد الثقوب الجيوسياسية حول العالم؟
من يدير العالم؟
رحلة تحقيق الهيمنة ليست نزهة أو مجرد بلاغة خطابية، فهي بالأساس عملية مكلفة للغاية، تتضمن السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي وإنشاء نموذج ثقافي يمكن تعميمه. إنها عملية طويلة ومؤلمة وبطيئة، لذا تحتاج قدرات اقتصادية مهولة، تساندها القوة العسكرية، فيما يتكون عمادها الرئيسي من مزيج التكنولوجيا والثقافة بمفهومها الواسع.
أما المشاركة في القرار الدولي، فهي تعني قبل أي شيء، توزيع الفواتير، فعمليات ضمان وتأمين التجارة العالمية مثلاً التي يمر نحو 80% منها عبر البحار والمحيطات، تعتبر مسألة مكلفة للغاية، فمن يملك القدرة على المنافسة في هذا المجال؟
رغم كل تلك التعقيدات، إلا أن نمو القوى الإقليمية حول العالم، وبداية إنشاء تكتلات اقتصادية وسياسية تحاول الخروج من الركب الأميركي، يضغطان على صناع الاستراتيجية في العالم كله، فعملياً هناك فارق ضخم بين الهيمنة على القرارات الدولية، والهيمنة على النظام العالمي. فالأولى تظهر عادةً في قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة حيث تمارس واشنطن ضغوطاً على الدول لاتخاذ قرارات معينة في صالحها، أما الهيمنة على النظام العالمي، فتحتاج إلى ما هو أبعد بكثير من ذلك الضغط.
6 أبعاد للهيمنة العالمية
هناك 6 أبعاد رئيسية لتحقيق الهيمنة على النظام العالمي، هي السيادة العسكرية بحرياً عبر المحيطات، وثانياً تحقيق التفوق أو السيادة في مجالات الفضاء والعالم السيبراني، وثالثاً امتلاك تكنولوجيا عالية التطور تتفوق بشكل فارق على ما لدى المنافسين بشكل يمكّنها من إدارة السيطرة.
رابع تلك الأبعاد الرئيسية يتلخص في القدرة على المناورة الدبلوماسية متعددة الوسائل، سواء عن طريق المنح أو المساعدات أو توقيع عقوبات مؤثرة وفعالة وضمان سريانها دولياً، على غرار ما حدث مع إيران، وروسيا، وفنزويلا، رغم الصلات الاقتصادية الوثيقة لروسيا مع أوروبا مثلاً في قطاع الطاقة، وقدرة واشنطن على فرض وجهة نظرها وضمان تنفيذها بشكل مؤثر.
أما خامس الأبعاد فهو القوى الاقتصادية المستدامة وأخيراً بُعد شديد الأهمية، هو السيطرة على قطاع التقنيات الإلكترونية التي تصل العالم ببعضه، مثل شبكة الإنترنت والخدمات الرئيسية وأيضاً المعاملات المصرفية والمالية المرتبطة بالتكنولوجيا وغيرها.
ولتحقق دولة ما الهيمنة، تحتاج للتفوق في جميع عناصر القوى الشاملة للدولة، مع قدرة كاملة على استخدامها بما يحقق السيادة أو التفوق العالمي، سواء عبر وسائل قسرية أو وسائل غير قسرية.
إذن كيف تفكر القوى الكبرى في معركة تكسير العظام على كرسي القيادة الفارغ؟
ماذا تريد واشنطن؟
حسب الاستراتيجية المعلنة للولايات المتحدة، فإن هدف واشنطن الاستراتيجي عالمياً هو "تعزيز قيم الولايات المتحدة وتعزيز النمو الاقتصادي العالمي، والتنمية، والاستقرار، مع توسيع الفرص للشركات الأميركية وضمان الأمن الاقتصادي للأمة، بهدف أن تبقى الولايات المتحدة الأميركية القطب الأقوى القادر على صياغة النظام العالمي والهيمنة على قراراته الدولية عبر مثلث الثقل العالمي".
وذلك من خلال استراتيجية كبرى أطلق عليها أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الأميركية، جون ميرشيمر "الهيمنة الليبرالية"، تعمل من خلال مشروع قيمي، وآليات تنفيذ تعتمد على مفهومَي "التوازن فيما وراء البحار - Offshore Balance" و"القيادة من الخلف - Leading From Behind".
فكرة "التوازن فيما وراء البحار" تقوم على الحفاظ على توازن تقريبي للقوى في الأقاليم الجيوسياسية الرئيسية الثلاثة في العالم وهي: أوروبا، وشرق آسيا، والخليج العربي. وهذه الأقاليم الثلاثة تعتبر مثلث الثقل، إذ إن أوروبا وشرق آسيا يمثلان قلعتي الصناعة الرئيسية في العالم، وتمثل منطقة الخليج مصدر الطاقة الرئيسي لمركزي الصناعة.
وترغب واشنطن في أن تظل تلك المناطق آمنة من أي تطورات أمنية قد تواجهها، لذلك وجب على الولايات المتحدة أن تسعى أولاً إلى نقل بعض المسؤوليات إلى القوى المحلية، والتدخل فقط إذا كان التهديد أكبر من أن تتعامل معه القوى الحليفة في كل منطقة. وهو ما نفذه بالفعل أوباما في نهاية فترته وسمّاه "القيادة من الخلف".
التنين الصيني.. رحلة الصبر الاستراتيجي
يتمثل الهدف الاستراتيجي للصين أولاً في حماية نفسها، بأن تبقى الدولة "صيناً واحدة متماسكة، ذات حكم قوي رصين يحافظ عليها قوية ومزدهرة، تحركها دبلوماسية مرنة وتحميها قوات مسلحة قادرة على ردع التهديدات، بما يمهّد الطريق لها كقوة عالمية في نظام عالمي متعدد الأقطاب".
تنتهج الصين استراتيجيتها من خلال فكرة "التجديد القومي"، وهو طريق يركز بشكل أساسي على استعادة ثروة الصين وقوتها. فضلاً عن فكرة "المجتمع العالمي"، إذ تطمح الصين لإعادة تموضع ناعمة تناسب ثقلها الاقتصادي الكبير، وثقلها العسكري والسياسي المتنامي، وذلك عبر "المساهمة الصينية"، وهو مبدأ في الاستراتيجية الصينية يلخص الطريق الذي ترغب بكين فيه للتعامل عالمياً.
تبدو الصين أكثر القوى الكبرى حذراً وبطئاً في التمدد، وغالباً ما تقدم السياسة الصينية نفسها على الساحة الدولية، باعتبارها قوةً عظمى بلا ماضٍ استعماري عكس القوى الغربية، ولا أطماع ثقافية محددة في مقابل "الهيمنة الليبرالية" الأميركية.
لا ترغب بكين في "خوض صراعات خارج نطاق الرؤية"، فهي تركز جهودها على التمدد البطيء والربط الاقتصادي بالدول الصاعدة في آسيا وإفريقيا عبر سياسة تعتمد على القروض غير المشروطة بتكاليف سياسية، كما تتمدد نحو أوروبا كدولة تملك فوائض مالية هائلة (وصل حجم الاحتياطي تقريباً إلى 3.1 تريليون دولار، والناتج المحلي إلى نحو 17 تريليون دولار).
ويمكن العودة إلى 17 فبراير 2017، حين ترأس الرئيس الصيني شي جين بينج ندوة الأمن القومي في بكين، حدد خلالها ثلاث عمليات من المنظور الجيوسياسي وهي (تعدد الأقطاب في النظام العالمي - عولمة الاقتصاد - دمقرطة العلاقات بين الدول).
وهذه العمليات الثلاث تمثل تحديات وفرصاً للصين، لذا يجب أن تحافظ بكين على (الثبات الاستراتيجي - الثقة الاستراتيجية - الصبر الاستراتيجي).
ولتحقيق ذلك، يجب تعزيز الأمن القومي بمفهومه الصيني، باعتبار أن أمن المجتمع هو الهدف، والأمن السياسي هو الأساس، والأمن الاقتصادي هو القاعدة، والهياكل العسكرية والثقافية والمجتمعية للأمن هي الضمانات.
روسيا.. عقلية قناص الثغرات
تبني روسيا رؤيتها للعالم ودورها فيه مستقبلاً على مبدأ استراتيجي رئيسي هو أن تبقى روسيا الاتحادية "دولة فيدرالية متماسكة وآمنة ومزدهرة، تعمل على استعادة ثقلها كقوة عظمى في نظام عالمي متعدد الأقطاب، قادرة على فرض إرادتها السياسية والأمنية وردع الناتو، لاستعادة كافة الأراضي الروسية".
هنا تبدو الفكرة الملحة لدى موسكو هي استراتيجية استعادة "روسيا القيصرية القوية"، وهو مشروع يغلب عليه الطابع الشعبوي القومي، ويمثل المعادلة الرئيسية التي تنظر بها روسيا إلى العالم.
بدأت هذه النظرة مع وصول بوتين إلى سدة الحكم، إذ وضع نصب عينيه ثلاثة أهداف، هي: استعادة الهيبة الروسية دولياً، وتعظيم الاقتصاد الروسي، وبناء هياكل سياسية إقليمية بعيدة عن الفلك الغربي وقيمه.
ولتحقيق تلك الأهداف، بدت تحركات موسكو على الساحة الدولية، تماماً مثل حركة القناصة في المعارك، إذ يبحث بوتين عن أخطاء استراتيجية للآخرين، يمكن من خلالها مد نفوذ بلاده دولياً، فالرهان الأساسي لبوتين أن الاستراتيجية الأميركية التي تبدو متماسكة تحتوي على ثغرات هائلة نتيجة الوضع الأميركي المتقلب، والصراع بين "القيم" و"المصالح"، ما يسبب ثغرات مؤثرة تفتح المجال أمام موسكو للتدخل وإبراز نفسها كلاعب رئيسي، لكن غالبية قوته مستمدة من فشل الآخرين، فضلاً عن قدرة بوتين على التحرك السريع لملء الفجوات التي يظهرها الارتباك الأميركي، والحذر الصيني المزمن.
تمثل روسيا "قناص فرص" ممتازاً، يرغب في بناء "ستار حديدي" جديد، رغم أنه أضعف كثيراً من ذلك الذي أرسى قواعده الاتحاد السوفييتي بقدراته المهولة قبل عقود، ورغم ذلك نجح بالفعل في وضع أقدامه في مناطق عديدة في مواجهة النفوذ الغربي - الأميركي، إذ تمدد في شرق أوروبا والبحر الأسود عبر بيلاروس وشرق أوكرانيا والقرم وفي جورجيا عبر أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم في مولدوفا عبر إقليم ترانسنيستريا.
كذلك الحال في وسط آسيا، إذ وضع أقدامه عبر كازاخستان وأرمينيا وقيرجيزستان وطاجيكستان. أما في البلقان وأوروبا الشرقية فلديه صربيا والحكومة اليمينية في المجر، وتمدد أيضاً نحو شرق المتوسط عبر سوريا وليبيا. أما في العلاقة مع أوروبا، فحتى ما قبل حرب أوكرانيا، قرر بوتين أن يلاعب دول القارة منفردة، فهو يمد علاقات عميقة مع ألمانيا، فيما يشوب العلاقات مع بريطانيا التوتر، بينما يحاول أن يُبقي على اتصالات معقولة مع فرنسا التي يحاول مواجهة نفوذها، وكذلك نفوذ بريطانيا والولايات المتحدة في إفريقيا.
وبالنظر لخارطة التحركات، تبدو روسيا وكأنها تستفيد من الفراغ في القيادة الدولية أكثر من أي منافس آخر، رغم ذلك، يظل وضعها الداخلي اقتصادياً، وتكاليف التحركات الواسعة، أكبر عقبة تواجه موسكو لتحقيق حلمها في التحول من لاعب مزعج إلى "قطب دولي" يستعيد مزيجاً من نفوذ روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي.
رمال متحركة على الساحة الدولية
بناءً على قدرات كل منها العسكرية والاقتصادية ومدى اتساع طموحها الاستراتيجي، يمكن القول إن الدول الثلاث الكبرى التي تتصارع على مقعد القيادة الشاغر، تحاول أن تعيد بناء لعبة "عضّ الأصابع" من جديد. ليس فقط لأن القيادة الحالية مليئة بالثغرات، لكن أيضاً لأن طاولة اللعب تغيرت، وبدا أن اللاعبين الكبار تاريخياً عليهم أن يتحالفوا مع قوى إقليمية نافذة أصبحت رقماً فاعلاً في الحسابات الدولية.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي جرت مياه كثيرة في نهر السياسة الدولية، نعم ظلت واشنطن "صانعة سياسات العالم"، واستخدمت طويلاً سياسة "شرطي النظام العالمي الجديد"، حتى أنها غزت دولاً مستقلة لتحولها إلى الديمقراطية بذرائع تبين لاحقاً أنها مجرد أكاذيب كما حدث في العراق.
ظلت الولايات المتحدة "قوة مطلقة" لأكثر من عقدين، حتى بدأت الدول الصاعدة اقتصادياً تبحث عن مكانها في صناعة القرار الدولي. فمن إفريقيا التي انحصرت فيها الصراعات، إلى بعض دول الشرق الأوسط التي انتبهت مؤخراً إلى قدراتها الكامنة، وصولاً إلى العملاق الهندي الصاعد، واليابان التي تنطلق عالمياً من خلال مبادرتها لجعل منطقة الإندو-باسيفيك حرة ومفتوحة، وحتى دول أميركا اللاتينية التي حفرت أكبرها (البرازيل)، طريقها اقتصادياً واستراتيجياً لتصبح ضمن العشرين الكبار في زمن قياسي.
الآن تبدو الساحة الدولية مثل كثبان من الرمال المتحركة، والأسئلة التي تجاهلها بناة النظام الدولي الحالي، ظهرت على السطح تنتظر الإجابات، وحتى الدول الكبرى المتنافسة على القيادة والمشاركة والهيمنة، أصبحت تتحسس الفرص وتحاول تجديد عهودها مع العالم.
ماذا يحمل المستقبل؟
للاستيلاء على كعكة "النظام العالمي الجديد"، يحتاج الأمر لما هو أكبر من مجرد الرغبة والقدرة أيضاً. إذ يحتاج كذلك لمزيج من التكتيكات البراغماتية، التي تشبه جراحة دقيقة ومؤلمة في النظام العالمي الحالي.
بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فإن المعطيات الحالية تشير لمسارين متوازيين تحاول واشنطن التحرك من خلالهما في المستقبل لضمان "إحكام السيطرة" على النظام العالمي، وتجديده بما يخدم مصالحها، فضلاً عن حرمان المنافسين من أي شكل من أشكال القدرة على عرقلة "القرن الأميركي" الجديد.
المسار الأول هو تعميق التحالفات مع الكتلة الغربية في أوروبا وأستراليا، وضمان علاقات أقوى باليابان وكوريا الجنوبية والهند. مع انتقال حدة المنافسة إلى منطقة المحيط الهادئ، الذي تطل عليه حالياً وتحتشد فيه قوات عالية التدريب من الولايات المتحدة والصين وروسيا، واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
وربما يتطور التحالف الاستخباراتي المعروف باسم العيون الخمس (THE FIVE EYES)، الذي يضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، لينتقل من مهام المراقبة والاستطلاع وتبادل المعلومات والتحليل، إلى أن يصبح هذا التجمع بذاته "قوة عسكرية ضاربة" تقودها الولايات المتحدة، وتمثل محور ثقل هائل للضغط على الصين، وإبقاء عيون الغرب مفتوحة على كل تطورات بكين، وأياديهم ممدودة لردع أي إخلال بالوضع الحالي.
مقابل هذا المسار، تتجه الولايات المتحدة، خلال السنوات المقبلة، لكبح شراسة التنافس الاقتصادي بينها وبين أوروبا، خاصة أن أصواتاً مهمة من القارة العجوز تصرخ حالياً بسبب ما تعتبره "استغلالاً أميركياً" لظروف الحرب في أوكرانيا، خاصة تلك الأصوات القادمة من باريس التي خسرت صفقة غواصات تبلغ قيمتها 37 مليار دولار مع أستراليا، بسبب المنافسة الشرسة مع واشنطن.
من المرجح أن تحاول الولايات المتحدة تطمين قلب أوروبا الاقتصادي (ألمانيا – فرنسا – إسبانيا – إيطاليا)، على مستقبل العلاقات وحدود المنافسة، إذ إن أي ضغط إضافي على القارة، قد يلقي بها رهينة للنفوذ الصيني المتحفز.
أما بالنسبة للصين وروسيا، فإن الضغط الأميركي المتواصل على موسكو وبكين سوف يدفعهما لمزيد من التعاون للوصول لشراكة استراتيجية قوية، لكنها مرتبة من المرجح أن تظل "أقل من التحالف"، في إطار من الحذر بين جارين نوويين، لهما مصالح قد تتوافق أحياناً وقد تتعارض أحياناً أخرى.
أين تنتهي حدود القوة؟
تحاول الولايات المتحدة تعديل مساراتها والتعلم من فترات الارتباك الاستراتيجي والتكتيكي على المسرح الدولي، لكن الهدف ليس "مزيداً من العدالة"، فالهدف دائماً هو ضمان الانفراد بالهيمنة والتفوق الدائم على المنافسين.
ورأس الحربة في تحركات أميركا هو استمرار تأكيد وتعظيم وجودها بحرياً في المحيطات، مع تركيز خاص على بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ والبحر المتوسط.
بالمقابل ستحاول روسيا لملمة شتات الإخفاقات الاستراتيجية التي نتجت عن حرب أوكرانيا، والضغط لإبقاء مواطئ أقدامها في الشرق الأوسط وإفريقيا متاحة كمساحة للمناورة في مواجهة الضغط الهائل من الناتو على حدودها. إذ دخلت روسيا الحرب ظاهرياً لمنع أوكرانيا من الانضمام للحلف، وكانت النتيجة دخول فنلندا والسويد وهما أكثر قدرة اقتصادياً وعسكرياً من أوكرانيا، ويشكلان تهديداً مباشراً لموسكو.
أما الصين فهي تكافح على مستويين: الأول هو إعادة ضبط البيت الصيني الداخلي، خاصة مع الولاية الثالثة للرئيس الصيني، وهي الخطوة التي لم يسبقه إليها أحد منذ عهد الرئيس الصيني المؤسس ماو تسي تونج.
أما المسار الثاني أمام الصين فهو بناء قوة رادعة عسكرياً لمواجهة التكتلات العسكرية المتزايدة في محيطها، وضمان الإبقاء على سياسة الصين الواحدة في مواجهة طموحات تايوان والدعم الأميركي المتزايد لتايبيه.
تركز الصين خلال المستقبل القريب، على تأمين مصادر الطاقة، وهنا يتعاظم دور دول الخليج وروسيا وإيران، ومحاولة إنجاح مبادرة الحزام والطريق التي تواجه عثرات جيوسياسية.
وتظل قضية تايوان وطريقة معالجة الصين لها، هي فتيل التفجير لمنطقة من أكثر المناطق احتشاداً بالقوات في العالم. فنموذج أوكرانيا جعل الجميع يدرس الاحتمالات المستبعدة بجدية أكثر، ورغم رغبة الصين في تكرار نموذج استعادة هونج كونج، إلا أن الوضع في تايوان يبدو مختلفاً للغاية، فالجزيرة الصغيرة تملك هي الأخرى أسناناً قد تطال البر الصيني، والاحتشاد الغربي بقيادة أميركية ليس شيئاً هامشياً على الإطلاق.
رغم ذلك فإن للقوة في التفاعلات بين القوى الكبرى حدوداً، فليس من مصلحة أي من القوى الثلاث الكبرى أن تدخل في مواجهة مباشرة، فأي مواجهة مباشرة قد تتطور لحرب بين دول تمتلك مخزوناً من الأسلحة النووية يكفي لإبادة الكوكب عدة مرات.
لذلك فإن الجميع يعلق أمله على لعبة "عضّ الأصابع"، ومن يصرخ أخيراً، سيربح أكبر نصيب من كعكة النفوذ العالمي.
3 سيناريوهات
بناءً على المعطيات الدولية الحالية، وصورة التوازن الاستراتيجي بين القوى الكبرى. يصبح المستقبل رهناً لثلاثة سيناريوهات، تختلف احتمالات حدوثها بالترتيب.
فالسيناريو الأكثر ترجيحاً، هو نجاح الولايات المتحدة في الإبقاء على النظام العالمي أحادي القطب، ما يمنحها فرصة الاستمرار في الهيمنة على القرارات الدولية والنظم الإقليمية.
في تلك الحالة، لن تكون التكاليف قليلة، فوجود منافسين بقوة روسيا والصين ووجود لاعبين مؤثرين في أكثر من إقليم يرغبون في لعب دور دولي أكبر، مثل اليابان والهند والبرازيل والسعودية وتركيا، سوف يجعل نجاح السيناريو الذي تظل فيه واشنطن منفردة بقيادة العالم، مسألة لا تضمن الاستقرار دولياً، في عالم لا يزال يكافح للخروج من نفق ركود اقتصادي قد يطول.
أما السيناريو الثاني، فهو تحول النظام العالمي إلى نظام ثنائي القطب، بحيث يكون النظام أميركياً – صينياً، وهو سيناريو سيحرم واشنطن من الانفراد بالقرار الدولي، لكنه سيضيف أعباءً هائلة على الصين، فليست قيادة العالم مسألة سهلة، وحتى الآن فإن الصين لا ترغب في استنزاف اقتصادها وقدراتها التي لم تُختبر عسكرياً، في صراعات دولية قد تنتهي بالصين كدولة منهكة، بين دورها كشريك في القيادة، وقدرتها على جني ثمار الهيمنة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.
أيضاً، قد لا تريد الصين تحمل التكلفة الهائلة لتأمين ممرات التجارة العالمية، وهي المهمة التي تسيطر عليها واشنطن، ويجني أرباحها الاقتصاد الصيني.
أيضاً تنفق الولايات المتحدة أكثر من نصف ميزانية حلف الناتو العملاقة، وجيشها هو أكبر جيوش الحلف الذي يضم 30 دولة، لذلك لديها القول الفصل داخل الحلف.
في المقابل، لا تتمتع الصين بتحالفات عسكرية قوية بهذا القدر، ولا تتمتع بميزة فريدة للولايات المتحدة، وهي عدم وجود تهديد عسكري قريب من حدودها، فالصين محاطة من الشرق والجنوب والغرب، بقوى منافسة، وخصمها الرئيس (الولايات المتحدة)، يوجد قرب سواحلها، وعلى أراضي اثنين على الأقل من أكبر جيرانها.
إذ تحشد الولايات المتحدة في اليابان ما بين 40 و50 ألف جندي، فضلاً عن تمركز الأسطول السابع (الذي يتكون من 50 إلى 70 سفينة وغواصة و140 طائرة) في أوكيناوا اليابانية قبالة الصين. بينما تنشر الولايات المتحدة أكثر من 34 ألف جندي في كوريا الجنوبية، فضلاً عن القوات المحتشدة في جوام.
آخر السيناريوهات المتوقعة، وهو الأقل احتمالاً، هو تحول النظام الحالي إلى نظام متعدد أو عديم القطبية، بمعنى انتهاء الهيمنة الأميركية وعدم قدرة أي دولة كبرى منفردة على إعادة صياغة النظام الدولي في المدى المنظور.
يمثل هذا السيناريو كابوساً للعالم كله، إذ سيفتح الباب أمام خلل رهيب في التوازن الاستراتيجي بين دول العالم، وستكون عشرات الدول مستباحة أمام القوى الإقليمية القادرة.
لقراءة المزيد من المقالات ضمن هذه السلسلة: