تخوض لندن ونيودلهي مفاوضات تجارة حرة انطلقت بينهما بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وفي إطار الوصول لاتفاق عقد الجانبان حتى الآن أكثر من 12 جولة بين مسؤولين من الطرفين، نجحت في تذليل تباينات كثيرة كانت تقف أمام تحقيق هذا الهدف، فيما تقول الحكومة البريطانية إن المباحثات وصلت إلى المرحلة الأخيرة، وربما يولد الاتفاق رسمياً خلال أشهر.
ويعتزم ريشي سوناك، الذي يعتبر أول بريطاني من أصل هندي يسكن المنزل رقم 10 في داوننج ستريت، في لندن، زيارة نيودلهي في التاسع والعاشر من سبتمبر المقبل للمشاركة في "قمة العشرين".
لكن وسائل إعلام محلية تقول إن رئيس الحكومة البريطاني "سيمضي أياماً في مسقط رأس عائلته كي يفتح أبواب التعاون بين البلدين على مصرعيها".
وتسير المملكة المتحدة في علاقتها مع الهند وفق استراتيجية رسمها حزب المحافظين الحاكم، وتمتد حتى 2030، عناوينها الرئيسية هي توسيع التبادل التجاري والاستثمار، وتنشيط العمل المشترك في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة، إضافة إلى تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين البلدين في منطقتي المحيط الهندي والهادئ.
تجارة حرة بين البلدين
وتحتل الهند المرتبة 12 بين الشركاء التجاريين للمملكة المتحدة، وقد تجاوز التبادل التجاري بين البلدين في الربع الأول من العام الجاري 36 مليار جنيه إسترليني، بنمو قدره 34% مقارنة بعام 2022، وهو موزع بين 14.7 ملياراً من الصادرات البريطانية، و21.6 ملياراً من الواردات الهندية إلى دول المملكة الأربعة (بريطانيا، ويلز، إيرلندا الشمالية، اسكتلندا).
ويقول مصدر في الحكومة لهيئة الإذاعة البريطانية إن مفاوضات لندن ونيودلهي من أجل إبرام اتفاق تجارة حرة بينهما، قد وصلت للمرحلة الأخيرة والأكثر صعوبة على حد تعبيره، منوهاً إلى أن حكومة ريشي سوناك تتوقع إنجاز الاتفاق المرتقب خلال أشهر، دون أن يحدد موعداً قريباً أو يجزم بحدوثه في عام 2023.
ومن المنتظر أن تتلقى مفاوضات التجارة بين البلدين دفعة قوية عبر مشاركة سوناك ووزيرة التجارة البريطانية كيمي بادينوش في اجتماعات مجموعة العشرين في نيودلهي، حيث من المتوقع أن يجري رئيس الحكومة ووزيرة التجارة محادثات ثنائية مع المسؤولين في الهند حول المفاوضات والتحديات التي تواجهها اليوم.
وحزب المحافظين الحاكم كان يتطلع إلى إنجاز اتفاق التجارة الحرة مع الهند في خريف عام 2022، ولكن جملة المشكلات الداخلية التي واجهت الحزب وأدت إلى تغير رئيس الحكومة مرتين متتاليتين العام الماضي، جعلت من الصعب الالتزام بهذا الموعد، وعطلت استئناف المفاوضات كما ينبغي نتيجة لتغير إدارات الملف.
مطالب وشروط للطرفين
وتشير التقديرات إلى أن الصادرات البريطانية إلى الهند قد ترتفع لأكثر من 16 مليار جنيه بعد إبرام اتفاق تجارة حرة بين البلدين، فيما تعول نيودلهي على فتح أبواب المملكة المتحدة أمام العمالة الهندية في مجالات متعددة، والإبقاء على بعض الميزات للشركات المحلية تجنبها الاندثار والسقوط أمام المنافسة البريطانية الشديدة.
وقال المحلل الاقتصادي أسلم بوسلان، إن تفاوت التعريفات الجمركية بين البلدين يستلزم مفاوضات شاقة، وكذلك الحال بالنسبة لقواعد المنشأ وغيرها من القوانين الجمركية التي من شأنها تنظيم التبادل التجاري، بالإضافة إلى ضرورة توحيد أداوت الرقمنة، وضمان تدفق البيانات الاقتصادية وتنظيم الأكواد والخوارزميات.
ولفت بوسلان في حديثه لـ"الشرق"، إلى أن نيودلهي تضع خطوطاً حمراء بشأن النقاط سالفة الذكر، كما تولي أهمية كبيرة لضمان حصة الشركات الهندية من المشتريات الحكومية، وكذلك تريد الاحتفاظ بتنافسية كبيرة للصناعات الدوائية لديها، وهو ما يحتاج لمرونة كبيرة من لندن في المراحل المقبلة من مفاوضات التجارة.
وأشار المحلل الاقتصادي إلى أن رفض وزراء في لندن منح مزيد من التأشيرات للعمالة الهندية يصعب المهمة على سوناك ومفاوضيه مع نيودلهي، كما أن النواب المحافظين في مجلس العموم يضغطون على الحكومة من أجل الحصول على مساحة وحصة أكبر لشركات الخدمات البريطانية في السوق الهندية المتنامية.
الرؤية البريطانية 2030
ولا تعتمد الاستراتيجية البريطانية لتطوير العلاقة مع الهند على التجارة فقط، وإنما تسعى إلى تعزيز التعاون بين البلدين عبر 33 بوابة، أولها السياسة وتنسيق المواقف الثنائية بشأن القضايا الدولية، وثانيها تطبيق اتفاق الهجرة الشامل الذي يسهل حركة الطلبة والباحثين عن العمل دون تعقيدات كثيرة في التأشيرات.
ويقطن في المملكة المتحدة أكثر من 1.9 مليون شخص ينحدرون من أصول هندية، وهو ما يزيد على 2.8% من إجمالي السكان. وتعيش الغالية الساحقة في إنجلترا بما يزيد على 1.8 مليون في إنجلترا، فيما يتوزع البقية بين 21 ألفاً في ويلز، وما يزيد على 35 ألفاً في اسكتلندا و نحو 10 آلاف في إيرلندا الشمالية.
وتنطوي الاستراتيجية البريطانية أيضاً على برامج عمل كثيرة لتشجيع التبادل الثقافي وتوسعة دائرة الأبحاث المشتركة بين البلدين، إضافة إلى دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتحفيز المبدعين في جميع نواح الحياة، وهذا إلى جانب السعي المشترك نحو الحلول المستدامة للبيئة وزيادة اعتماد الدولتين على الطاقة النظيفة.
ويعد توثيق العمل القنصلي بين البلدين من أهداف استراتيجية بريطانيا في العلاقة مع الهند، ليس فقط من أجل ملف الهجرة وإنما أيضاً لتسريع وتنظيم عملية استجابة الدولتين للأزمات العالمية، وفي السياق ذاته يأتي اكتشاف أي مبادرات لترسيخ التواصل بين البلدين وأي دولة ثالثة تجمعها مصالح وتوجهات مشتركة معهما.
التعاون العسكري والأمني
وفي سياق الشراكة الاستراتيجية مع الهند، تعول لندن كثيراً على التعاون مع نيودلهي في مواجهة التهديدات السيبرانية وأخطار الفضاء والإرهاب وأشكال مختلفة من الجرائم العابرة للحدود، إضافة إلى العمل المشترك في بناء التفاهمات الدولية والثنائية من أجل الوصول إلى منطقة آمنة ومفتوحة في المحيط الهندي والهادئ.
وخلال أبريل الماضي وصل إلى نيودلهي، رئيس أركان الدفاع البريطاني الأدميرال السير توني رادكين.
وعلى مدار 3 أيام متواصلة التقى الأدميرال القادة العسكريين في الهند وبحث معهم تعزيز التعاون في تصنيع الأسلحة، وإبرام التفاهمات وإجراء التدريبات المشتركة من أجل تعزيز الأمن والاستقرار في القارة الأسيوية.
الأدميرال البريطاني قال في بيان رسمي إن بلاده تريد تعزيز تواجدها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من أجل استقرارها واستمرار حركة الملاحة فيها، منوهاً إلى أن المملكة المتحدة تجري تدريبات مشتركة مع الهند براً وجواً وبحراً في تلك المنطقة، ولكن ثمة متسع لمزيد من التعاون العسكري والأمني بين البلدين.
الترجمة الفعلية لما جاء على لسان الأدميرال رادكين، جاءت نهاية شهر يوليو الماضي عندما التقى مسؤولون بريطانيون وهنود بالعاصمة لندن في أول اجتماع من نوعه لبحث التعاون في تطوير التكنولوجية العسكرية وصناعة الفضاء، وقد أكد ممثل الهند في المؤتمر فيكرام دوريسوامي، على أن نيودلهي تواكب توجهات حكومة ريشي سوناك نحو تعزيز العمل المشترك بين البلدين في مجالات الدفاع والأمن.
العلاقة مع حزب العمال
ويبدو أن المعارضة البريطانية تستشعر أهمية العلاقة مع الهند في المرحلة المقبلة، وخاصة إذا ما وصل حزب العمال إلى السلطة عبر الانتخابات العامة المقررة في العام 2024.
واتضح هذا من تصريحات زعيم "العمال" كير ستارمر خلال افتتاح النسخة الخامسة من منتدى الهند العالمي الذي اقيم في لندن نهاية يونيو الماضي، إذ قال ستارمر أمام الحضور في المنتدى إنه يأمل بزيارة قريبة إلى الهند من أجل "إعادة ضبط" العلاقات التي تأثرت بقرار الحزب في عهد سلفه جيرمي كوربين عام 2019، بشأن منطقة كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان، إذ تخلى الحزب حينها عن حياده تجاه المسألة وأثار غضب أعضائه الذين ينحدرون من أصول هندية.
ويرى عضو حزب العمال إيفان جاش، أن زعيم المعارضة اليوم يتجنب تكرار ما حدث في عام 2019، إذ دفع موقف الحزب من قضية كشمير الأعضاء من أصول هندية إلى دعم المرشح المحافظ بوريس جونسون في الانتخابات العامة، ليس فقط بالتصويت له وإنما أيضاً بتشجيع أبناء الجالية الهندية على تأييده في مناطقها.
ويلفت جاش في حديثه مع "الشرق" إلى أن وصول سوناك إلى المنزل رقم 10، شجع البريطانيين من أصول هندية على توسيع مشاركتهم في العمل السياسي. ومن المفيد بالنسبة لحزب العمال استغلال هذا الأمر، وتحفيز قاعدته الشعبية التي تنحدر من هذه الأصول، من أجل تعزيز فرص فوزه في الانتخابات العامة المقبلة.
اقرأ أيضاً: