تبدأ بعد أيام قليلة هيئة الرقابة على المحتوى الإعلامي والإلكتروني في بريطانيا "أوفكوم"، مشاوراتها بشأن تطبيق قانون "التصفح الآمن للإنترنت" الذي صادق عليه الملك تشارلز الثالث نهاية الشهر الماضي.
ويشترط القانون على المواقع ومنصات التواصل الاجتماعي إزالة "المحتوى الضار"، أو يتعرض المخالفون منهم للغرامات المالية وأحكام بالسجن.
وتقول حكومة لندن إن القانون يجعل المملكة المتحدة أكثر البيئات أماناً لمستخدمي الإنترنت، لكن مختصين وخبراء يرون أنه يحمل تضييقاً يضعف من جاذبية المواقع ومنصات الإعلام الجديد، وإن لم تعالج القضايا التي تهدد حرية التعبير وخصوصية المستخدمين، فستضطر شركات المحتوى الإلكتروني لمغادرة السوق البريطانية.
استغرق إنجاز القانون أكثر من 4 سنوات، وتمتد بنوده على أكثر من 250 صفحة، جميعها تمنح "أوفكوم" صلاحيات تقييد ناشري وصناع المحتوى الإلكتروني بأدوات لمكافحة جرائم مختلفة.
أما الأفراد المستخدمون، فبات تواصلهم الافتراضي يمر عبر "فلترة"، قد تتحول الكلمات والصور والفيديوهات عبرها إلى ذرائع لملاحقات قانونية.
تفاصيل القانون الجديد
أعلنت الرئيسة التنفيذية لـ"أوفكوم" ميلاني دوز، أن الهيئة ستبدأ مشاوراتها مع نواب مجلس العموم بشأن تطبيق قانون "التصفح الآمن للإنترنت"، خلال يوم أو يومين بعد خطاب الملك تشارلز الثالث في افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة. منوهة إلى أن الهيئة تريد تطبيق القانون بسرعة، وقائمة تعليماتها ستعد في أسرع وقت ممكن.
وتقول وزيرة التكنولوجيا ميشيل دونيلان إن قانون "التصفح الآمن للإنترنت" يغير قواعد اللعبة من خلال تحميل مزودي الخدمة مسؤولية ما يبث على صفحات مواقعهم ومنصاتهم من محتوى. فإن كان مخالفاً للقانون ومحرضاً على الجريمة أياً كان نوعها، فهم يتحملون مسؤوليته، ويتعرضون للعقوبة الجنائية والغرامة المالية.
وبحسب الوزيرة دونيلان، يجعل القانون، المملكة المتحدة أكثر البيئات أمناً لاستخدام الشبكة العنكبوتية. فهو يحمي الأطفال من الاستغلال الجنسي، ويجنبهم الإساءة الإلكترونية.
كما أنه يتيح للبالغين التحكم بالمحتوى الذي يتابعونه ويشاركونه، ويلزم مزودي الخدمة ومنصات التواصل بتطبيق اتفاقيات الخصوصية المبرمة مع الأفراد.
ليس البشر فقط هم من يطمح القانون الجديد إلى حمايتهم، وإنما الحيوانات أيضاً. فهو يجبر المواقع ومنصات التواصل على إزالة أي محتوى ينطوي على تعذيب الحيوانات ومعاملتهم بطريقة سيئة. وحتى لو كانت الصفحات والحسابات تبث مادتها من خارج الدولة، فيتوجب على مزودي الخدمة منع وصولها لسكان المملكة المتحدة.
جرائم الإرهاب والاحتيال مستهدفة أيضاً في بنود التشريع الجديد. وإزالة كل محتوى يحمل ما يصنف في خانة هذه الجرائم، واجب أيضاً على مزودي الخدمة الإلكترونية.
ولأن العمل لتطبيق "التصفح الآمن للإنترنت" كبير، قررت الحكومة من خلال "أوفكوم" إنجازه على مراحل بالتشاور مع منصات التواصل الاجتماعي والشركات المعنية.
التزامات مزودي الخدمة
ما هو مطلوب من المواقع ومنصات التواصل بشكل عام يتلخص في 5 نقاط رئيسية، أولها منع ظهور أو إزالة المحتوى غير القانوني، وفق بنود التشريع الجديد.
ثانياً: منع الأطفال من الوصول للمحتوى "الضار وغير المناسب" لعمرهم، وثالثاً: فرض قيود عمرية على استخدام الإنترنت وضمان التحقق الدقيق من تطبيقها.
بالإضافة إلى أن بيان المسؤولية القانونية لتنفيذ بنود القانون يقع أيضاً على عاتق مزودي الخدمة، لإعلانها وإدراجها ضمن شروط وأحكام استخدام منصاتهم.
أما النقطة الخامسة، فتتمثل في تزويد الأطفال وذويهم بآلية واضحة وسهلة للإبلاغ عن أي حالات يشتبه بمخالفاتها لمواد التشريع الجديد، أو أية مشكلات تقنية قد تظهر لهم في هذا السياق.
ثمة منصات مثل تيك توك، بدأت العمل مبكراً على إزالة المحتوى المخالف لبنود القانون الجديد، فيما لا تزال شركات أخرى تتواصل مع الجهات الرسمية المعنية لترتيب الأمر بعد المصادقة الملكية على التشريع، لعلها تبدي مرونة إزاء القضايا التي يعتقد أنها تمس حرية التعبير، ويصعب تطبيقها على مزودي الخدمة بشكل سريع.
قبل المصادقة الملكية على القانون، خاضت شركة ميتا المالكة لفيسبوك وإنستجرام، سجالاً مع وزارة الداخلية بشأن تشفير رسائل مستخدمي الموقعين، إذ تعمل الشركة على خطة لتقييد أي محتوى قد يصنف في سياق استغلال الأطفال جنسياً، لكن وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، لا ترى جهود "ميتا" ناجحة كفاية حتى الآن، وفق تعبيرها.
وقال متحدث باسم الشركة إن تشفير رسائل فيسبوك وإنستجرام ينتهي هذا العام. ولكن هل يلبي التشفير متطلبات "التصفح الآمن للإنترنت" أم أن "ميتا" ستقحم نفسها في مواجهة مع "أوفكوم" التي يمنحها القانون الجديد صلاحية فرض الغرامات على منصات التواصل والمواقع الإلكترونية، أو سجن المدراء المخالفين فيها، كلها تساؤلات من المتوقع إثارتها في الفترة المقبلة.
تحديات تطبيق القانون
يعد إلغاء تشفير الرسائل المتبادلة بين مستخدمي الإنترنت من أبرز تحديات تطبيق القانون الجديد، وتقول منظمة العفو الدولية إن المادة رقم 122 أو ما يعرف بـ "بند التجسس" في التشريع، يمس حق التعبير، ويجب على الحكومة تعديله "بحيث تحافظ على تشفير تبادل المحتوى بين مستخدمي الإنترنت لحماية خصوصيتهم".
ويرى رئيس الرابطة الوطنية لموظفي حماية البيانات وحرية المعلومات ستيورات روم، أن مشكلة إلغاء التشفير تكمن في صعوبة التمييز بين المحتوى المرتبط بالجرائم التي تود الحكومة مكافحتها، وبين المعلومات التي لا تحمل طابع الشبهة، إن جاز التعبير، مؤكداً أن هذا ما يجب على الجهات المختصة معالجته جيداً في القانون الجديد.
ولفت روم في مقال نشرته مجلة "فوربس" إلى أن تصنيف المحتوى المصور أو المسموع أو المقروء على الإنترنت، بين منشورات عادية ومواد معدة لارتكاب جريمة، فضفاض جداً. وبالتالي لا بد للحكومة ممثلة بهيئة "أوفكوم" من التواصل مع الشركات العاملة في هذا القطاع، من أجل وضع معايير واضحة للمحتوى المشبوه.
بحسب الباحث في الشؤون الرقمية جراهام بارو، لن تفرض "أوفكوم" قيوداً تعجيزية على منصات التواصل ومزودي خدمات الإنترنت، فلا بد لها أولاً من التشاور مع القائمين على هذه الشركات من أجل وضع معايير واضحة لتوجيه تشفير المحتوى المتبادل إلكترونياً، ثم تُطور الآليات لتواكب التطور التكنولوجي المتسارع.
وأوضح بارو لـ"الشرق"، أن ضمان استجابة شركات المحتوى الرقمي لبنود القانون الجديد رهن بقدرة "أوفكوم" على الموازنة بين مكافحة الجرائم إلكترونياً وحماية خصوصية وحرية المستخدمين في التعبير "فهذه المعادلة تجنب الجميع أي تداعيات تظهر مستقبلاً بسبب مراقبة لندن للتواصل الرقمي بين الأفراد".
مغادرة السوق البريطانية
تقول "مؤسسة الحدود الإلكترونية" إن الحكومة البريطانية تدرك أن بعض جوانب القانون الجديد يصعب تطبيقها، خاصة تلك المتعلقة بإجراء مسح إلكتروني للمحتوى المتبادل بين المستخدمين، سواء كان صوراً أو كلمات أو فيديو، لرصد أي جريمة أو محاولة لاستغلال الأطفال جنسياً، فتمنع حدوثها وتعاقب الفاعل على جرمه.
وتلفت المؤسسة المختصة إلى أن "أوفكوم" تريد من شركات خدمات الإنترنت أن توفر المسح الإلكتروني المنشود، ولكن ذلك قد لا يتحقق دون المساس بخصوصية المستخدمين وحقهم في التعبير. وهنا إما أن تقبل "أوفكوم" بما يتوافر من "فلاتر" للمحتوى المتبادل بين الأفراد، أو تضطر الشركات إلى مغادرة السوق البريطانية.
شركات "واتساب" و"آي ماسيج" و"سيجنال" تعترض على القانون الجديد، وترفض كل ما يمس حرية وخصوصية نشاط عملائها في المملكة المتحدة.
وكتبت رئيسة "سجنال" ميردث ويتاكر، على موقع X (تويتر سابقاً)، أن شركتها لن تنقض تعهداتها بشأن تشفير الرسائل المتبادلة بين المستخدمين حرصاً على خصوصيتهم.
وأوضحت ويتاكر أن "سيجنال" ستحاول جاهدة الحفاظ على معايير الحرية والخصوصية لديها، وفق تعليمات قانون "التصفح الآمن للإنترنت"، مضيفة "لكن إن تعذر عليها ذلك، فسيكون خيارها مغادرة السوق البريطانية بدلاً من التخلي عن مبادئ الشركة".
لم تعلن بعد أي منصة للمحتوى الإلكتروني نيتها مغادرة السوق البريطانية، ولكن تطبيق القانون الجديد سيشكل تحدياً لـ230 شركة تعمل في هذا المجال.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا القطاع شهد نمواً في المملكة المتحدة بنسبة 5.6% خلال السنوات الخمس الماضية، وأكبر شركاته فيسبوك ثم إنستجرام، وفق الإحصائيات الرسمية.
الاستغلال الجنسي للأطفال
بحسب وزير الإعلام والثقافة البريطانية ستيفن باركسون، لا تبحث حكومة المملكة المتحدة عن الخصومة والعداء مع شركات الإنترنت، وليس لديها نية لإضعاف تقنية التشفير المتبعة في منصات التواصل.
وأضاف باركسون: "لقد قدمت الحكومة ضمانات لحماية خصوصية المستخدمين. كما أن (أوفكوم) ستتعاون مع جميع المعنيين لتطبيق بنود التشريع الجديد".
وتركز الحكومة في المرحلة الأولى على إنهاء استغلال الأطفال جنسياً. ويقول رئيس حملة دعم القانون الجديد إيان راسل، إن وقف تدفق الصور والنصوص للإيقاع بالأطفال عبر الشبكة العنكبوتية هو أهم اختبار لتطبيق قانون "التصفح الآمن للإنترنت"، وقدرة "أوفكوم" على ضمان التزام منصات التواصل والمواقع ببنود التشريع.
وفي حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية، أوضح راسل "أن القانون الجديد ليس مثالياً، ولكنه خطوة مهمة جداً" لوقف جرائم استغلال الأطفال جنسياً عبر الإنترنت.
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن هذه الجرائم بلغت 34 ألف حالة خلال السنوات الست الماضية، بنسبة نمو تصل إلى أكثر من 85% مقارنة بمستويات عام 2017.
ويقول "المركز الوطني للأطفال المفقودين والمستغلين" إن عدد الرسائل الإلكترونية التي يشتبه بمحاولة أصحابها استغلال الأطفال جنسياً حول العالم بلغت عام 2022 نحو 32 مليون رسالة، 85% منها مرت عبر منصات شركة "ميتا"، 21 مليوناً عبر فيسبوك و5 ملايين من خلال إنستجرام و1.2 مليون بواسطة واتساب.