الذكاء الاصطناعي "يقتحم" ساحة القضاء في بريطانيا.. فهل يهدد العدالة؟

صورة توضيحية تظهر شعار منصة الذكاء الاصطناعي (ChatGPT). 28 سبتمبر 2023 - REUTERS
صورة توضيحية تظهر شعار منصة الذكاء الاصطناعي (ChatGPT). 28 سبتمبر 2023 - REUTERS
لندن -بهاء جهاد

قطع القضاء البريطاني المتمسك بتقاليد وأعراف متجذرة تاريخياً، أولى خطواته باتجاه الذكاء الاصطناعي، بعدما سمحت السلطات المختصة للقضاة مؤخراً، باستخدام هذه التكنولوجيا في كتابة الآراء لإصدار الأحكام، شريطة ألا يستعينوا بما توفره من خدمات البحث والتحليل القانوني، لأنها "موضع شك في دقتها وتحيزها". 
 
الخطوة أثارت مخاوف البعض من تسرّب الذكاء الاصطناعي إلى المحاكم والقضاة بشكل غير مدروس عبر تلك النافذة الضيقة التي فُتحت أمامه، لكن آراء مختلفة تقول إن الاستعانة بهذه التكنولوجيا ضمن شروط لا تثير قلقهم، خاصة وأن مصائر الناس "لا تزال بيد البشر"، والأحكام تصدر وفق معطيات واضحة في نهاية المطاف.

حضور الذكاء الاصطناعي أمام القضاء، والقضاة بدأ للتو، لكن استخدام المحامين له يعود إلى عامين على الأقل.

 وبحسب دراسة مختصة صدرت قبل شهرين، فإن ما يزيد على 75% من شركات المحاماة الكبرى في بريطانيا تعتمد اليوم على هذه التكنولوجيا، فهل يلزم هذا المحاكم بمرونة أكبر في التعاطي معها أم لكل مقام مقال؟

الذكاء الاصطناعي والقانون

حذّرت السلطات المختصة من أن استخدام الذكاء الاصطناعي في البحث والتحليل، ربما يقود لمعلومات مزورة أو منحازة أو خاطئة ما قد يهدد سير العدالة، ولأن إصدار الأحكام والقرارات يجب أن يستند إلى معطيات لا يشوبها لبس، ولا يعتريها شك، سمح للقضاة في بريطانيا باستخدام التكنولوجيا الجديدة في كتابة الآراء القانونية على ضوء بيانات دقيقة.

وتعقيباً على هذه الخطوة، قال رئيس "العدالة المدنية" في بريطانيا، السير جيفري تشارلز فوس، إن "القضاة لم يعودوا بحاجة لتجنب استخدام الذكاء الاصطناعي، شرط المحافظة على الثقة وتحمل المسؤولية الشخصية الكاملة عن كل قرارتهم"، فهل يعني هذا أن المستقبل قد يحمل مزيداً من التعاون بين هذه التكنولوجيا والعمل القضائي؟

وفي حديث مع صحيفة "ذا تايمز"، قال أستاذ القانون بجامعة Surrey، ومؤلف كتاب "الذكاء الاصطناعي والقانون"، البروفسور رايان أبوت، إن "الجدل القائم اليوم بشأن علاقة الذكاء الاصطناعي بممارسات القضاء وأدواته، شديد الحساسية، ذلك لأن الجانبين محط اهتمام كبير بين الناس، ولا بد من الحذر في تنظيم التداخلات بينهما".

وتوقع أبوت أن يكون تأثر مجال القضاء بتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي بطيء جداً، لأن استخدام هذه التكنولوجيا للفصل في مصائر الناس، وإصدار الأحكام المتعلقة بمسارات الحياة المختلفة في الدول، يجب أن يخضع لكثير من التدقيق والتمحيص من قبل المعنيين قبل الموافقة على أي توظيف للتقنية في تخصصات المحاكم.

ChatGPT مُتحيز

أحد كبار القضاة في بريطانيا، السير جاستس بيرس، قال في حديث مع صحيفة "تليجراف"، إنه استخدم منصة الذكاء الاصطناعي ChatGPT لتخليص مساق قانوني وفق التوجيهات الجديدة للسلطات المعنية، ووجده مفيداً، مضيفاً: "لكن ذلك لا ينفي الحاجة إلى التدقيق الشديد في المعلومات التي يدرجها القضاة في أدوات الذكاء الاصطناعي، والنتائج التي يحصلون عليها".

وقالت الصحيفة إن السلطات البريطانية حذرت القضاة أيضا من أن ChatGPT يميل إلى القانون الأميركي في المصطلحات التي يستخدمها، لافتة إلى أن ذلك يشير إلى إمكانية توجيه الذكاء الاصطناعي بطريقة ما "تهدد حيادية القضاء ودقة أحكامه"، أو أنها على الأقل قد تتسبب بتداخل المواد القانونية، وضياعها بين مرجعيات مختلفة.

ولفت رئيس "العدالة المدنية" السير جيفري إلى أن الخشية من تراخي القضاة وعدم التزامهم بالمعايير التي حددتها السلطات المختصة في استخدام الذكاء الاصطناعي، دفعت نحو التهديد بعقوبات جنائية حال الاستهانة بالإرشادات وتجاهل المحاذير، لكن يبدو أن آليات العقاب التي ستتبع، ليست واضحة بشكل كاف، وفق مختصين.

قالت الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة Essex جوليا جنتيل، إن آلية المساءلة عند مخالفة القضاة لحدود القرار الجديد بشأن الذكاء الاصطناعي "غير واضحة"، داعية في حديث مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC، لتوضيح العقوبات المترتبة على سوء استخدام هذه التكنولوجيا، وبيان آلية رقابة الجهات المعنية على هذا الاستخدام من جهة ثانية.

مجالات الاستخدام 

وبينما سمحت السلطات البريطانية المختصة للقضاة باستخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة آراء قانونية فقط، يقول ChatGPT إن المحاكم يمكن أن تستفيد منه في 4 مجالات رئيسية، أولها تحليل البيانات القضائية الكبيرة، واستخلاص الأنماط والتوجهات القانونية، ما يساعد على اتخاذ قرارات قضائية مستنيرة، وفق تعبيره.

ويمكن للذكاء الاصطناعي أيضاً مساعدة المحامين في إعداد الأدلة والبحث القانوني وتحليل وثائق القضية، ما يساعد على تسريع وتحسين عملية الإعداد والدفاع.

كما يستخدم هذا الذكاء في تحويل التسجيلات الصوتية للمحاكمات وجلسات المحكمة إلى نصوص مكتوبة، ما يسهل الوصول للمعلومات والبيانات القانونية بشكل أسرع وأدق.

وبحسب ChatGPT أيضاً، يستطيع الذكاء الاصطناعي استخدام نماذج وخوارزميات لاتخاذ قرارات آلية في بعض القضايا المتكررة والبسيطة، لكن مع الالتزام بضوابط وإشراف قانوني لضمان عدالة القرارات، أي أنه ما زال التدخل البشري ضرورياً في صنع قرارات قانونية نهائية وفحص العدالة والأخلاق في قضايا معقدة.

وبالنسبة للمحامين، فيبشر ChatGPT بأن الذكاء الاصطناعي قادر على تقديم المشورة لهم ولعملائهم، إضافة لكل الخدمات المتعلقة بالبحث وتحليل البيانات والأدلة، وإعداد التقارير والتوصيات القانونية الدقيقة، وربما هذا ما جعل جمعية القانون في بريطانيا تعتبره "تهديداً وداعماً" لعمل المحامين، وفق تقرير أصدرته عام 2021.

المعايير القانونية اللازمة

من جانبها قالت المحامية سالي ديفيز، إن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يوفر الكثير من الجهد والكلفة على المحاكم والقضاة والمحامين، إن وضعت المعايير القانونية اللازمة لاستخدامه بشكل صحيح. 

وأضافت ديفيز لـ"الشرق"، أن هذه المعايير تحتاج إلى وقت وتمحيص دقيق، وخاصة فيما يتعلق بمهام القضاة وأدواتهم في البحث والحكم.

ولفتت إلى أن قمة الذكاء الاصطناعي التي احتضنتها لندن في نوفمبر 2023، بحثت في دور هذه التكنولوجيا بمختلف مجالات العمل والحياة، ومنها القضاء، أما أبرز نتائج تلك القمة في هذا المجال، فكان الاتفاق على الحاجة الملحة لتنظيم استخدام المحامين والقضاة لأدوات الذكاء الاصطناعي بشكل موثوق وله مصداقية.

واعتبرت المحامية البريطانية أن القرار الجديد للسلطات المختصة، بشأن السماح للقضاة بكتابة آرائهم باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، هو واحد من عدة خطوات ستفرزها "قمة لندن" على المديين القصير والمتوسط، وستصبح الخطوات مرجعية موثقة باللغة الإنجليزية يمكن الاعتماد عليها عالمياً من قبل الدول والمنظمات المعنية.

الإطار القانوني

بحسب "هيئة تنظيم المحامين" في بريطانيا، فإن مخاطر استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال القضائي والقانوني، تُبحث بين المؤسسات الحكومية المعنية منذ عام 2018، ولكن هذه التكنولوجيا كانت محصورة فقط بالشركات الكبرى قبل بضعة أعوام، أما اليوم فقد باتت متاحة ومتداولة على نطاق واسع ومتزايد بشكل ملحوظ.

ولفتت الهيئة في تقرير رسمي صدر نهاية نوفمبر الماضي، إلى أن ثلاثة أرباع شركات المحاماة الكبرى في بريطانيا باتت تستخدم خدمات الذكاء الاصطناعي، و60% منها تستكشف وتواكب الأجيال المتتالية من أنظمة هذه التكنولوجيا، خاصة وأن 72% من الخدمات المالية حول العالم اليوم تستند إلى الذكاء الاصطناعي.

على ضوء هذه المعطيات، قالت "جمعية القانون" في بريطانيا إن المحامين يجب أن يكون لهم دور في وضع الإطار القانوني لاستخدام الذكاء الاصطناعي سواء في مجال عملهم، أو أنشطة المحاكم والقضاء عامة، مع تأكيد الجمعية على ضرورة التزام جميع المؤسسات بالشفافية المطلقة في كم وكيفية استخدامات هذا الذكاء.

ودعت الجمعية الحكومة البريطانية في بيان رسمي أصدرته بمناسبة "قمة لندن 2023" إلى تبني نهج متوازن في حماية الناس والمصالح من جهة، ومواكبة تطورات الذكاء الاصطناعي وأدواته في عمل القضاء والمحاكم.

وبحسب رئيس جمعية القانون نيك إيمرسون: "كلما كانت التشريعات الناظمة لهذا المجال واضحة وشفافة، كلما عظمت فائدة استخدام هذه التكنولوجيا، وتراجعت فرص الخطأ أو الاستغلال السلبي لها".

تصنيفات

قصص قد تهمك