أثارت صورة لأطباء شباب مصريين يتناولون إفطاراً رمضانياً بإحدى المدن الإنجليزية، الجدل بشأن أسباب هجرتهم من مصر والعمل في دول أخرى، إلا أن اللافت أكثر، هو ما أشار إليه أحد أعضاء مجلس نقابة الأطباء المصرية، بشأن نوبات عمل كاملة في مستشفيات لندن وبرلين، يتم تسليمها باللغة العربية، بينما أكد نقيب الأطباء المصريين، أن الهجرة لا تقتصر فقط على أوروبا والولايات المتحدة ودول الخليج العربي، وإنما تشمل عدداً من دول إفريقيا.
ويرى أحمد سعد أمين، الطبيب المصري المقيم في روسيا منذ عام 2017، أن الأطباء في مصر يتعرضون لظروف صعبة للغاية على المستوى التعليمي والوظيفي، بالإضافة إلى مشكلات المنظومة الطبية ذاتها، بحسب حديثه لـ"الشرق" من موسكو.
وعدد سعد، أسباباً مختلفة لهجرة الأطباء من مصر، أبرزها "البحث عن درجة علمية معترف بها عالمياً"، خاصة أن الشهادة المصرية لم يعد لها نفس القبول القديم في دول العالم، لا سيما دول الخليج العربي.
وأوضح: "كي تحصل على شهادة طبية في مصر يجب الدراسة لنحو 5 سنوات على الأقل، بخلاف سنوات الدراسة الستة المعتمدة، وخلالها يجب عليك العمل في وحدات صحية لمدة تتراوح ما بين العام والعامين، ثم التحضير للماجستير والدكتوراه، ويستغرق هذا نحو ثلاث سنوات، بخلاف أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، والتي تصل إلى نحو ثلاث سنوات للأطباء الذكور، لهذا يفكر كثير من الأطباء في ترك مصر والعمل والدراسة في الخارج، ومن ثم التحرك باتجاه الخليج أو الاستمرار في أوروبا وأميركا".
إلى جانب السبب العلمي، هناك أسباب أخرى ذكرها سعد، مثل الاعتداء على الأطباء داخل المستشفيات بجانب ضعف المرتبات، وكثرة ساعات العمل، إذ تصل مدة عمل بعض الأطباء لنحو 24 ساعة كاملة، بجانب ضغط الحالات، إذ يستقبل بعض الأطباء خلال ساعات عملهم أكثر من 200 حالة، وهي أعداد تفوق قدرة البشر على العمل والتركيز.
وعادت مسألة هجرة الأطباء من مصر إلى الواجهة، بعد إفطار جماعي نظمه عدد من الأطباء المصريين من خريجي جامعتي القاهرة والمنصورة في بريطانيا في وقت سابق من شهر رمضان، والذي لاقى ردوداً غير متوقعة على مواقع التواصل الاجتماعي من شباب الأطباء الذين يعملون في مصر.
ومن موسكو شرقاً إلى أوهايو غرباً بالولايات المتحدة، حيث درس الطبيب المصري، شوقي السيد، لنحو ربع قرن، ثم عاد إلى القاهرة، ويحكي خلال حديثه لـ"الشرق"، أنه منذ ستينيات القرن الماضي، يعاني الأطباء من الإهمال وتدني الرواتب، وتسلل الفساد المالي والإداري والمحسوبية إلى المنشآت الطبية العتيقة، حتى أصبحت البيئة غير مناسبة مطلقاً للأطباء الأكفاء.
وتابع: "من هنا بدأ العديد من الأطباء في البحث عن فرص عمل أخرى خارج مصر، حيث كان الخليج العربي الوجهة الأولى، ومع الوقت اتجهت بوصلة الهجرة إلى أوروبا وأميركا"، مشيراً إلى أن بعض الأطباء يعودون إلى مصر بعد الحصول على شهادات علمية متقدمة.
واعتبر السيد، أنه "إذا وجد الطبيب في مصر، الاهتمام والتدريب العلمي والأكاديمي، وكذلك مستوى الدخل المناسب ما ترك البلاد".
وقال وليد عتمان، أستاذ مساعد أمراض النساء والتوليد بكلية الطب جامعة الزقازيق، في تصريحات لـ"الشرق"، إنه على الرغم من المغريات في الخارج، إلا أن "البقاء في مصر ليس سيئاً كما يعتقد البعض"، مضيفاً: "نعم هناك عقبات ومشكلات في المستشفيات الحكومية، وفي المقابل المادي، لكن لا تزال الحياة ممكنة في مصر، ربما أفكر في السفر لفترة مؤقتة، ولكن بالتأكيد سأعود إلى مصر".
62 % من الأطباء خارج المنظومة
وكشفت دراسة حكومية مصرية، أن عدد الأطباء المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة من نقابة الأطباء في مصر، باستثناء من بلغوا سن المعاش، يبلغ حوالي 212 ألفاً و835 طبيباً، يعمل منهم حالياً في جميع قطاعات الصحة، سواء بالمستشفيات التابعة لوزارة الصحة أو المستشفيات الجامعية الحكومية، أو القطاع الخاص، حوالي 82 ألف طبيب فقط، أي بنسبة 38% من عدد الأطباء المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة.
وتعني تلك الإحصائية أن 62% من الأطباء المسجلين في مصر، خارج المنظومة الطبية، إما بسبب السفر إلى الخارج للعمل أو لاستكمال الدراسات العليا، أو بسبب الحصول على إجازات بدون راتب، أو الاستقالة نهائياً من العمل الحكومي.
وتخلص الدراسة، إلى أن مصر لديها طبيب لكل 1162 شخصاً، بينما المعدل العالمي، طبقاً لمنظمة الصحة العالمية، هو طبيب لكل 434 شخصاً.
ويفيد الجهاز المركزي للإحصاء في مصر، بانخفاض عدد الأطباء إلى 97.4 ألف طبيب في عام 2022، مقابل 100.7 ألف طبيب في عام 2021 بانخفاض بلغت نسبته 3.3%.
وذكرت بيانات لنقابة الأطباء المصرية، أن نحو 11 ألفاً و536 طبيباً استقالوا من العمل الحكومي خلال 3 سنوات فقط في الفترة من 2019 وحتى مارس 2022.
وبحسب تلك البيانات، فإن عام 2022 شهد استقالة أكثر من 4300 طبيب مصري يعملون بالمستشفيات الحكومية، وهو العدد الأكبر خلال السنوات السبع الماضية، بمعدل يصل إلى 13.5 طبيب كل يوم، إذ تضاعف 4 مرات من 1044 استقالة عام 2016 إلى 4127 استقالة عام 2021.
ووفق نقابة الأطباء المصرية، فإن متوسط راتب الطبيب المقيم في مصر 3700 جنيه مصري (نحو 82 دولاراً)، ومتوسط معاش الطبيب بعد نحو 35 عاماً من العمل الحكومي 2300 جنيه (نحو 51 دولاراً)، بينما أشارت هيئة التأمين الصحي إلى أن متوسط راتب الطبيب في نظام التأمين الصحي الشامل الذي تم تطبيقه في بعض محافظات مصر يصل إلى 17 ألف جنيه (نحو 377 دولاراً) في الشهر.
اعتداءات يومية
إبراهيم الزيات، عضو مجلس نقابة الأطباء وممثل النقابة في "الحوار الوطني"، شدد، في تصريحات لـ"الشرق" على أن الأطباء في مصر يواجهون مشكلات مختلفة، أبرزها، حالات الاعتداء على الأطقم الطبية بالمستشفيات، مشيراً إلى أنها "تتم بشكل شبه يومي".
وفقاً لقانون العقوبات المصري، تقتصر عقوبة الإهانة بالإشارة أو باللفظ أو التهديد، على الحبس مدة لا تزيد على 6 أشهر أو دفع غرامة لا تتجاوز 200 جنيه (نحو 4 دولارات)، فيما تشمل عقوبة الاعتداء على الأطباء من دون ضرب، الحبس مدة لا تزيد على 6 أشهر أو دفع غرامة لا تتجاوز 200 جنيه، وتقتصر عقوبة الاعتداء بالضرب على الأطباء على الحبس مدة لا تزيد على سنتين أو دفع غرامة لا تتجاوز 200 جنيه أيضاً.
وفيات نتيجة "إجهاد العمل"
وتابع الزيات في تصريحاته لـ"الشرق": "بخلاف بيئة العمل والأمان، فهناك أيضاً ضعف العائد المادي، مما يضطر الطبيب إلى العمل لساعات أكثر، فالنقابة وثقت 149 حالة وفاة من الأطباء، بسبب إجهاد العمل خلال عام 2022".
ويحكي الزيات عن دفعات خريجي كلية طب القصر العيني، يعملون الآن بشكل كامل في مستشفيات لندن وبرلين والولايات المتحدة، حتى إنه "يتم تسليم نوبات العمل بينهم باللغة العربية وباللهجة المصرية"، مضيفاً: "على سبيل المثال بأحد مستشفيات وسط لندن، يوجد نحو 124 طبيباً مناوباً مصرياً، وهناك دفعة طب قصر عيني (جامعة القاهرة) كاملة في مدينة ليفربول".
وقال الزيات: "بخلاف المشكلات المادية وبيئة العمل، فهناك مشكلة أخرى وهي أنه لا يوجد في مصر قانون للمسؤولية الطبية، فإذا أخطأ الطبيب يتم محاكمته أمام محاكم الجنايات، حيث يتساوى الطبيب بالقاتل والمجرم وتاجر السلاح"، لافتاً إلى "نحو 54 ألف قضية إهمال طبي يحاكم فيها الأطباء".
ويختتم الزيات حديثه بالتأكيد على أن "الحكومة قامت باتخاذ إجراءات عديدة لمواجهة هجرة الأطباء، من ضمنها زيادة بدل المخاطر والبدلات وهي إجراءات جيدة، ولكن نحتاج إلى خطوات أخرى أكثر وأعمق".
محاولات تعويض العجز
وقامت الحكومة المصرية بعدة إجراءات للحد مِن ظاهرة هجرة الأطباء إلى الخارج، والاستفادة بهم بالمستشفيات الحكومية لسد العجز في الطواقم الطبية، والارتقاء بالخدمات المقدمة للمرضى.
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، علق في وقت سابق على هجرة الكثير من الأطباء في الفترة الأخيرة من مصر، موضحاً أن الرواتب التي يحصلون عليها في مصر "لا تناسبهم"، موجهاً في نفس الوقت بضرورة فتح الباب لقبول عدد أكبر من طلاب كليات الطب بالجامعات المصرية لتعويض العجز.
وبدأت الحكومة المصرية، منذ مارس الماضي، تطبيق حزمة الحماية الاجتماعية التي أعلن عنها السيسي؛ للأطباء وأعضاء المهن الطبية وهيئات التمريض، التي تضمنت تخصيص 4.5 مليار جنيه لإقرار زيادة إضافية لأعضاء المهن الطبية وهيئات التمريض، تتراوح من 250 إلى 300 جنيه في بدل المخاطر للمهن الطبية، وزيادة تقترب من 100% في بدل السهر والمبيت.
وتضمنت التوجيهات الرئاسية كذلك، تخصيص 1.6 مليار جنيه لإقرار زيادة إضافية لأعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم بالجامعات والمعاهد والمراكز البحثية، إلى جانب 6 مليارات جنيه لتعيين 120 ألفاً من أعضاء المهن الطبية والمعلمين والعاملين بالجهات الإدارية الأخرى، وتخصيص 15 مليار جنيه زيادات إضافية للأطباء والتمريض والمعلمين وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات.
وقال وزير الصحة المصري، خالد عبد الغفار، في وقت سابق، إن "تعليم الطبيب الواحد يُكلف الدولة ما بين 55 ألفاً إلى 70 ألف جنيه"، مضيفاً: "نحن في النهاية بشر، والطبيب يهاجر حينما تتاح له فرصة أفضل".
وأشار عبد الغفار، إلى أن الدولة توسعت في افتتاح كليات الطب خلال الفترة الماضية، موضحاً أنه تم إنشاء ما يقرب من 9 كليات طب جديدة خلال الأعوام الماضية.
إجراءات حكومية "غير واضحة"
نقيب الأطباء في مصر، أسامة عبد الحي، اعتبر، في حديثه لـ"الشرق"، أن الحكومة المصرية "لم تبذل الكثير لمنع الهجرة، أو لوضع خطة للاحتفاظ بالأطباء في مصر وتقليل اندفاعهم إلى الهجرة، فحتى الآن لا توجد إجراءات محددة أو قرارات واضحة لتنفيذها".
وأوضح عبد الحي، أن عدد الأطباء المصريين، نحو 230 ألف طبيب بشري، منهم 80 ألفاً خارج مصر، موزعين ما بين السعودية حيث يوجد 60 ألف طبيب بشري، و10 آلاف في باقي دول الخليج العربي، والباقي موزعون على دول أوروبا وأميركا، لافتاً إلى أن هجرة الأطباء بدأت تتصاعد إلى دول إفريقية مثل تنزانيا وغينيا.
ويحل الأطباء المصريون في بريطانيا في المرتبة الثالثة، بعد الهند وباكستان، من حيث أعداد الأطباء الأجانب.
وذكر تقرير أصدرته سلطات القوى العاملة البريطانية في عام 2022، أن مصر احتلت المرتبة الثالثة بين أكثر الدول التي يهاجر منها الأطباء إلى بريطانيا. وأشار التقرير إلى أن أعداد الأطباء المصريين المهاجرين إلى بريطانيا ارتفعت بنسبة 200% في الفترة بين عامي 2017 و2021.