بات النزاع على المياه بين الولايات المتحدة والمكسيك، والذي تعود جذوره إلى عقود خلت، "أكثر إلحاحاً" في مجتمعات تكساس التي تعتمد على نهر ريو جراندي، حيث يطالب قادتهم الآن حكومة مكسيكو إما بتقاسم المياه أو مواجهة خفض المساعدات الأميركية.
وبحسب تقرير لصحيفة "واشنطن بوست"، تتخلف المكسيك عن التزاماتها التي تفرضها معاهدة يبلغ عمرها 80 عاماً، وتحكم التدفقات العابرة للحدود لنهر كولورادو الذي ضربه الجفاف، إذ تتمنع مكسيكو سيتي منذ عقود عن توصيل المياه إلى الولايات المتحدة من خزاناتها في حوض ريو جراندي، في وقت تواجه المنطقة ضغوط الجفاف على المحاصيل العطشى والقيمة الموجهة للبيع عبر الحدود.
لكن بعض بلدات ولاية تكساس الأميركية المتاخمة للمكسيك تقترب الآن من "نقطة الانهيار"، إذ وصل خزانان رئيسيان إلى "أدنى مستوياتهما على الإطلاق"، حسبما ذكرت الصحيفة.
كما أجبر نقص المياه هذا العام مصنعاً رئيسياً لمعالجة قصب السكر على الإغلاق، ما كلّف المنطقة مئات الوظائف ومحصولاً يدر عليها مكاسب وفيرة"، إلى جانب مواجهة بلدة حدودية على الأقل، احتمالية "وقف أعمال البناء الجديدة بصورة قد تكون مؤقتة" جراء نقص المياه.
وفي خضم صراع دبلوماسي، يناشد زعماء تكساس وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين لـ"الضغط على المكسيك"، ويدعون الكونجرس إلى "حجب المساعدات الأميركية عن الجار الجنوبي" حتى تتدفق المياه من وراء السدود المكسيكية، وهذا أفضل ما يتمنونه، أو حتى يهب الإعصار على المنطقة.
وقال تيري كاناليز النائب الديمقراطي عن ولاية تكساس، الذي تشمل دائرته مدينتي إدنبيرج وماكالين الحدوديتين "لا يزال الحظ يحالفنا، فعندما نكون على وشك نفاد المياه، تهب العاصفة الاستوائية الحدودية، إلا أن الحظ ينفد أيضاً في نهاية المطاف".
تدفقات غير منتظمة
كان نهر ريو جراندي يتدفق بقوة من الجبال جنوب غرب كولورادو إلى خليج المكسيك، لكن عدة قرون من النمو والتنمية ومؤخراً الجفاف الشديد الذي تسبب به احترار الكوكب الناجم عن الأنشطة البشرية، أديا إلى شق النهر إلى قسمين، ما أدى بدوره إلى تضاؤل تدفقاته، خاصة مع قيام المكسيك ببناء السدود بشكل متزايد على أنهارها، وبناء خزانات جديدة منذ توقيع معاهدة المياه عام 1944، حسبما ذكر مسؤولو المياه في تكساس للصحيفة.
وتقضي المعاهدة بإرسال الولايات المتحدة 1.5 مليون فدان قدم (وحدة حجم لا تتبع نظام الوحدات الدولي لوحدات القياس تستخدم بشكل شائع في الولايات المتحدة وبريطانيا للإشارة إلى موارد المياه) من مياه نهر كولورادو كل عام إلى المكسيك، فيما ترسل الأخيرة 1.75 مليون فدان قدم من المياه إلى الولايات المتحدة كل 5 أعوام في نهر ريو جراندي.
غير أن المكسيك تخلّفت عن الانتظام في عمليات التسليم، وفقاً لبيانات اللجنة الدولية للحدود والمياه، وهي المنظمة المشرفة على استخدام البلدين لمياه نهر ريو جراندي.
وخلال دورة تسليم المياه الخمسية، التي بدأت في نوفمبر 2020، قدمت المكسيك كمية من المياه تُعادل ما تتوقع الولايات المتحدة الحصول عليه في عام واحد، في حين تخلفت المكسيك عن التزاماتها بمئات الآلاف من الأفدنة الأقدام تقريباً في كل دورة خمسية منذ عام 1997.
ولا تلزم المعاهدة المكسيك بالانتظام في عمليات التسليم، كما لا توجد عقوبة إذا لم توف بالكمية المطلوبة في السنوات الخمس.
وأدى عدم ثبات تدفقات المياه من المكسيك إلى ترك حصة الولايات المتحدة من المياه في خزاني أميستاد وفالكون، الممتدين على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك عند نسبة 28% و12% من طاقتيهما الاستيعابية مع حلول الطقس الحار والجاف.
صراع دولي محتدم
حثّ أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية تكساس، وهما جمهوريان، إضافة إلى مجموعة مؤلفة من 8 نواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، الأسبوع الماضي، قادة الميزانية في الكونجرس على "حجب المساعدات الأميركية عن مكسيكو سيتي حتى توافق المكسيك على توفير عمليات تسليم أكثر موثوقية واطراداً إلى الولايات المتحدة".
وتبعت ذلك مناشدات متكررة من مسؤولين محليين في تكساس لوزير الخارجية الأميركي، لإبراز قضية المياه ضمن القضايا التي تناقشها بلاده مع المكسيك، مثل قضايا الهجرة غير الشرعية، والاتجار بمخدر الفنتانيل.
وقالت النائبة الجمهورية عن تكساس مونيكا دي لا كروز: "نُصلي من أجل أن تكون هناك فرصة لتحفيز المكسيك على توصيل المياه التي تدين بها لنا".
وأضافت: "لقد كان المسؤولون في تكساس يستخدمون كل الوسائل الممكنة للتحقق من أن المكسيك على دراية بأن هذا موضوع مهم ليس فقط لمنطقتنا، بل لأميركا بأكملها".
وبحسب التقرير الذي نشرته "واشنطن بوست" الخميس، حتى وقت قريب كان هناك أمل في إمكانية توصل البلدين إلى حل خلال وقت وشيك، إذ أجريت المفاوضات على مدى 2023 بشأن إجراء مراجعة لمعاهدة المياه لعام 1944، والتي منحت المكسيك مزيداً من المرونة في إجراء عمليات تسليم المياه، وشجعتها، في الوقت نفسه، على أن تتم على نحو أكثر انتظاماً.
وقبيل إجراء الانتخابات المكسيكية في الشهر المقبل، تعثّرت المحادثات بين الجانبين، كما تعالت أصوات المعارضة في المكسيك ضد التوصل إلى اتفاق، حتى أن أحد أعضاء مجلس الشيوخ المكسيكي قال لصحيفة "ميلينيو"، إن "الاتفاق يمكن أن يجعل الري مستحيلاً عبر مساحات شاسعة من البلاد، فضلاً عن أنه سيُعيق النمو والتنمية على طول حدودها الشمالية".
وفي الوقت نفسه، تبذل المجتمعات الحدودية، مثل مدينة ميشن، بولاية تكساس، جهوداًً جبارة لجعل إمداداتها المحدودة من المياه تستمر لأطول فترة ممكنة. وبحث قادة المدينة مؤخراً اقتراحاً بحظر إصدار تراخيص بناء جديدة بشكل مؤقت بسبب مخاوف نقص المياه.
وقبل أن تصل الأمور إلى هذا الحد، تُخطط المدينة لفرض أسعار مياه جديدة خلال الصيف، ما سيعني تكاليف أكثر بمجرد أن يتجاوز المستخدم مستويات معينة من استهلاك المياه، وفقاً لما قاله مدير مدينة مشن، مايك بيرنز.
وأضاف أنه عندما كانت المكسيك قادرة على الوفاء بالتزامتها من المياه في الماضي، كان ذلك بسبب هبوب الأعاصير أو أي نظام استوائي آخر يضرب المنطقة. وفي ظل موسم الأعاصير النشط في المحيط الأطلنطي لهذا العام، أعرب بيرنز عن أمله أن يؤدي ذلك إلى تحقيق "وفرة مائية في نهر ريو جراند".
لكن، إذا كانت هذه هي الخطة الوحيدة لتفادي أزمة المياه، فإنه "لا توجد خطة على الإطلاق"، وفقاً لكاناليز، النائب الديمقراطي عن تكساس.
تصاعد الأزمة على الحدود
هذه الأزمة تترك، وفقاً للتقرير، آثاراً مؤلمة على جانبي الحدود، حيث كان إغلاق مصنع السكر في سانتا روزا بولاية تكساس خلال فبراير الماضي، بمثابة إنذار اخير بأن الواقع لم يعد كما كان.
ونظراً لأن قصب السكر ينضج سريعاً، فإن خسارة هذا المصنع تعني عدم قدرة المزارعين على زراعة قصب السكر وبيعه في وادي ريو جراندي بعد الآن.
وقد يكون منتجو الحمضيات هم الضحية التالية لنقص المياه، فبينما تستطيع أشجارهم البقاء على قيد الحياة لمدة موسم بالحد الأدنى من المياه، إلا أن المزارعين لا يستطيعون الاستمرار لفترة طويلة من دون حصاد.
كما تتضاعفت الخسائر في جميع أنحاء المنطقة التي شهدت طفرة في التخزين والتجارة المرتبطة بالمكسيك.
وفي هذا السياق أفاد باحثون بجامعة تكساس خلال ديسمبر الماضي، بأن خسارة جميع إنتاج المحاصيل المروية ستكلف منطقة وادي ريو جراندي السفلية في الولاية ما يقرب الـ500 مليون دولار في النشاط الاقتصادي، وحوالي 8 آلاف و400 وظيفة.
ولا تقل آلام المزارعين في المكسيك حدة عنها على الجانب الآخر من الحدود، إذ اضطر البعض إلى احتلال سد في مواجهة مميتة عام 2020، احتجاجاً على عمليات تسليم المياه للولايات المتحدة.
ويعمل المسؤولون في ولاية شيواوا المكسيكية على تحسين سبل المحافظة على المياه، وإعادة استخدامها في مواجهة الطلب المتزايد على كل من مياه الشرب ومياه الري، وفقاً لماريو ماتا كاراسكو، المدير التنفيذي للمجلس المركزي للمياه والصرف الصحي في الولاية.
وأضاف كاراسكو أن ندرة المياه تُمثل "وضعاً عالمياً أجبرنا على اتخاذ قرارات، والقيام باستثمارات في إدارة جديدة وأفضل للمياه".
إلا أن هذا بحسب "واشنطن بوست"، هذا لا يخفف من حدة الشعور بالإحباط على الجانب الأميركي من الحدود، بولاية تكساس.
وفي هذا السياق قال سوني هينوجوسا، وهو أحد المدافعين عن المياه ويعمل في مجلس هيئة المياه الإقليمية بريو جراندي "إنهم يوسعون نطاق زراعتهم المروية، ويقتلون زراعتنا. إنهم يزرعون محاصيلهم بالمياه التي هي حق لنا".