تحدى اكتشاف مجموعة جديدة من جنس "هومو" الشبيه بمجموعات ما قبل الإنسان البدائي بأوروبا، في بلاد الشام، الفرضية السائدة بأن إنسان "نياندرتال" نشأ من أوروبا، ما يشير إلى أن بعض أسلاف إنسان" نياندرتال"، جاءوا في الحقيقة من بلاد الشام، وفقاً لدراسة بحثية صدرت الخميس عن جامعة تل أبيب والجامعة العبرية في القدس.
وتشير النتائج الجديدة إلى أن نوعين من مجموعات الهومو، عاشوا جنباً إلى جنب في بلاد الشام، لأكثر من 100 ألف عام، وتبادلوا المعرفة، وتقنيات صناعة الأدوات البدائية.
التحام يحل اللغز
وشعب "نيشر رملة" الذي عاش بالقرب من مدينة الرملة الفلسطينية، منذ حوالي 400 ألف عام، والتحم مع جنس "هومو سابينس" الذين وصلوا لاحقاً قبل حوالي 200 ألف عام.
ويقدم الاكتشاف الجديد، أيضاً أدلة حول لغز في التطور البشري، كيف تخترق جينات الإنسان العاقل، الإنسان البدائي الذي يُفترض أنه عاش في أوروبا، قبل وقت طويل من وصول الإنسان العاقل؟
ويزعم الباحثون أن بعض حفريات الإنسان اللاحقة، التي عُثر عليها سابقًا في الأراضي الفلسطينية، مثل تلك المكتشفة في مغارة السخول التي تبعد عن مدينة حيفا بنحو 20 كيلومتراً، لا تنتمي إلى الإنسان العاقل القديم (المبكر)، بل تنتمي إلى مجموعات مختلطة من الإنسان العاقل وإنسان "نشر رملة".
ونوع "هومو نيشر رملة" أو إنسان ما قبل التاريخ، الذي عاش في تلك المنطقة، لم يكن معروفاً من قبل للعلم.
خصائص تشريحية
وتمكن الباحثون من جامعة تل أبيب والجامعة العبرية في القدس، من تحديده كنوع جديد من البشر الأوائل، في موقع "نيشر رملة" ويقول الباحثون إنه سكن تلك المنطقة قبل 140 ألف إلى 120 ألف سنة مضت.
وفقاً للباحثين، فإن الخصائص التشريحية لـ"هومو نيشر رملة" تشترك في ميزات كل من إنسان نياندرتال (خاصة الأسنان والفكين) وإنسان هومو القديم (على وجه التحديد الجمجمة).
وفي الوقت نفسه، فإن هذا النوع يختلف تماماً عن البشر المعاصرين، حيث يظهر هيكل الجمجمة اختلافات شاسعة تشمل شكل الذقن بالإضافة إلى وجود أسنان كبيرة للغاية.
ويعتقد الباحثون أن نوع "هومو نيشر رملة" هو الساكن "الأصلي" الذي تطور منه معظم البشر في العصر "البليستوسيني الأوسط".
بالإضافة إلى ذلك، يقترح الباحثون أن هذه المجموعة "كانت مفقودة" في حلقة التزاوج مع الإنسان العاقل، الذي وصل إلى المنطقة منذ حوالي 200 ألف عام، والذي نعرفه من دراسة حديثة عن الحفريات الموجودة في كهف ميسلية.
أهمية علمية كُبرى
وتقول الدراسة إن "هومو نيشر رملة" كان سلفاً لكل من إنسان النياندرتال في أوروبا، ومجموعات الهومو القديمة في آسيا. ولاكتشاف نوع جديد من الهومو أهمية علمية كبيرة، إذ تمكن العلماء من تكوين معنى جديد للحفريات البشرية المكتشفة سابقاً، وإضافة قطعة أخرى إلى أحجية التطور البشري، وفهم هجرات البشر في العالم القديم، على حد قول الباحثين في الدراسة.
وعلى الرغم من أنهم عاشوا منذ فترة طويلة، في أواخر العصر البليستوسيني الأوسط (474000-130000 سنة)، يمكن لأهل نيشر رملة، أن يخبرونا بقصة مهمة، تكشف الكثير عن تطور أحفادهم وأسلوب حياتهم.
وتم العثور على الحفرية البشرية المهمة خلال أعمال التنقيب في موقع "نيشر رملة" الذي ينتمي لعصور ما قبل التاريخ، حيث عثر المنقبون على كميات كبيرة من عظام الحيوانات، بما في ذلك الخيول والغزلان، وكذلك الأدوات الحجرية والعظام البشرية، بعد أن حفروا على عمق يبلغ حوالي 8 أمتار.
اكتشاف غير عادي
وقام فريق دولي بتحديد شكل العظام، على أنها تنتمي إلى نوع جديد من الهومو لم يكن معروفاً من قبل للعلم، وهذا هو النوع الأول من جنس هومو الذي يتم العثور على بقاياه في فلسطين، ووفقاً للممارسات الشائعة، تم تسميته على اسم الموقع الذي تم اكتشافه فيه موقع "نيشر رملة".
ويقول الباحثون إن هذا الاكتشاف "غير عادي"، إذ لم يتخيلوا أبداً أنه جنباً إلى جنب مع الإنسان العاقل، جاب الإنسان القديم المنطقة في وقت متأخر جداً من تاريخ البشرية.
وتُظهر الاكتشافات الأثرية المرتبطة بالحفريات البشرية أن" نيشر رملة هومو" امتلك القدرة على استخدام تقنيات إنتاج الأدوات، كما تفاعل على الأرجح مع الإنسان العاقل "هومو سابينس" المحلي.
تحدي الفرضيات القائمة
وتمت مناقشة ثقافة وأسلوب حياة وسلوك "هومو نيشر رملة" في ورقة مصاحبة، نُشرت أيضاً في مجلة العلوم الخميس، ويتحدى اكتشاف نوع "هومو نيشر رملة" الفرضية السائدة بأن إنسان نياندرتال نشأ في أوروبا.
ويعتقد معظم الباحثين أن إنسان نياندرتال تطور في أوروبا لأول مرة، حيث أُجبرت مجموعات صغيرة من إنسان نياندرتال على الهجرة جنوباً هرباً من انتشار الأنهار الجليدية، ووصل البعض إلى أرض فلسطين قبل نحو 70 ألف عام.
لكن حفريات "نيشر رملة" تجعلنا نشكك في هذه النظرية، ما يشير إلى أن أسلاف إنسان نياندرتال الأوروبي، عاشوا في بلاد الشام منذ 400 ألف عام، وهاجروا مراراً وتكراراً غرباً إلى أوروبا وشرقاً إلى آسيا.
وفي الواقع، تشير النتائج إلى أن إنسان نياندرتال الشهير في أوروبا الغربية، ليس سوى بقايا عدد أكبر بكثير من السكان الذين عاشوا هنا في بلاد الشام، وليس العكس.
ويرى الباحثون إن البشر من موقع "نيشر رملة" ليسوا الوحيدين من نوعهم الذين تم اكتشافهم في المنطقة، وأن بعض الأحافير البشرية التي تم العثور عليها سابقاً في فلسطين، والتي حيرت علماء الأنثروبولوجيا لسنوات، مثل الحفريات من كهف تابون الفلبيني (160 ألف سنة)، ومغارة الزوتية الفلسطينية (250 ألف سنة)، وكهف قاسم الفلسطيني (400 ألف سنة) ينتمون إلى نفس المجموعة البشرية الجديدة، التي تسمى الآن نوع نيشر رملة هومو.
فصل جديد للتاريخ البشري
وبُذلت الجهود لإسناد هذه الحفريات إلى مجموعات بشرية معروفة، مثل الإنسان العاقل، أو الإنسان المنتصب، أو إنسان نياندرتال، لكن الباحثون يقولون"الآن.. لا" فهذه مجموعة في حد ذاتها، لها سمات وخصائص مميزة.
وفي وقت لاحق هاجرت مجموعات صغيرة من نوع "هومو نيشر رملة" إلى أوروبا حيث تطورت إلى إنسان نياندرتال "الكلاسيكي" الذي نعرفه، وكذلك إلى آسيا، حيث أصبحوا مجموعات قديمة، ذات سمات شبيهة بإنسان نياندرتال.
وكمفترق طرق بين إفريقيا في أوروبا وآسيا، كانت أرض فلسطين بمثابة بوتقة تنصهر فيها مجموعات بشرية مختلفة، مع بعضها البعض، لتنتشر لاحقًا في جميع أنحاء العالم القديم.
أوروبا ليست الملجأ
ويعتقد العلماء أن أوروبا ليست الملجأ الحصري لإنسان نياندرتال، إذ يعتقد الباحثون أن بلاد الشام هي نقطة انطلاق مهمة جغرافياً، أو على الأقل رأس جسر لهذه العملية.
وعلى الرغم من عدم وجود الحمض النووي في هذه الحفريات، إلا أن العثور على حفرية "نيشر رملة" تقدم حلاً للغز كبير في تطور الإنسان؛ وتجيب على سؤال "كيف اخترقت جينات الإنسان العاقل الإنسان البدائي الذي من المفترض أنه عاش في أوروبا لفترة طويلة قبل وصول الإنسان العاقل؟".
وجاء حل اللغز من اكتشاف "نيشر رملة".. فببساطة؛ تزاوج الإنسان العاقل مع "المفقودين" الذين عُثر على بقاياهم مؤخراً.. إنسان نيشر رملة.
ويكشف موقع نيشر رملة فصلاً جديداً في قصة البشرية، فقصة تطور الإنسان البدائي، ستُروى بشكل مختلف بعد هذا الاكتشاف.