أظهرت دراسة جديدة نُشرت في دورية "فرونتيرز" (Frontiers) أن نوعاً من النمل يُعرف بـ"النمل المجنون طويل القرون" يتمتع بقدرة مذهلة على استخدام ما يُعرف بـ"الذكاء الجماعي" لتنظيف الطرق أمام حاملات الغذاء.
ويقول العلماء إن هذا السلوك الذي يوحي بتخطيط مسبق، هو في الواقع نتاج لتفاعل بسيط بين أفراد لا تمتلك أدمغتها سوى جزء ضئيل من القدرات العصبية، بعدما تتبعوا هذه الظاهرة عن كثب من خلال سلسلة من التجارب المنظمة على مستعمرة نمل عملاقة.
ورغم أن "النمل المجنون" لا يبدو كائناً قادراً على اتخاذ قرارات ذكية؛ فدماغه لا يتجاوز حجم بذرة خشخاش ويحتوي على أقل من مليون خلية عصبية، مقارنة بـ86 ملياراً لدى الإنسان، إلا أن الباحثين رصدوا سلوكاً معقداً يبدو أنه ينطوي على فهم لحاجات المجموعة، وهو ما وصفوه بأنه أول توثيق لسلوك استباقي من هذا النوع لدى النمل خلال نقل الغذاء بشكل تعاوني.
وتظهر الدراسة لأول مرة أن "النمل المجنون طويل القرون" قادر على إزالة العوائق من الطريق، قبل أن تُعيق حركة نقل الغذاء، وكأنه يتنبأ بما سيحدث ويهيئ الطريق مسبقاً.
وجاءت الشرارة الأولى لهذه الدراسة من ملاحظة عرضية في الطبيعة، حين لاحظ العلماء أن بعض النملات العاملات يستخدمن فكوكهن لحمل حصى صغيرة من أمام مجموعة كانت تنقل فريسة كبيرة.
المشاهدة، التي بدت للوهلة الأولى وكأن النمل يفهم العوائق التي تعترض طريق زملائه ويحاول مساعدتهم مسبقاً، دفعت الفريق العلمي إلى تصميم سلسلة من التجارب بلغت 83 تجربة منفصلة، لرصد هذا السلوك بشكل منضبط.
في هذه التجارب، استخدم الباحثون كرات بلاستيكية صغيرة بقطر 1.5 ملم؛ أي نصف طول جسم النملة لمحاكاة العوائق، بينما استُخدمت حبيبات طعام القطط كغذاء يجذب النمل.
وأظهرت النتائج أن النمل كان يُزيل هذه الكرات حين تكون موضوعة على مسافة نحو 40 ملم من مصدر الغذاء باتجاه العش، وكان يحملها لمسافة قد تصل إلى 50 ملم قبل أن يتركها بعيداً عن المسار؛ لدرجة إن إحدى النملات سجلت رقماً قياسياً بإزالة 64 كرة على التوالي.
اللافت أن هذا السلوك لم يُلاحظ إلا عندما كانت حبيبة الطعام كاملة، أما حين تُقسم إلى فتات صغيرة، فقد كانت تُنقل بواسطة نملة واحدة دون الحاجة لتعاون أو إزالة للعوائق.
وبحسب العلماء؛ يبدو أن هذا التمييز سلوك تكيفي ذكي، إذ إن الفتات يمكن تجاوزه بسهولة، بينما يتطلب نقل الحبيبات الكاملة تعاوناً بين عدة أفراد يصعب عليهم تجاوز شبكة من العوائق دون تنظيف المسار أولاً.
وأثبتت الدراسة أيضاً أن العوائق تُسبب بالفعل تأخيرات ملحوظة، إذ استغرق النمل 18 ضعف الزمن اللازم لعبور نفق بطول 5 سنتيمترات وعرض 7 سنتيمترات عندما كان مملوءاً بالكرات مقارنة بحالته الخالية من العوائق.
كما اتضح أن النمل لا يحتاج إلى ملامسة مباشرة للطعام لبدء سلوك إزالة العوائق، بل يكفي أن يشم أثر الفيرمونات التي تفرزها نملات الاستطلاع أثناء بحثهن عن الغذاء.
وتلعب هذه الفيرمونات دوراً محورياً في توجيه النمل، إذ تترك النملة أثناء تحركها قطرات صغيرة من الرائحة على الأرض كل 0.2 ثانية تقريباً، ما يجذب الأخريات إلى الموقع.
واللافت أن نملة واحدة قد تتحول إلى "وضع التنظيف" بمجرد ملامسة إحدى هذه العلامات القريبة من الكرة البلاستيكية، لتبدأ عندها عملية إزالة العوائق بشكل مستقل.
ومن خلال هذه المشاهدات، استنتج الباحثون أن الفهم الظاهري للوضع ليس فردياً بل جماعياً، إذ لا تُدرك النملة نفسها السياق الكامل، بل تستجيب لإشارات بسيطة كآثار الرائحة أو حركة الآخرين، ورغم ذلك، يُنتج هذا التفاعل سلوكاً يبدو منسقاً، وذو هدف واضح.
"ذكاء المستعمرة"
ويقول الباحثون إن هذه النتيجة تعني أن "ذكاء المستعمرة" ينبع من التفاعلات البسيطة بين أفراد محدودي الإدراك، ولكنهم مجتمعون يُنتجون سلوكاً معقداً وموجهاً، مضيفين أن "ما يجعل هذا السلوك أكثر إدهاشاً من افتراضاتنا الأولى هو أن لا أحد يخطط أو يفكر مسبقاً، بل أن الذكاء ناتج من تفاعل آلي بين وحدات بسيطة".
ويوضح الباحثون أن هذا الاكتشاف يشبه ما يحدث في الدماغ البشري، حيث تنتج القدرات الإدراكية العليا من تفاعل بين ملايين الخلايا العصبية البسيطة، دون أن يكون لأي منها وعي شامل.
ويتميز "النمل المجنون" بسلوكه الفوضوي وسرعة حركته، وهو ما أكسبه وصف "المجنون"؛ وتعيش هذه الأنواع غالباً في مستعمرات ضخمة تسمى "السوبر كولونيز"، حيث لا توجد حدود إقليمية بين المجموعات المختلفة داخل المستعمرة، ما يتيح تعاوناً واسع النطاق.
وتفتح النتائج الباب أمام فهم أعمق لمفهوم الذكاء في الطبيعة، ليس بوصفه صفة فردية بالضرورة، بل كخاصية قد تظهر من التفاعل البسيط بين عدد كبير من العناصر غير الذكية في ذاتها.
وبالنسبة للعلماء، فإن هذا النموذج قد يحمل إشارات مهمة لفهم كيف يمكن بناء أنظمة ذكاء اصطناعي تعتمد على مبادئ مشابهة، أو لتحسين التنسيق في الروبوتات المتعددة، بل وحتى لفهم أعمق لطبيعة التفكير البشري.
تسلط هذه الدراسة الضوء على كيف يمكن لسلوكيات بسيطة جداً أن تُنتج تصرفات تبدو، ظاهرياً، وكأنها نابعة من تفكير معقد وتخطيط مسبق.
ومع أن النملة الفردية لا تعرف أكثر من أنها وجدت شيئاً يجب إبعاده، إلا أن النتيجة النهائية- طريق نظيف ومفتوح أمام الغذاء- تُظهر كيف أن التعاون العفوي يمكن أن يحاكي التخطيط الذكي.