لأول مرة.. علماء يرصدون "ولادة كوكب" على بعد 440 سنة ضوئية من الأرض

كوكبًا مرشحًا في طور التكوين يدور حول النجم الشاب HD 135344B، الواقع على بُعد نحو 440 سنة ضوئية من الأرض ESO/F. Maio et al./T. Stolker et al - ESO/F. Maio et al./T. Stolker et al
كوكبًا مرشحًا في طور التكوين يدور حول النجم الشاب HD 135344B، الواقع على بُعد نحو 440 سنة ضوئية من الأرض ESO/F. Maio et al./T. Stolker et al - ESO/F. Maio et al./T. Stolker et al
القاهرة -محمد منصور

في مشهد فلكي غير مسبوق، رصد علماء الفلك كوكباً ناشئاً يبدو كأنه يشق طريقه الخاص وسط سُحب الغاز والغبار التي تحيط بنجم حديث الولادة، في مشهد يُشبه بدايات تشكل نظامنا الشمسي.

واستخدم التلسكوب الأوروبي العملاق (VLT) في عملية الرصد، وقال المؤلف الرئيسي للدراسة، فرانشيسكو مايو: "لن يتسنى لنا أبداً مشاهدة ولادة الأرض، لكننا هنا، حول نجم فتيّ يُدعى HD 135344B، ربما نشاهد كوكباً يتشكل أمام أعيننا".

يُعد HD 135344B أحد النجوم الشابة المثيرة للاهتمام في مجرة درب التبانة، ويقع على بُعد نحو 440 سنة ضوئية من الأرض في كوكبة العقرب، ولا يتجاوز عمره عدة ملايين من السنين، كما لا يزال في طور التكوين، ما يجعله نموذجاً حياً لدراسة المراحل الأولى من نشوء الكواكب.

تُظهر هذه الصورة، المأخوذة عام 2015 باستخدام مصفوفة ALMA، قرصًا غازيًا محيطًا بالنجم HD 135344B أثناء مراحله المبكرة من تشكل الكواكب. يجمع المشهد بين انبعاثات الغاز (باللون الأزرق) والغبار (باللون البرتقالي). النجم نفسه لا يظهر في الصورة بسبب طبيعة الأطوال الموجية المُستخدمة، ويقع في المركز المظلم للقرص.ALMA (ESO/NAOJ/NRAO)/N. van der Marel et al
صورة مأخوذة عام 2015 باستخدام مصفوفة ALMA تظهر قرصاً غازياً محيطاً بالنجم HD 135344B أثناء مراحله المبكرة من تشكل الكواكب في مشهد يجمع بين انبعاثات الغاز (باللون الأزرق) والغبار (باللون البرتقالي) ولا يظهر النجم نفسه في الصورة بسبب طبيعة الأطوال الموجية المُستخدمة إذ يقع في المركز المظلم للقرصALMA (ESO/NAOJ/NRAO)/N. van der Marel et al 

ويحيط بالنجم HD 135344B قرص كوكبي أولي كثيف يتكوَّن من الغاز والغبار، ويتميّز ببنية لافتة للنظر تتضمن أذرعاً حلزونية ضخمة تشبه تلك التي نشاهدها في المجرات، لكن على مقياس أصغر بكثير.

والقرص الكوكبي الأولي هو بنية فلكية هائلة تتكوّن من الغاز والغبار تُحيط بنجم في مراحله الأولى من التكوين، وتُعتبر المهد الذي تولد فيه الكواكب. وينشأ هذا القرص نتيجة بقايا المادة التي لم تُدمج في النجم عند ولادته، وتبدأ بالدوران حوله بفعل الجاذبية، مكوّنة قرصاً مسطحاً يمتد لمئات الوحدات الفلكية.

كوكب في طور التكوين إذ  يُحيط بالنجم قرص غباري غازي يتميز بأذرع حلزونية واضحة. وتشير النماذج النظرية إلى أن مثل هذه البنى يمكن أن تنشأ بفعل كواكب ناشئة. ومن اللافت أن الكوكب المرشح يقع تمامًا عند قاعدة أحد الأذرع، في الموقع الذي تنبأت به الحسابات الفلكية. ESO" width="480" height="253
كوكب في طور التكوين إذ يُحيط بالنجم قرص غباري غازي يتميز بأذرع حلزونية واضحة وتشير النماذج النظرية إلى أن مثل هذه البنى يمكن أن تنشأ بفعل كواكب ناشئة ومن اللافت أن الكوكب المرشح يقع تماماً عند قاعدة أحد الأذرع في الموقع الذي تنبأت به الحسابات الفلكية. ESO 

داخل هذا القرص، تتصادم الجسيمات الدقيقة وتلتصق ببعضها البعض، مكوّنة أجساماً أكبر تُعرف بالكواكب الأولية، التي تستمر في النمو لتُشكّل كواكب كاملة.

وتُعد هذه الأقراص بيئات ديناميكية نشطة تتغير باستمرار، وغالباً ما تُظهر بنى معقدة مثل الحلقات والفجوات والأذرع الحلزونية، والتي يُعتقد أنها ناتجة عن تفاعل الكواكب النامية مع المادة المحيطة بها.

ومن خلال دراسة هذه الأقراص، يتمكّن العلماء من رصد اللحظات الأولى لتشكّل الكواكب، وفهم العمليات التي أنتجت في النهاية أنظمة نجمية شبيهة بنظامنا الشمسي.

وظلت هذه البُنى الحلزونية موضع تساؤل لسنوات، حيث افترض الفلكيون أنها قد تكون ناتجة عن تأثير كوكب ناشئ يشق طريقه داخل القرص، ويشكّل هذه الأنماط نتيجة تفاعله الجاذبي مع المادة المحيطة. وجرى رصد هذا القرص المميز لأول مرة منذ عام 2015 لكن دون العثور على دليل مباشر لوجود كوكب.

وبحسب البحث المنشور في دورية "أسترونومي أند استروفيزيكي" (Astronomy & Astrophysics) يدور الكوكب المحتمل داخل قرص من الغاز والغبار يُعرف بالقرص الكوكبي الأولي، ويُعتقد أنه يبلغ ضعف حجم كوكب المشتري، ويقع على مسافة من نجمه تشبه المسافة بين نبتون والشمس.

اللافت في الأمر أن هذا الكوكب لا يسبح بهدوء في محيطه، بل يبدو كأنه ينحت نمطاً حلزونياً معقداً داخل هذا القرص، في سلوك يشبه إلى حد كبير "نحات كوني" يشق طريقه بين الغيوم الكونية.

قرص غازي حلزوني الشكل يحيط بالنجم الشاب HD 135344B. وقد رُصد كوكب مرشح ضمن هذا القرص يُعتقد أنه السبب في تشكيل هذه البُنى المعقدة. يُشار إلى موقع الكوكب بدائرة بيضاء واضحة. ESO/F. Maio et al.
قرص غازي حلزوني الشكل يحيط بالنجم الشاب HD 135344B وقد رُصد كوكب مرشح ضمن هذا القرص يُعتقد أنه السبب في تشكيل هذه البُنى المعقدة ويُشار إلى موقع الكوكب بدائرة بيضاء واضحة. ESO/F. Maio et al.

وقال العلماء إن الكوكب الناشئ يتفاعل بطريقة غير عادية داخل ما يُعرف بالقرص الكوكبي الأولي، وهو قرص هائل من الغاز والغبار يحيط بالنجم خلال مراحله الأولى من التكوين. وتُعد هذه المنطقة بيئة ديناميكية شديدة الاضطراب، حيث تتداخل الجسيمات وتتصادم وتتحرك باستمرار بفعل الجاذبية ودرجات الحرارة العالية.

عندما يبدأ كوكب بالتكوّن داخل هذا القرص، لا يمر بشكل صامت وسط المادة المحيطة، بل يتفاعل معها بقوة، فالجاذبية التي يُولدها هذا الجرم، رغم أنه لا يزال في طور التكوين، تبدأ بسحب المادة من حوله، فيسحب جزءاً منها ليغذّي نموه، ويدفع بالباقي جانباً.

ونتيجة لهذا التفاعل، تظهر أنماط واضحة في القرص، مثل الحلقات الفارغة أو الأذرع الحلزونية، تماماً كما لو أن نحاتاً يمر بإزميله في صلصال لزج ويترك أثراً عميقاً خلفه.

ولاحظ العلماء أنه يتمركز عند قاعدة أحد الأذرع الحلزونية في القرص، وهي منطقة غنية بالمادة، ويُعتقد أنه هو من تسبب في تشكل هذا الذراع عبر جاذبيته التي جذبت المادة نحوه وشكّلت المسار الحلزوني حوله.

وعلى مدار سنوات، لاحظ الفلكيون أن العديد من الأقراص الكوكبية الأولية حول النجوم الفتية تظهر أنماطاً هندسية مذهلة، حلقات وفراغات، وحتى أذرع حلزونية.

وُضعت نظريات تفسر هذه الظواهر بأن كواكب ناشئة تُحدث تلك التشوهات أثناء دورانها، لكنها بقيت نظريات دون رصد مباشر لأي من هذه "الكواكب النحاتة" وهي تمارس هذا التأثير حتى الآن.

تعرض هذه المقارنة التفاعلية مشهدين مختلفين للقرص المحيط بالنجم HD 135344B. في الجانب الأيسر، نرى صورة التقطها جهاز ERIS على تلسكوب VLT، تُظهر كوكبًا مرشحًا في طور التكوين. أما في الجانب الأيمن، فتعرض الصورة مزيجًا من بيانات متعددة الأطوال الموجية، جمعتها أداة SPHERE ومرصد ALMA، وتُظهر توزيع الغاز والغبار في القرص.ESO/F. Maio et al. / T. Stolker et al.
مشهدان مختلفان للقرص المحيط بالنجم HD 135344B ففي الجانب الأيسر نرى صورة التقطها جهاز ERIS على تلسكوب VLT تُظهر كوكباً مرشحاً في طور التكوين بينما في الجانب الأيمن صورة تعرض مزيجاً من بيانات متعددة الأطوال الموجية جمعتها أداة SPHERE ومرصد ALMA وتُظهر توزيع الغاز والغبار في القرصESO/F. Maio et al. / T. Stolker et al

في السابق، رُصدت الأذرع الحلزونية في قرص النجم HD 135344B باستخدام أداة "سفير" الموجودة على التلسكوب الأوروبي العملاق، لكن تلك الرصود لم تكشف عن وجود كوكب بداخلها.

والجديد أن الباحثين استخدموا أداة أكثر تطوراً تُدعى ERIS، وهي مصور طيفي فائق الدقة، ما أتاح لهم رصد ما يعتقدون أنه الكوكب المسبب لتلك الأنماط، متمركزاً في قاعدة أحد الأذرع الحلزونية، تماماً حيث توقعت النماذج النظرية وجوده.

وأشار فرانشيسكو إلى أن ما يميز هذا الرصد أنه لا يعتمد على استنتاج غير مباشر، بل نرى الضوء الصادر من الكوكب نفسه وهو ما يزال عالقاً داخل القرص".

كيف تتكون الكواكب؟

  • تشكل القرص الكوكبي الأولي

يتكون حول النجم الشاب قرص من الغاز والغبار يُسمى "القرص الكوكبي الأولي.

  • تصادم الجسيمات الصغيرة

تبدأ جسيمات الغبار داخل القرص بالتصادم والالتصاق، مشكّلة كتلاً أكبر تدريجياً.

  • نمو الكتل إلى كواكب أولية

تستمر هذه الكتل في النمو بفعل الجاذبية لتُكوّن أجساماً تُعرف بـ"الكواكب الأولية".

  • جذب المزيد من المادة

تبدأ الكواكب الأولية بجذب الغاز والغبار من حولها، مما يزيد كتلتها ويُسرّع نموها.

  • تشكل الكواكب النهائية

بمرور ملايين السنين، تستقر الكواكب في مداراتها، وتكتمل عملية التكوين، مكوّنة نظاماً كوكبياً حول النجم.

  • تنظيف المدار

الكواكب الكبيرة تزيل أو تبتلع ما تبقّى من الغبار في مداراتها، تاركة فجوات واضحة في القرص.

وإذا ما تأكد هذا الاكتشاف، فقد يُمثّل تحولاً جوهرياً في فهمنا لكيفية ولادة الكواكب، فرؤية كوكب وهو يقطع طريقه داخل قرص كوكبي أولي تاركاً خلفه تموجات غبارية تماثل بصماته الخاصة، هو بمثابة "لحظة البداية" الحقيقية التي طالما سعى علماء الفلك لتوثيقها.

تصنيفات

قصص قد تهمك