صور بالحجم الطبيعي لإبل وخيول وغزلان وثيران.. و532 أداة حجرية

السعودية.. نقوش أثرية تكشف مظاهر الحياة في شمال الجزيرة قبل 12 ألف سنة

صور ثلاثية الأبعاد للنقوش المكتشفة توضح المراحل المختلفة والتمييز بين الأشكال، شمال الجزيرة العربية، السعودية - Sahout Rock Art and Archaeology Project
صور ثلاثية الأبعاد للنقوش المكتشفة توضح المراحل المختلفة والتمييز بين الأشكال، شمال الجزيرة العربية، السعودية - Sahout Rock Art and Archaeology Project
القاهرة -محمد منصور

أفادت دراسة حديثة نشرتها دورية Nature Communcations باكتشاف نقوش صخرية ضخمة بالحجم الطبيعي لجِمال وغزلان وحيوانات أخرى بشمال الجزيرة العربية في السعودية يعود تاريخها إلى ما بين 12800 و11400 سنة، وتشير بوضوح إلى وجود مجتمع في المنطقة. 

واعتبرت الدراسة، أن النقوش تمثل دليلاً مباشراً على أن مصادر للمياه العذبة كانت متوفرة في المنطقة، وهو ما ساعد على توسع البشر واستقرارهم في شمال الجزيرة العربية خلال فترة غامضة من تاريخها.

وأظهرت الأدلة الأثرية أن شمال الجزيرة العربية كان يفتقر بشدة لأي علامات واضحة على وجود البشر خلال الفترة الممتدة بين 25 و20 ألف سنة، وحتى نحو 10 آلاف سنة، وهي المرحلة التي اتسمت بظروف مناخية بالغة الجفاف.

وأوضحت الدراسة أن الندرة في وجود شواهد لا تعني أن المنطقة كانت خالية تماماً من البشر، بل تعكس صعوبة الظروف البيئية التي حدت من استقرار المجتمعات البشرية أو جعلت أنشطتها أقل وضوحاً في السجل الأثري.

وأشارت الدراسة إلى أن البشر في مناطق أخرى من الشرق الأوسط نجحوا خلال الفترة نفسها، في تبني أنماط الزراعة والرعي والتكيف مع بيئات متنوعة، في حين ظل شمال الجزيرة العربية منطقة أقل وضوحاً.

وتوصلت بحوث سابقة إلى أن النشاط البشري المرتبط بالواحات في المنطقة بدأ تقريباً قبل 10 آلاف سنة.

الكشف عن نقوس سعودية عمرها 12 ألف عام
 اكتشاف نقوش أثرية عمرها 12 ألف سنة في السعودية - Sahout Rock Art and Archaeology Project

أجرى الفريق البحثي مسوحات أثرية وحفريات في صحراء النفود شمال المملكة لتغطية الفجوة الموجودة في السجل الأثري، وأكد تحليل الرواسب أن بيئة المنطقة كانت جافة لكنها شهدت تزايداً تدريجياً في توافر المياه على شكل بحيرات موسمية بين 16 ألفاً و13 ألف سنة، الأمر الذي وفر ظروفاً أكثر ملاءمة لدعم الوجود البشري في تلك الفترة.

ودلت الاكتشافات على أن توافر المياه شجع الإنسان على التعبير الفني وإنتاج أدوات مادية تعكس حضوره.

وأوضح الباحثون أن النقوش الصخرية المكتشفة تضمنت أكثر من 130 نقشاً بالحجم الطبيعي لجمال وماعز جبلي (وعل) وخيول وغزلان وأبقار برية ضخمة، تجاوز طول بعضها مترين، إلى جانب نقوش أصغر تصور جمالاً وبشراً، ما يعكس ثراء المشهد الفني وتنوع الرموز التي اعتمدها السكان.

وعثر فريق البحث على 532 أداة حجرية جرى استخراجها من مواقع عدة، وأشار تحليل الأدوات إلى أن أشكالها ربما تحمل مؤشرات على وجود صلات ثقافية مع مجتمعات أخرى في مناطق الشرق الأوسط.

ورجح الباحثون أن تكون الجماعات نفسها أنتجت النقوش والأدوات معاً، لكنهم دعوا إلى الحذر في التفسير بسبب غياب الدليل القاطع على الربط المباشر بين الطرفين.

أكدت الدراسة أن صعوبة الربط المباشر بين صانعي الأدوات الحجرية ومنتجي النقوش لا تقلل من أهمية النتائج، بل على العكس تسلط الضوء على مرونة الإنسان وقدرته على التكيف مع مناخ متغير وبيئة قاسية.

وأوضحت أن الشواهد الجديدة تقدم تصوراً مختلفاً لشمال الجزيرة العربية، حيث لم يكن مجرد صحراء مقفرة كما كان يُعتقد، بل بيئة شهدت نشاطاً إنسانياً وإبداعاً فنياً حتى في أوقات التغيرات المناخية الكبرى.

الكشف عن نقوش أثرية سعودية عمرها 12 ألف عام
 اكتشاف نقوش أثرية عمرها 12 ألف سنة في السعودية - Sahout Rock Art and Archaeology Project

وأشارت الدراسة إلى أن إنتاج الفن الصخري بهذا الحجم الضخم يتطلب قدراً من التنظيم الاجتماعي والقدرة على تخصيص وقت وجهد لمهام غير مرتبطة مباشرة بالبحث عن الطعام أو البقاء، موضحة أن هذا الإنتاج الفني يعكس وجود مجتمع لديه حد أدنى من الاستقرار والقدرة على إدارة موارده، وهو ما كان ممكناً بفضل توفر المياه الموسمية في تلك الحقبة.

ولفتت الدراسة إلى أن البيئة الطبيعية للمنطقة لعبت دوراً حاسماً في تحديد فرص الاستيطان البشري، إذ أظهر تحليل الرواسب أن البحيرات الموسمية لم تكن دائمة لكنها تكررت بشكل كافٍ لدعم الحياة البشرية والحيوانية.

وأكد الباحثون أن هذه الظروف البيئية جعلت من صحراء النفود منطقة أكثر جاذبية مما كان يُعتقد سابقاً.

أثبتت النقوش الصخرية المكتشفة أن سكان تلك الحقبة لم يكتفوا بالتكيف البيولوجي مع البيئة، بل عبروا عن وجودهم برموز بصرية حملت معنى يتجاوز الجانب العملي.

وقال الباحثون إن النقوش بالحجم الطبيعي خصوصاً للجمال تمثل إنجازاً فنياً مدهشاً يعكس أهمية هذه الحيوانات في حياة السكان، سواء في الصيد أو التنقل أو الرمز الثقافي.

أوضحت الدراسة أن العثور على أكثر من 500 أداة حجرية إلى جانب النقوش يشير إلى أن النشاط البشري لم يكن عابراً أو مؤقتاً، بل استمر لفترة كافية ليترك وراءه آثاراً مادية متعددة الأوجه.

وربط الباحثون بعض خصائص الأدوات المكتشفة بثقافات معروفة في الشرق الأوسط خلال الفترة نفسها، ما قد يدل على وجود تواصل أو تبادل للمعرفة عبر مناطق واسعة.

الكشف عن نقوش سعودية عمرها 12 ألف عام
 اكتشاف نقوش أثرية عمرها 12 ألف سنة في السعودية - Sahout Rock Art and Archaeology Project

قدمت الدراسة دليلاً جديداً على أن الإنسان كان قادراً على التكيف مع البيئات الأكثر تحدياً عبر الاستفادة من الموارد المتاحة مثل المياه الموسمية والحيوانات البرية، وأكدت أن الفجوة التي كانت موجودة في السجل الأثري لشمال الجزيرة العربية أصبحت الآن أكثر وضوحاً بفضل هذه الاكتشافات.

وأشارت إلى أن هذه النتائج ليست مجرد تفاصيل أثرية، بل تحمل دلالات أوسع لفهم كيفية انتشار البشر وتكيفهم مع التغيرات المناخية الكبرى، موضحة أن وجود مجتمع قادر على إنتاج فن ضخم وأدوات معقدة في بيئة جافة يعتبر دليلاً على قدرة الإنسان الدائمة على إعادة تشكيل حياته بما يتناسب مع الظروف.

أعادت النتائج صياغة تصور الباحثين عن تاريخ شمال الجزيرة العربية، مؤكدة أنها لم تكن أرضاً فارغة بل مسرحاً لنشاط بشري متنوع ترك بصماته في الصخور وفي الأدوات التي استخدمها، وأكدت أن هذا الاكتشاف يفتح الباب لمزيد من الدراسات لفهم طبيعة الحياة في المنطقة خلال فترة كانت تُعتبر مجهولة إلى حد بعيد.

الكشف عن نقوش سعودية عمرها 12 ألف عام
 اكتشاف نقوش أثرية عمرها 12 ألف سنة في السعودية - Sahout Rock Art and Archaeology Project

ولا تزال صحراء النفود الكبير، بمساحتها التي تبلغ 65 ألف كيلومتر مربع وارتفاع كثبانها الذي يصل إلى 150 مترًا، بيئة غنية بالاكتشافات الأثرية، إذ سبق العثور فيها على بقايا فيلة عملاقة وخيول وغزلان منقرضة، إضافة إلى أقدم المصائد الحجرية في العالم التي يزيد عمرها على 7 آلاف سنة، ما يجعلها من أهم المناطق التي تسلط الضوء على أن الجزيرة العربية لم تكن مجرد ممر، بل موطنًا للحياة والنشاط الإنساني منذ عصور سحيقة.

تصنيفات

قصص قد تهمك