توصلت دراسة حديثة إلى أن نبات مصيدة فينوس، المعروف بقدرته الفريدة على اصطياد الحشرات، يمتلك قناة أيونية خاصة تدعى DmMSL10 تقع عند قاعدة الشعيرات الحسية وتعمل كمستشعر رئيسي للمس.
وأفادت الدراسة التي أجراها باحثون بجامعة سايتاما، بالتعاون مع معهد البيولوجيا الأساسية في اليابان، ونشرتها دورية Nature Communications، بأن هذه القناة تمثل الآلية التي تمكّن النبات من رصد حتى أضعف اللمسات وتحويلها إلى إشارات كهربائية وكيميائية تنتشر في الورقة لتؤدي في النهاية إلى انغلاق المصيدة.
ونبات مصيدة فينوس من أكثر النباتات غرابة وإثارة في العالم، فهو نبات لاحم يعيش في المستنقعات الفقيرة بالعناصر الغذائية في أميركا الشمالية، ويعوض هذا النقص من خلال اصطياد الحشرات الصغيرة.
وتمتلك أوراقه المعدلة شعيرات حسية دقيقة، وعندما تلمس الفريسة هذه الشعيرات مرتين متتاليتين خلال ثوانٍ قليلة، تنغلق المصيدة بسرعة خاطفة لتحتجز الحشرة، ثم تفرز إنزيمات هاضمة تذيب جسدها وتمنح النبات العناصر التي يحتاجها للبقاء.
أوضح الباحثون أن النباتات تفتقر إلى الأعصاب الموجودة في الحيوانات، لكنها رغم ذلك قادرة على إدراك اللمس والاستجابة له بآليات معقدة، مشيرين إلى أن مصيدة فينوس تعتمد على شعيرات حسية دقيقة للغاية تعمل كأجهزة استشعار ميكانيكية، وعندما يجري لمسها مرتين متتاليتين خلال فترة قصيرة فإنها تطلق سلسلة من الإشارات تؤدي إلى انطباق المصيدة على الفريسة.
وأشار فريق البحث إلى أن هوية المستشعر الجزيئي وراء هذه القدرة بقيت غامضة لعقود، حتى تمكنوا من تحديد DmMSL10 باعتباره المفتاح الرئيس لهذه العملية.
وأظهرت الدراسة كيف أن ثني الشعيرة الحسية برفق يؤدي إلى ارتفاع موضعي في مستويات الكالسيوم داخل الخلية وإلى تغير كهربائي طفيف يعرف بجهد المستقبل، وهو تغير محدود لا يتجاوز منطقة الشعيرة.
وأوضح الباحثون أن الانحناء الأقوى يولد جهدًا أكبر، وعندما يتخطى هذا الجهد عتبة محددة فإنه يشبه تماماً الضغط على مفتاح كهربائي إذ ينطلق جهد فعل قوي مصحوب بموجة كالسيوم واسعة الانتشار، لافتين إلى أن هذه الإشارات لا تبقى محصورة في الشعيرة بل تنتقل بسرعة من قاعدتها إلى إلى أن تصل الورقة، ما يؤدي إلى استجابة كاملة للمصيدة.
أفاد الباحثون أن هذه الآلية تشبه في مبدئها ما يحدث في الأجهزة العصبية للحيوانات، إذ تؤدي المحفزات الميكانيكية إلى توليد جهود فعل عند تجاوز عتبة محددة، مؤكدين أن التشابه في المنطق الأساسي للاستجابة، رغم الفروق الكبيرة بين النباتات والحيوانات، يعكس كيف طورت الكائنات الحية استراتيجيات متوازية للتعامل مع التحديات البيئية.
استخدم فريق البحث تقنيات متطورة لتتبع حركة الكالسيوم في خلايا المصيدة، تمثلت في هندسة نباتات معدلة وراثيًا تعبر عن بروتين فلوري كاشف للكالسيوم يدعى GCaMP6f، واعتمدوا على التصوير المجهري ثنائي الفوتون إلى جانب التسجيلات الكهربائية داخل الخلايا لمراقبة التحولات لحظة بلحظة.
وأكدوا الباحثون أن هذه المقاربة سمحت لهم لأول مرة برؤية كيفية تحوّل المحفز الفيزيائي إلى إشارة بيولوجية في نبات حي.
وأجرى العلماء تجارب إضافية على نباتات معطلة جينيًا لا تمتلك قناة DmMSL10، وأظهرت النتائج أن النباتات غير قادرة على إنتاج جهود فعل أو موجات كالسيوم واسعة المدى عند لمس شعيراتها.
وسجلوا أن اللمسات التي كانت تؤدي في النباتات الطبيعية إلى إطلاق إشارة كاملة، لم تحرك في النباتات المعدلة سوى تغييرات محلية ضعيفة بقيت دون العتبة اللازمة لإحداث استجابة، واستنتجوا أن قناة DmMSL10 تعمل كجهاز تضخيم بيولوجي يعزز الإشارة الكهربائية الأولى حتى تصبح قوية بما يكفي لتوليد جهد الفعل.
اختبر فريق البحث النتائج في ظروف تحاكي البيئة الطبيعية، فأنشأوا نظاماً بيئياً مصغراً سمح للنمل بالتحرك بحرية على المصائد، وسجلوا أنه في النباتات الطبيعية أدت لمسات النمل إلى إطلاق موجات كالسيوم اجتاحت الورقة تبعها مباشرة إغلاق المصيدة على الفريسة.
أما في النباتات المعطلة، فقد كانت هذه الموجات أقل تكراراً، وانخفضت بالتالي معدلات الإغلاق بشكل ملحوظ، ما أكد أن DmMSL10 ضروري لتحقيق الكفاءة في الصيد.
وقال المؤلف المشارك في الدراسة، هيراكو سودا، الأستاذ المساعد بجامعة سايتاما، إن النتائج أظهرت أن DmMSL10 يمثل المستشعر الميكانيكي الحاسم الذي يمكن الشعيرات من رصد حتى اللمسات الخفيفة جدًا.
وأوضح أن فهم هذه الآلية لا يقتصر على مصيدة فينوس وحدها، بل يفتح نافذة على كيفية إدراك النباتات للمس بوجه عام، مشيراً إلى أن الكثير من الاستجابات النباتية الأخرى تنشأ أيضاً من الإحساس الميكانيكي، مرجحاً أن تكون الآليات الجزيئية الأساسية مشتركة على نطاق واسع في عالم النبات.
ويوضح الاكتشاف بجلاء كيف يمكن للكائنات التي تفتقر إلى جهاز عصبي تقليدي أن تطور أنظمة إشارات متقدمة لأداء وظائف بالغة الدقة.
وأشار سودا إلى أن هذا الفهم ربما يستخدم مستقبلاً في تطوير تكنولوجيا حيوية مستوحاة من النباتات، سواء في مجال أجهزة الاستشعار أو في الزراعة الذكية.
وأكد الباحثون أن الدراسة تمثل إنجازاً في فهم التفاعل بين الإشارات الكهربائية والكيميائية داخل النباتات، إذ توفر لأول مرة وصفًا مفصلاً لآلية تعمل مثل مفتاح كهربائي حيوي يحدد ما إذا كانت الاستجابة ستبقى محلية أم ستنتشر لتشمل الورقة بأكملها.
وأوضحوا أن هذه النتائج تسلط الضوء على الأهمية التطورية لمثل هذه الآليات التي منحت النباتات قدرة على التكيف مع بيئاتها بطريقة لا تقل تعقيدًا عن الحيوانات.