الاكتشاف خطوة نحو تصميم أنظمة دعم حياة أكثر تطوراً في المهمات طويلة الأمد

أول تجربة خارج المعمل.. البكتيريا قادرة على الحياة في رحلات الفضاء

صورة صممتها الشرق بالذكاء الاصطناعي تعبر عن قدرة البكتيريا المفيدة للإنسان على البقاء حية حتى في رحلات الفضاء رغم الظروف العنيفة التي ترافق هذه الرحلات - الشرق
صورة صممتها الشرق بالذكاء الاصطناعي تعبر عن قدرة البكتيريا المفيدة للإنسان على البقاء حية حتى في رحلات الفضاء رغم الظروف العنيفة التي ترافق هذه الرحلات - الشرق
القاهرة -محمد منصور

توصلت دراسة حديثة إلى أن البكتيريا المفيدة للإنسان قادرة على البقاء على قيد الحياة حتى في رحلات الفضاء رغم الظروف العنيفة التي ترافق هذه الرحلات، في أول تجربة من نوعها على الإطلاق تجرى خارج المختبر في ظروف إطلاق حقيقية. 

وأفادت الدراسة، التي أجراها باحثون بجامعة "آر إم آي تي" في أستراليا، بالتعاون مع شركات تكنولوجية في مجال الفضاء، بأن الأبواغ الخاصة ببكتيريا Bacillus subtilis – وهي من الأنواع الضرورية لصحة الإنسان – نجت من تسارع الإطلاق، ومن مرحلة انعدام الوزن، ومن الارتطام العنيف عند عودة الصاروخ إلى الأرض، دون أن تفقد قدرتها على النمو أو يتأثر تركيبها البنيوي.

والأبواغ هي خلايا تكاثرية قادرة على النمو لتكون فردًا جديدًا دون الحاجة إلى الاندماج مع خلية تكاثرية أخرى

وأوضحت الدراسة التي نشرتها دورية npj Microgravity، أن هذه النتيجة تمثل إنجازاً علمياً غير مسبوق، لأنها تثبت للمرة الأولى أن بعض الكائنات الدقيقة التي يعتمد عليها جسم الإنسان في المناعة والهضم والدورة الدموية يمكنها تحمل بيئة الفضاء القاسية.

ويفتح هذا الاكتشاف الباب أمام تصميم أنظمة دعم حياة أكثر تطوراً في المهمات طويلة الأمد، مثل رحلات المريخ التي تخطط لها وكالات الفضاء خلال العقود المقبلة.

أوضحت الدراسة أن بقاء مثل هذه البكتيريا على قيد الحياة خلال الإطلاق والعودة يعني أن البشر يمكنهم الاحتفاظ بجزء من بيئتهم الميكروبية الصحية في رحلات الفضاء البعيدة، ما يعزز فرص بناء مستوطنات بشرية مستقرة خارج الأرض.

وأكدت الدراسة أن فقدان هذه البكتيريا أو تعرضها للتلف خلال الرحلات الطويلة كان يجعل الحفاظ على صحة الإنسان أمراً بالغ الصعوبة.

أجريت التجربة باستخدام صاروخ تجريبي من نوع “M15 59” أطلقته وكالة الفضاء السويدية ضمن برنامج “Suborbital Express 3”، وهو صاروخ مخصص للأبحاث العلمية القصيرة المدى، وخضع الصاروخ أثناء الإطلاق لتسارع يعادل 13 ضعف قوة الجاذبية الأرضية خلال مرحلة الاشتعال الثانية، ثم دخل في حالة انعدام وزن استمرت أكثر من 6 دقائق عند ارتفاع يقارب 260 كيلومتراً فوق سطح الأرض، قبل أن يعود بسرعة هائلة ليواجه تباطؤا تصل قوته إلى 30 ضعف الجاذبية الأرضية أثناء دخوله الغلاف الجوي، مع دوران بلغ نحو 220 لفة في الثانية.

قدرة مذهلة

أكد الباحثون أن الأبواغ البكتيرية أظهرت بعد الرحلة ثباتاً كاملاً في قدرتها على النمو، وأنها لم تتعرض لأي تشوهات في بنيتها أو أغشيتها الخلوية، مشيرين إلى أن هذا الثبات في مواجهة تغيرات الجاذبية السريعة والحرارة العالية والتسارع العنيف يدل على قدرة مذهلة لهذه الكائنات على التكيف مع البيئات المتطرفة.

وقالت الباحثة المشاركة في الدراسة، إلينا إيفانوفا، إن التجربة وسعت فهم العلماء لطبيعة استجابة الكائنات الحية لظروف الفضاء الفريدة.

وأضافت أن "الأبحاث أظهرت أن نوعاً مهماً من البكتيريا المفيدة للإنسان يمكنه مقاومة التغيرات الحادة في الجاذبية والتسارع والتباطؤ، وهو ما يعمق معرفتنا بتأثير رحلات الفضاء الطويلة على الميكروبات التي تعيش في أجسامنا وتحافظ على صحتنا".

وأشارت إيفانوفا إلى أن هذه النتائج ستساعد العلماء في تصميم أنظمة دعم حياة أكثر ذكاء لرواد الفضاء، بما يضمن الحفاظ على توازنهم الميكروبي وصحتهم خلال المهام الطويلة.

وأضافت أن البيانات الناتجة عن التجربة يمكن أن تتيح لشركات الأدوية والباحثين تطوير تجارب مبتكرة في علوم الحياة داخل بيئة انعدام الجاذبية، ربما تقود لاحقاً إلى تحسينات في مجالات العلاج والدواء على الأرض أيضاً.

وأوضحت الباحثة أن بكتيريا B. subtilis تعد نموذجاً مثالياً لهذه الدراسة لأنها أكثر مقاومة من غيرها من الميكروبات، وهي تساعد على دعم جهاز المناعة وتعزيز صحة الأمعاء وتنشيط الدورة الدموية، لافتة إلى أن اختبار قدرتها على الصمود تحت ظروف الإطلاق الصاروخي يضع معياراً علمياً يمكن الاعتماد عليه لدراسة أنواع أخرى أكثر حساسية من الكائنات الدقيقة.

صحة ميكروبية

أشارت إيفانوفا إلى أن البشر عاشوا على متن محطات الفضاء لفترات قصيرة منذ السبعينيات، لكن بناء مستعمرة بشرية دائمة على المريخ يتطلب فهما أعمق لكيفية استمرار الأنظمة البيولوجية الدقيقة داخل أجسامنا في بيئة مختلفة جذرياً عن الأرض.

وقالت إن بقاء هذه البكتيريا يعني إمكانية الحفاظ على "صحة ميكروبية" للإنسان حتى في أعماق الفضاء، وهو ما يعد خطوة حاسمة نحو تحقيق الاكتفاء البيولوجي خارج الأرض.

وأكدت الباحثة أن فوائد الدراسة لا تقتصر على رحلات الفضاء فقط، بل تمتد إلى تطبيقات أرضية متعددة، إذ يمكن أن تقود إلى ابتكارات في التكنولوجيا الحيوية تسمح باستخدام الكائنات الدقيقة في بيئات قاسية على الأرض، مثل محطات الطاقة الحرارية العميقة أو مناطق التعدين أو محيطات الكواكب الاصطناعية.

وأوضحت أن فهم حدود قدرة الميكروبات على البقاء يتيح تطوير علاجات مضادة للبكتيريا بآليات جديدة، وربما يفتح طرقاً لمواجهة مقاومة المضادات الحيوية التي تُعد إحدى أكبر تحديات الطب الحديث.

وأشارت إيفانوفا إلى أن النتائج وفرت أساساً علمياً يمكن الاعتماد عليه لتوجيه البحوث المستقبلية في هذا المجال، وقالت: "قد يستغرق الأمر وقتا قبل أن نرى تطبيقات عملية، لكننا اليوم نمتلك قاعدة بيانات أولية نستطيع البناء عليها لتطوير أفكار جديدة في الطب الحيوي والفضاء على السواء".

أكدت الباحثة المشاركة في الدراسة، الدكتورة جيل آيلز، المتخصصة في علوم الفضاء بجامعة "آر إم آي تي" أن فهم آليات بقاء الكائنات الدقيقة في بيئة الفضاء يعد أمراً محورياً لمستقبل الرحلات الفضائية.

وقالت: "هذا البحث يعزز فهمنا لكيفية قدرة الحياة على التكيف مع الظروف القاسية، ويمنحنا رؤى قيمة للمهمات المستقبلية إلى المريخ وما بعده".

وأضافت آيلز أن ضمان بقاء الميكروبات المفيدة على قيد الحياة رغم التعرض لتسارع شديد وانعدام وزن مؤقت وتباطؤ عنيف عند العودة، سيساعد العلماء على تطوير أنظمة دعم حياة أكثر استدامة لرواد الفضاء، ويمنحهم القدرة على البقاء بصحة جيدة لفترات طويلة بعيداً عن الأرض.

وبينت أن المعرفة الأوسع بقدرة الكائنات الدقيقة على التحمل في البيئات القاسية يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للبحث عن الحياة خارج كوكب الأرض، إذ قد تساعد على تطوير أدوات وتقنيات أكثر دقة لرصد الميكروبات التي يمكن أن تعيش في بيئات كان الاعتقاد سابقاً أنها غير صالحة للحياة.

مرونة ميكروبية

أوضحت آيلز أن "فهم سلوك الميكروبات في الفضاء لا يخدم فقط المهمات المستقبلية إلى الكواكب الأخرى، بل يسهم أيضاً في وضع تصور علمي أعمق لأصل الحياة نفسها، وكيف يمكن أن تكون قد وجدت أو انتقلت بين الكواكب عبر ملايين السنين.

وأكدت الدراسة أن البكتيريا لم تختبر داخل المعمل فحسب، بل جرى نقلها من ملبورن إلى السويد وجرى تجهيز العينة داخل حاوية دقيقة ثلاثية الأبعاد صُممت خصيصاً لتحمل الضغط والحرارة أثناء الإطلاق، وطُوّرت بالتعاون بين الشركة والجامعة.

وأوضحت أن مرحلة الإعداد شملت فحص العينات بالمجاهر الإلكترونية عالية الدقة في منشأة الميكروسكوب والتحليل الدقيق التابعة للجامعة، وهي منشأة تضم أحدث تقنيات المجهر الإلكتروني والتحليل السطحي والتحليل الميكروي، بما أتاح للباحثين متابعة التغيرات الدقيقة في بنية البكتيريا قبل وبعد الرحلة.

وأكد فريق الدراسة أن التجربة برهنت على أهمية التعاون بين الجامعات والصناعة في مجال أبحاث الفضاء الحيوية، إذ لم يكن بالإمكان إجراء التجربة في ظروف واقعية دون الدعم التقني للشركات المتخصصة في أنظمة الإطلاق وحوامل العينات.

أوضحت "آيلز" أن المشروع يمثل خطوة تمهيدية لمزيد من التجارب على كائنات مختلفة، وأعلنت أن الفريق يسعى حاليا للحصول على تمويل إضافي لتوسيع نطاق الأبحاث الحيوية في بيئة انعدام الجاذبية، لافتة إلى أن الهدف هو استكشاف كيفية تحسين طرق إيصال الأدوية واكتشاف مركبات كيميائية جديدة من خلال دراسة سلوك المواد والكائنات في الفضاء.

وبينت أن الاهتمام العلمي العالمي يتزايد بدراسة العلاقة بين الحياة والفضاء، ليس فقط من أجل رحلات البشر، بل لفهم كيف يمكن للحياة أن تنشأ وتستمر في أماكن أخرى من الكون، معتبرة أن النتائج التي توصل إليها الفريق تمثل خطوة نحو بناء تصور شامل عن قدرة الميكروبات على مقاومة القوى الفيزيائية التي كانت تُعد في السابق مدمرة لأي شكل من أشكال الحياة.

وأشارت الدراسة إلى أن النجاة من قوى تصل إلى 30 ضعف الجاذبية، ومن حرارة الاحتكاك العنيفة أثناء العودة عبر الغلاف الجوي، ومن التغير المفاجئ في الضغط، تؤكد أن الحياة – في أبسط صورها – تمتلك مرونة تفوق ما كان يُعتقد سابقاً.

وأكدت أن هذه المرونة لا تفتح فقط آفاقا لاستكشاف الحياة في الفضاء، بل تعزز كذلك فهم العلماء لكيفية الحفاظ على توازن الأنظمة البيولوجية داخل أجسام البشر في البيئات الاصطناعية أو المعزولة، مثل المحطات الفضائية أو الغواصات أو المستشفيات المعقمة.

وأوضحت الدراسة أن التجربة تمثل خطوة تأسيسية لأبحاث مستقبلية تسعى إلى دراسة كائنات أكثر تنوعاً، وربما تطوير مختبرات صغيرة قابلة للإطلاق إلى الفضاء، يمكنها إجراء تجارب بيولوجية في الوقت الحقيقي.

وأشارت إلى أن هذه الأبحاث ستقود مستقبلاً إلى تحسين تصميم الأدوية واللقاحات، وفهم أفضل لتفاعل الخلايا مع تغيرات الجاذبية، ما يربط بين الطب الحيوي والفيزياء الفضائية في إطار علمي واحد.

تصنيفات

قصص قد تهمك