العالم الأمريكي أظهر أن خللاً بسيطاً في جين واحد يمكن أن يُحدث سلسلة من الكوارث المناعية

رامزدل.. النظر إلى الوجه الآخر للمناعة وجائزة نوبل

فريد رامزدل فاز بجائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب لعام 2025. - REUTERS
فريد رامزدل فاز بجائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب لعام 2025. - REUTERS
القاهرة -محمد منصور

فريدريك رامزدل، أو كما يعرف في الأوساط العلمية باسم فريد رامزدل، يعد واحدًا من أبرز علماء المناعة في العالم المعاصر، وهو أحد الوجوه التي غيرت فهمنا لآلية ضبط جهاز المناعة البشري جذرياً.

ولد رامزدل في الرابع من ديسمبر عام 1960 بمدينة إلمهورست بولاية إلينوي الأميركية، وبدأ مسيرته العلمية بدراسة الأحياء في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو، قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه في علم المناعة من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس عام 1987، وهو المكان الذي شكّل بدايات رؤيته البحثية حول كيفية توازن الجهاز المناعي بين الدفاع الذاتي ومنع التدمير الذاتي.

بعد تخرجه، بدأ رامزدل مرحلة ما بعد الدكتوراه في المعاهد الوطنية للصحة بالولايات المتحدة، حيث انخرط في أبحاث دقيقة حول الأمراض المناعية، ثم انتقل لاحقًا إلى القطاع الصناعي الحيوي في سياتل، حيث تولى مناصب قيادية في شركات التكنولوجيا الحيوية مثل "داروين موليكيولار" و"سيلتك" و"زيموجينيتيكس" و"نوفو نورديسك"، ثم أصبح كبير العلماء في شركة "سونوما بيوثيرابيوتكس" في سان فرانسيسكو، وهي شركة متخصصة في تطوير علاجات خلوية للأمراض المناعية والسرطان.

ومنذ عام 2016 يشغل رامزدل منصب مدير الأبحاث في “معهد باركر لأبحاث العلاج المناعي للسرطان”، وهو أحد أهم المراكز البحثية في العالم في مجال المناعة العلاجية.

بوابة إلى علاج الأمراض المناعية

لكن الحدث العلمي الذي وضع رامزدل على خريطة التاريخ الطبي جاء عندما كان يدرس حالة غريبة في فئران عُرفت باسم "فئران سكرفي"، التي كانت تعاني اضطرابًا مناعيًا حادًا يؤدي إلى تدمير أنسجتها الذاتية. 

وخلال هذه الدراسات اكتشف رامزدل مع فريقه جينًا محددًا أطلق عليه اسم “FOXP3”، وهو الجين الذي اتضح لاحقًا أنه يعتبر المفتاح الأساسي في تكوين ما يعرف بـ"الخلايا التائية التنظيمية"، وهي المسؤولة عن كبح الاستجابات المناعية الزائدة وحماية الجسم من التدمير الذاتي.

أظهر رامزدل أن خللًا بسيطًا في هذا الجين يمكن أن يُحدث سلسلة من الكوارث المناعية، حيث يبدأ الجهاز المناعي في مهاجمة أنسجة الجسم السليمة كما لو كانت أجسامًا غريبة.

وساعد هذا الاكتشاف في تفسير أمراض نادرة مثل متلازمة “IPEX” عند الأطفال، وهي حالة قاتلة تنشأ بسبب طفرات في الجين FOXP3، وتؤدي إلى فشل كامل في ضبط الجهاز المناعي.

وبفضل هذه النتائج، تمكّن العلماء من بناء نموذج شامل لفهم كيفية عمل التوازن المناعي في الجسم، وهو ما يُعرف اليوم بـ"التحكم في الجهاز المناعي الطرفي".

ولا تقتصر أهمية ما فعله رامزدل على المجال النظري. فنتائج أبحاثه كانت الأساس الذي انطلقت منه محاولات تطوير علاجات مناعية لأمراض مثل التصلب المتعدد، والتهاب المفاصل الروماتويدي، والسكري من النوع الأول، بل وحتى لتقوية فرص نجاح عمليات زراعة الأعضاء عبر منع رفض الجهاز المناعي للأنسجة المزروعة.

كما فتحت هذه المعرفة الباب أمام تصميم علاجات مناعية جديدة للسرطان، تعتمد على إعادة توجيه الخلايا التائية بحيث تهاجم الورم دون الإضرار بالأنسجة السليمة.

اقرأ أيضاً

دونالد ترمب.. "هوس" بجائزة نوبل للسلام

يسيطر هاجس الفوز بجائزة نوبل للسلام على الرئيس الأميركي دونالد ترمب، محولا سياسته الخارجية إلى سباق شخصي.

حصل رامزدل في عام 2017 على “جائزة كرافورد” بالاشتراك مع الياباني شيمون ساكاجوتشي والباحث الروسي ألكسندر رودنسكي تقديرًا لاكتشافهم الخلايا التائية التنظيمية ودورها في السيطرة على الالتهابات المناعية الضارة، وهي الجائزة التي اعتُبرت في حينها مقدمة طبيعية لتتويجهم لاحقًا بأرفع جائزة في العالم العلمي.

وفي عام 2025، تُوِّج هذا المسار الطويل بفوزه بجائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء، بالمشاركة مع ماري برانكو وشيمون ساكاجوتشي، عن اكتشافاتهم في مجال "التحكم في الجهاز المناعي الطرفي" — أي قدرة الجهاز المناعي على التمييز بين ما يجب محاربته وما يجب التسامح معه.

جامعة علماء نوبل

وفي رسالة تهنئة رسمية وجهتها جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس إلى المجتمع الأكاديمي، عبر رئيس الجامعة خوليو فرنْك عن فخر المؤسسة بتتويج أحد خريجيها بهذه الجائزة المرموقة، مشيرًا إلى أن إنجاز رامزدل يُجسد روح الاكتشاف والتقدم العلمي التي تتميز بها الجامعة.

وأوضح البيان أن أبحاثه حول الجين FOXP3 كانت نقطة تحول في فهمنا للذات المناعية، إذ بيّنت كيف يمكن لتغير بسيط في تسلسل جيني واحد أن يحوّل الجهاز المناعي من درعٍ واقٍ إلى سيفٍ يرتد على الجسد نفسه. كما أضاف أن هذا الفهم العميق جعل من الممكن تصميم علاجات تُعيد تدريب الجهاز المناعي بدلاً من كبحه عشوائيًا، وهو ما انعكس في تحسين معدلات نجاح زراعة الأعضاء وتطوير علاجات أكثر أمانًا للأمراض المزمنة.

ورامزدل هو تاسع خريج من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس يفوز بجائزة نوبل، لينضم إلى أسماء لامعة مثل رالف بانش (نوبل السلام 1950) وغلين سيبورغ (الكيمياء 1951) وويليام شارب (الاقتصاد 1990) وإلينور أوستروم (الاقتصاد 2009) وراندي شِكمان (الطب 2013) وأردِم باتابوتيان (الطب 2021).

وعلق نائب رئيس الجامعة لشؤون العلوم الطبية، جون مازّيوتا، بأن "هذا الفوز لا يكرّم فقط مسيرة فريد، بل يؤكد أهمية الأبحاث الأساسية التي تبدو في ظاهرها بعيدة عن التطبيق، لكنها تُمهّد لاحقًا لاختراقات علاجية تُنقذ حياة البشر".

الطب المناعي وإعادة التوازن

وفي مسيرته، ظل رامزدل مثالًا على العالم الذي يوازن بين الحس الأكاديمي والقدرة التطبيقية. فهو لم ينعزل في مختبره، بل نقل اكتشافاته إلى ساحات الصناعة الدوائية والعلاجية، مؤمنًا بأن العلم لا يكتمل إلا حين يلامس حياة الناس.

لذلك، كثيرًا ما يُذكر اسمه في الأوساط الطبية مع رواد المناعة الذين أسسوا لعصر جديد من الطب المناعي القائم على "إعادة التوازن" بدلاً من "القمع الكامل" لجهاز المناعة.

وبينما كان كثير من الباحثين يركّزون على تنشيط الجهاز المناعي لمحاربة السرطان، كان رامزدل ينظر إلى الوجه الآخر، كيف نحمي الجسم من نفسه؟ هذا السؤال البسيط في ظاهره كان مفتاحًا لفهم عميق لما يجعلنا نحيا في توازن مناعي دقيق، يحارب الأعداء لكنه لا يدمر الذات.

ومن هذه الرؤية، تفرعت عشرات المشاريع البحثية التي باتت اليوم تُثمر في علاج أمراض كان يُعتقد يومًا أنها مستعصية.

ويعرف فريد رامزدل بين زملائه بأسلوبه العلمي الدقيق وقدرته على الربط بين الاكتشافات الأساسية والتطبيقات السريرية، إذ جمع بين روح الباحث الأكاديمي وخبرة القائد في قطاع التكنولوجيا الحيوية.

ويؤمن بأن الفهم الجيني العميق هو المفتاح لتطوير علاجات أكثر دقة لأمراض المناعة الذاتية والسرطان، إذ لطالما أكد "التقدم في الطب لا يتحقق إلا من خلال التعاون بين العقول المختلفة والمجالات العلمية المتنوعة"، وهي الفلسفة التي طبقها طوال مسيرته الممتدة من مختبرات المناعة إلى قيادة واحد من أهم معاهد أبحاث العلاج المناعي في العالم.

تصنيفات

قصص قد تهمك