يعتبر ابتكار "الأطر العضوية الفلزية" (Metal Organic Frameworks) على يد عمر ياغي، وريتشارد روبسون، وسوسومو كيتاجاوا، أحد أكثر الاكتشافات الكيميائية ثورية في العقود الأخيرة، ما جعل فوز الباحثين الثلاثة بجائزة نوبل للكيمياء لعام 2025، أكثر من مستحق.
وأشاد هاينر لينكه، رئيس لجنة نوبل للكيمياء، بالعلماء الثلاثة بعدما "وجدوا طرقاً لصنع مواد جديدة كلياً، تحتوي على تجاويف كبيرة"، وشبّه لينكه وظيفة هذه المواد بحقيبة هيرميون جرينجر في سلسلة "هاري بوتر"، التي تبدو صغيرة من الخارج لكنها واسعة من الداخل، وأضاف: "يمكن لهذه المواد تخزين كميات ضخمة من الغاز في حجم صغير جداً".
و"الأطر الفلزية العضوية" هي مواد بلّورية تتشكل من رابطين، الأول عقد معدنية (Metal Nodes)، وهي عبارة عن ذرات أو مجموعات من ذرات فلزّية (مثل الزنك، أو النحاس، أو الحديد)، أما الثاني فهي روابط عضوية (Organic Linkers)، وهي جزيئات عضوية تعمل كجسور تربط بين هذه العقد.
وعندما تتحد هذه المكوّنات فإنها تنشئ بنية ثلاثية الأبعاد فيها فراغات منتظمة وكبيرة جداً على المستوى النانوي، أشبه بإسفنجة صلبة ذات ثقوب دقيقة جداً.
يشبّه بعض العلماء "الأطر الفلزية العضوية" كشقق فسيحة مصممة خصيصاً للجزيئات، ففي مختبرات العالم اليوم، صارت هذه المواد أشبه بمبان هندسية متناهية الدقة تشيّد في عالم مجهري لا تراه العين.
وبعض هذه الجزيئات يستضيف جزيئات الماء، وبعضها الآخر يصمم لالتقاط الغازات السامة، أو لإبطاء نضوج الفاكهة عبر احتجاز غاز الإيثيلين الذي يجعلها تنضج بسرعة، وهناك من يستخدمها لنقل الأدوية داخل الجسم، أو لاحتجاز إنزيمات تحلل بقايا المضادات الحيوية التي تلوّث البيئة.
هذه الاكتشافات لم تأت دفعة واحدة، بل كانت ثمرة رحلة طويلة من الفضول والإصرار والتفكير خارج الصندوق، بدأت منذ 50 عاماً تقريباً، ففي عام 1974، كان ريتشارد روبسون، أستاذ الكيمياء في جامعة ملبورن الأسترالية، يحضر درساً تقليدياً لطلابه في الكيمياء البنائية، مستخدماً كرات خشبية تمثل الذرات وعصياً تمثل الروابط بينها، ولم يكن يدرك حينها أن هذا النموذج البسيط سيفتح أمامه أبواب فكرة ستُعيد تشكيل الكيمياء ذاتها.
فكرة "الأطر العضوية الفلزية"
حين طلب روبسون من ورشة الجامعة أن تحفر ثقوباً في الكرات الخشبية لتناسب عدد الروابط التي يمكن لكل نوع من الذرات تكوينها، لاحظ شيئاً لافتاً.
فقد أدرك روبسون أن موقع كل ثقب يحتوي في ذاته على "معلومة بنيوية" تحدد كيف ستتصل الذرات ببعضها، تماماً كما تحدد ثقوب المفاتيح طريقة إدخالها في الأقفال.
ومن تلك الملاحظة البسيطة انطلقت شرارة سؤال جديد: ماذا لو استخدمت هذه المبادئ البنائية نفسها، لكن بدلاً من الذرات المفردة، ربط جزيئات كاملة لتكوين هياكل جديدة غير مسبوقة؟ هل يمكن أن يصمم مواد ذات خصائص فريدة بمجرد ترتيب مكوناتها بطريقة ذكية؟
مرت أعوام طويلة قبل أن يجد روبسون الفرصة ليحول فكرته إلى تجربة حقيقية، ففي أواخر الثمانينيات، قرر أن يخوض المحاولة، واستلهم هذه المرة فكرته من شكل الألماس، المعدن الذي تتصل فيه ذرات الكربون ببعضها في بنية رباعية الاتجاهات شديدة التماسك.
واستبدل الكربون بأيونات النحاس الموجبة، لأنها تميل أيضاً إلى الارتباط بأربع جهات، واستخدم جزيئاً عضوياً طويل الأذرع، بحيث تتصل أطرافه بالنحاس مكونة شبكة هندسية ثلاثية الأبعاد.
كانت معظم التوقعات تشير إلى أن الناتج سيكون فوضوياً أشبه بعش طائر من أيونات وجزيئات متشابكة، لكن المفاجأة أن البنية الناتجة انتظمت بشكل منظم ومتناظر، وشكلت بلورات تحتوي على تجاويف واسعة. في تلك اللحظة ولدت فكرة "الأطر العضوية الفلزية".
بذور فكرة عظيمة
نشر روبسون نتائج تجربته عام 1989 في مجلة الجمعية الكيميائية الأميركية، معتبراً أن هذا النوع من المواد يمكنه فتح باب جديد لتصميم مواد بخصائص غير معروفة من قبل، وهو ما كان نبوءة علمية تحققت لاحقاً بالكامل.
وبعد عام فقط، واصل روبسون سلسلة تجاربه، مقدماً هياكل جديدة تحتوي تجاويف يمكن ملؤها وتفريغها بمواد مختلفة.
وأظهرت إحدى التجارب أن الأيونات (ذرات بشحنة كهربائة نهائية) داخل هذه الشبكات يمكن أن تتبادل أماكنها مع أيونات أخرى من محلول خارجي، ما أثبت أن الجزيئات يمكنها الدخول والخروج من هذه "الغرف" المجهرية بسهولة.
غير أن هذه الهياكل المبكرة كانت هشة وغير مستقرة، وغالباً ما كانت تنهار عند التعرض للهواء أو الرطوبة، مما جعل كثيراً من الكيميائيين يعتقدون أن روبسون يسير في طريق مسدود.
لكن قلة من العلماء رأوا في أعماله بذور فكرة عظيمة تستحق المتابعة، وكان من بين هؤلاء سوسومو كيتاجاوا الباحث بجامعة كيوتو في اليابان، الذي تبنى مبدأ فلسفياً بسيطاً لكنه عميق المعنى: "حتى الأشياء التي تبدو عديمة الفائدة قد تصبح نافعة يوماً ما".
كيتاجاوا ودفاعه عن الفكرة
في عام 1992، نجح كيتاجاوا في إنشاء أول هيكل من هذا النوع، لكنه كان ثنائي الأبعاد، يحتوي على تجاويف صغيرة احتجزت بداخلها جزيئات الأسيتون (مركب كيميائي عضوي).
لم يكن هذا الاكتشاف عملياً بعد، لكنه أثبت إمكانية صنع مواد مسامية من مكونات عضوية ومعدنية معاً، ومع ذلك، رفضت لجان التمويل البحثي منحه الدعم، بحجة أن المواد التي يصنعها غير مستقرة ولا فائدة لها.
غير أن كيتاجاوا لم يتراجع، واستمر في تجاربه إلى أن حقق إنجازاً مهماً في عام 1997، عندما استطاع تصنيع هياكل ثلاثية الأبعاد باستخدام أيونات الكوبالت، والنيكل، والزنك، مرتبطة بجزيئات تُعرف باسم "بيبيريدين".
كانت النتيجة شبكة متماسكة تقاطعها قنوات مفتوحة يمكن ملؤها بالغازات، ثم تفريغها دون أن تنهار البنية، ليبتكر أول مادة يمكنها "التنفس"، تمتص الميثان أو النيتروجين أو الأكسجين وتفرغه دون أن تتأثر.
لكن حتى هذا الإنجاز لم يقنع الممولين، فقد كان الكيميائيون يملكون بالفعل مواد تعرف باسم "الزيوليت"، وهي مواد مسامية مصنوعة من السيليكا يمكنها امتصاص الغازات، فلماذا يطور أحدهم مادة جديدة تؤدي الوظيفة نفسها؟
هنا أدرك كيتاجاوا أنه يحتاج إلى توضيح ما يميز الأطر العضوية الفلزية عن غيرها، فكتب في عام 1998 مقالاً في مجلة "الجمعية الكيميائية اليابانية" شرح فيه رؤيته.
ويقول كيتاجاوا في مقاله إن "هذه الأطر ليست مجرد مواد مسامية، بل هي مواد مرنة يمكن تصميمها من عدد لا نهائي من الجزيئات المختلفة، مما يفتح مجالاً لا حصر له لتخصيص الخصائص بحسب الحاجة، وبخلاف الزيوليت الصلب القاسي، فإن الأطر الجديدة تحتوي على روابط لينة تمنحها طابعاً مرناً يجعلها قادرة على تغيير شكلها، دون أن تفقد بنيتها الأساسية.. لقد كانت تلك الفكرة مفتاحاً لعصر جديد في علم المواد".
جهود عمر ياغي
وبينما كان كيتاجاوا في اليابان يناضل لإثبات جدوى فكرته، كان في الجانب الآخر من العالم شاب يشق طريقه بثبات نحو الإنجاز نفسه، دون أن يدري أن مساره سيقوده إلى نوبل ذاتها.
وفي تسعينيات القرن الماضي قرر عمر ياغي، الباحث بجامعة كاليفورنيا في الولايات المتحدة، أن يتحدى الطريقة التقليدية في صنع المواد، والكيمياء المعتادة تعتمد على مزج المواد وتسخينها وانتظار النتيجة، حيث تتكوّن من جزيئات جديدة عشوائياً إلى حد كبير.
وأراد ياغي أن يصنع مواداً بطريقة محسوبة تشبه تركيب قطع "الليجو" حيث تُبنى البنية الجزيئية بدقة مقصودة، فبدأ بمحاولة ربط أيونات المعادن بجزيئات عضوية كبيرة لتكوين شبكات مترابطة.
وفي عام 1995، تمكّن من تكوين أول هياكل ثنائية الأبعاد مستقرة يمكنها احتضان جزيئات أخرى داخلها دون أن تنهار، وأطلق على هذه المواد الاسم الذي سيصبح لاحقاً عنوان ثورة كاملة: "الأطر العضوية الفلزية".
وأعاد هذا الاكتشاف اهتمام العالم بالأطر العضوية الفلزية، وسرعان ما التقى فكر ياغي بفكر كيتاجاوا في منتصف الطريق.
وبينما كان ياغي يركز على الاستقرار البنيوي والتصميم الدقيق، كان كيتاجاوا يبدع في جعل المواد مرنة وقابلة للتكيف.
وبعد سنوات قليلة، قدّم كيتاجاوا نفسه نموذجاً لمادة "مرنة" تتنفس الغازات مثل رئة حية: عندما تمتلئ بالميثان أو الماء تتمدد، وعندما تُفرغ تتقلص وتعود لشكلها الأصلي، دون أن تنهار بنيتها.
أما ياغي، فقد واصل توسيع حدود الممكن، ففي مطلع الألفية الجديدة، بيّن أنه يمكن تعديل الأطر نفسها لتأخذ خصائص مختلفة، من خلال استبدال أجزاء معينة من الجزيئات بأخرى، مثل تغيير قطع في آلة دقيقة.
وصنع ياغي 16 نوعاً مختلفاً من مادته الأصلية "إم أو إف-5" بعضها يحتوي على تجاويف أكبر أو أصغر، وبعضها يمكنه تخزين الميثان بكميات هائلة، مما جعله مثالياً لتخزين وقود السيارات النظيفة.
وفي السنوات التالية، استُخدمت الأطر لتجميع الماء من الهواء الجاف في صحارى أريزونا، حيث امتصت الرطوبة ليلاً ثم أطلقتها صباحاً عند ارتفاع حرارة الشمس، لتتحول إلى ماء صالح للشرب.
توالت بعد ذلك التطبيقات بوتيرة مذهلة، وصارت الأطر العضوية الفلزية تستخدم لاحتجاز ثاني أكسيد الكربون من مداخن المصانع، ولتخزين الهيدروجين بأمان في درجات حرارة وضغط عاديين.
كما استخدمتها شركات الإلكترونيات لحبس الغازات السامة أثناء تصنيع الرقائق الدقيقة، وأُنتجت أنواع أخرى يمكنها تفكيك الغازات القاتلة، بل وحتى المواد الكيميائية التي تُستخدم كأسلحة، وفي ميدان البيئة، صُممت مواد تمتص مركبات "بيفاس" السامة من المياه، وأخرى تستخرج العناصر النادرة من مخلفات المناجم.
وبهذا، تحوّلت الأطر العضوية الفلزية من فكرة أكاديمية إلى صناعة كاملة، تقودها شركات تسعى إلى إنتاجها على نطاق واسع. فبعضها يستخدم الآن تجارياً، وبعضها ما زال في مراحل التجريب، ويقول بعض العلماء إن هذه الأطر ستكون "مادة القرن الحادي والعشرين"، لما تحمله من مرونة وقدرة على التخصيص والاستدامة.