ذكرت دراسة علمية أن بعض الحيوانات قد تقع في فخ الخداع البصري تماماً كما يفعل الإنسان، وهو ما يكشف عن أسرار مذهلة بشأن الطريقة التي ترى بها الكائنات الحية العالم من حولها.
وأوضحت الدراسة، التي نشرت في دورية Frontiers، أن الخداع البصري المعروف باسم "وهم إيبنجهاوس" لا يخدع البشر وحدهم، بل يمكن أن يفعل هذا مع بعض الأسماك أيضاً، بينما يبدو أن الطيور أكثر مقاومة له.
"وهم إيبنجهاوس"، هو أحد أشهر الأوهام البصرية التي تكشف كيف يمكن للدماغ أن يخطئ في تقدير الحجم النسبي للأشياء تبعاً للسياق الذي تعرض فيه.
وفي ذلك الوهم، تُعرض دائرتان متساويتان في الحجم، لكن تحاط إحداهما بدوائر صغيرة والأخرى بدوائر كبيرة، فيبدو أن الدائرة المحاطة بالدوائر الصغيرة أكبر من الأخرى رغم أنهما في الحقيقة متطابقتان في الحجم.
الإدراك البصري
يعكس هذا الوهم الطريقة التي يعتمد بها الدماغ على المقارنة البصرية لتقدير الحجم بدلاً من القياس المطلق، مما يوضح أن إدراكنا البصري ليس موضوعياً بالكامل، بل يتأثر بالعلاقات المكانية بين الأشكال المحيطة.
وتُعد هذه النتائج خطوة جديدة في فهم تطور الإدراك البصري، وكيف تختلف طرق معالجة المعلومات الحسية بين الكائنات التي تعيش في بيئات متباينة.
بدأ الباحثون دراستهم بسؤال بسيط: هل يمكن للحيوانات أن تقع في الأوهام البصرية نفسها التي تخدع الإنسان؟ فإذا كانت الإجابة "نعم"، فماذا يعني هذا عن الطريقة التي تدرك بها الكائنات غير البشرية محيطها؟
سعى الباحثون إلى اختبار هذه الفكرة عبْر مقارنة استجابة نوعين مختلفين تماماً من الحيوانات، سمكة الجوبي الصغيرة التي تعيش في المياه الضحلة، واليمام الحلقي (المطوق) الذي يعيش على اليابسة ويعتمد على انتقاء الحبوب.
عرف الباحثون أن الخداع البصري ليس مجرد لعبة ذهنية أو خدعة للعين، بل هو أداة علمية فعالة لفهم كيف يجمع الدماغ المعلومات الحسية ويكوّن الصورة النهائية للعالم الخارجي، فعندما "تخطئ" الرؤية، تكشف في الواقع عن الآليات الذكية التي يستخدمها الدماغ لتبسيط التعقيد البصري المحيط به.
ويُعد "وهم إيبنجهاوس" نموذجاً كلاسيكياً لهذا النوع من الظواهر، إذ يرى القرص المركزي في الصورة أكبر أو أصغر تبعاً لحجم الدوائر المحيطة به، رغم أن حجمه الفعلي لا يتغير.
أراد الباحثون معرفة ما إذا كانت هذه الخدعة تعمل بالطريقة نفسها في أدمغة الحيوانات الأخرى.
ويرى العلماء أن إدراك الإنسان لـ"وهم إيبنجهاوس" يرتبط بما يسمّى "المعالجة الشاملة" للمشهد، أي ميل الدماغ إلى تفسير الصورة الكلية أولاً قبل التركيز على التفاصيل، لكن ليس كل الحيوانات تعيش في بيئة حسية مشابهة، فبعض الكائنات تعتمد على "المعالجة المحلية" أي تحليل التفاصيل الصغيرة أولاً لتحديد الأجسام بدقة، خاصة تلك التي تحتاج إلى التمييز بين أشياء متقاربة جداً في الشكل أو الحجم.
بيئات معقدة
اختبر الباحثون تلك الفرضية من خلال نوعين متباينين تماماً من حيث البيئة والسلوك والرؤية، إذ تعيش أسماك الجوبي في جداول مائية استوائية ضحلة، مملوءة بالضوء المتغير والظلال والافتراس المفاجئ، ويعتمد بقاؤها على اتخاذ قرارات سريعة في بيئة مزدحمة بصرياً، وفي مثل هذه البيئة المعقدة، تصبح القدرة على تقدير الأحجام بسرعة مهارة حيوية.
وعلى الجانب الآخر، يعتمد اليمام الحلقي (الطوقي) على التقاط البذور من الأرض، ويقضي وقتاً طويلاً في فحص تفاصيل صغيرة جداً على خلفيات متداخلة، ومن ثم، قد تكون دقته في تمييز التفاصيل أكثر أهمية من رؤية المشهد الكامل، كما تمنحه رؤيته الثنائية القدرة على تقدير المسافات والأحجام في سياق بصري مختلف تماماً عن عالم الماء.
صمّم الباحثون تجربة تجمع بين هذين العالمين المختلفين؛ عالم الماء وعالم اليابسة، فقدموا لأسماك الجوبي قِطَعاً صغيرة من الطعام محاطة بدوائر أكبر أو أصغر حجماً، بينما قدّموا للحمام الحبوب في ترتيبات مماثلة.
وكان الهدف من هذه التجربة معرفة ما إذا كانت الحيوانات ستتعامل مع هذه الدوائر كما يتعامل الإنسان مع "وهم إيبنجهاوس"، أي أن تعتبر العنصر المركزي أكبر أو أصغر مما هو عليه فعلاً تبعاً للسياق البصري المحيط به.
أظهرت النتائج أن أسماك الجوبي كانت عُرْضة للخداع بوضوح، فاختارت دائماً الطعام الذي أحاطته دوائر صغيرة، كما لو أنه فعلاً أكبر حجماً وأكثر جاذبية.
وفسّر الباحثون هذا السلوك بأنه دليل على أن أسماك الجوبي تدرك الحجم النسبي للأشياء في سياق بصري شامل يشبه إلى حد كبير إدراك الإنسان، وهذا يعني أن أدمغة الأسماك -رغم بساطتها الظاهرية- فهي قادرة على معالجة المشهد ككل وليس كعناصر منفصلة فقط.
أما الحمام الحلقي (الطوقي) فقد أظهر نتائج أكثر تنوعاً وتعقيداً، إذ لم تقع معظمها في الخدعة البصرية، ولم يكن هناك نمط واضح على مستوى المجموعة، فبعض الطيور تصرفت مثل الإنسان، حيث ظنت أن البذور المحاطة بحبوب أصغر أكبر حجماً، في حين أظهر بعضها الآخر سلوكاً مغايراً تماماً، بينما لم يتأثر آخرون على الإطلاق.
ويرى الباحثون أن هذا التباين يعكس تنوع الاستراتيجيات الإدراكية داخل النوع الواحد، وربما يشير إلى أن الحمام يعتمد على تحليل التفاصيل الدقيقة أكثر من إدراك السياق الكلي.
تنوع مذهل في الإدراك
كشفت الدراسة أيضاً أن إدراك الحجم ليس مسألة "صواب" أو "خطأ" في الرؤية، بل نتيجة لتطور آليات تتناسب مع بيئة كل نوع، فأسماك الجوبي تحتاج إلى قراءة المشهد بسرعة، لذلك تطورت لديها قدرة على "المعالجة الشاملة" التي تدمج المعلومات بسرعة لتقدير الحجم النسبي في بيئة مائية مضطربة. أما الحمام الذي يعيش في بيئة أكثر استقراراً، فربما يعتمد على "المعالجة المحلية" التي تتيح له تمييز التفاصيل الدقيقة عند البحث عن الطعام.
ولفت الباحثون إلى أن هذه النتائج لا تفسر فقط كيف ترى الحيوانات الأشياء، بل تكشف أيضاً عن "تنوع مذهل" في الإدراك داخل الأنواع نفسها، إذ أن استجابات الحمام المتباينة للخدعة البصرية تشير إلى أن التجربة الفردية أو الفروق الفطرية قد تؤثر على كيفية تفسير الحيوان أو الطائر لما يراه. فكما يختلف البشر في مدى تأثرهم بالأوهام البصرية، يختلف أيضاً كل طائر أو سمكة في طريقته الخاصة لرؤية العالم.
وتعمَّق الفريق البحثي في تحليل هذه النتائج من زاوية تطورية، موضحين أن الإدراك البصري ليس وظيفة تهدف إلى الدقة المطلقة، بل إلى الكفاءة في بيئة معينة، فالدماغ لا يسعى دائماً إلى رؤية "الحقيقة" كما هي، بل إلى بناء تمثيل بصري عملي يساعد الكائن على البقاء.
وكشفت هذه الدراسة أن الخداع البصري قد يكون مفتاحاً لفهم كيف طورت الكائنات طرقاً مختلفة لمعالجة المعلومات البصرية تبعاً لتحديات بيئتها.
وأكد الباحثون أن مقارنة الأنواع المختلفة -كسمكة تسبح في تيار مضطرب وطائر يبحث عن الحبوب في الأرض- توفر نافذة فريدة على تنوع "العوالم الإدراكية" في الطبيعة، فالخداع البصري هنا ليس مجرد لعبة بصرية، بل وسيلة لقياس مدى تشابه أو اختلاف أدمغة الأنواع في تنظيمها لمعطيات الواقع، وإذا كانت السمكة ترى العالم بطريقة مختلفة عن الطائر، فإن ذلك يعكس اختلافاً في الأسلوب الذي بنى به التطور منظومات الإدراك لدى الكائنات الحية.
ونوّه الباحثون إلى أن "وهم إيبنجهاوس" هو واحد فقط من عشرات الأوهام البصرية التي يستخدمها العلماء لفهم الإدراك الحيواني، فكل وهم يكشف جانباً مختلفاً من طريقة عمل الدماغ.
وعندما تنخدع السمكة بالصورة نفسها التي تخدع الإنسان، فهذا يعني أن هناك جذوراً تطورية مشتركة لآليات الإدراك، تمتد عبر مئات الملايين من السنين، أما عندما تظهر الطيور مقاومة لتلك الخدعة، فإن ذلك يشير إلى أن الإدراك قد تطور لاحقاً بشكل مستقل ليتناسب مع متطلبات بيئة مختلفة.
وقدّم الفريق البحثي تفسيراً فلسفياً ضمنياً لنتائجهم، مفاده بأن "ما نراه ليس بالضرورة ما هو موجود"، بل "ما يقرره الدماغ ليكون الأكثر فائدة"، وبذلك يصبح الوهم البصري أداة لفهم المنطق التطوري للإدراك، إذ يكشف لنا كيف يتعامل العقل مع التناقض بين الحقيقة الموضوعية والتجربة الحسية، فإدراك العالم ليس مرآة للواقع، بل بناء ذكي يهدف إلى البقاء لا إلى الحقيقة.
وخلصت الدراسة إلى أن الأوهام البصرية يمكن أن تكون مرآة تعكس كيفية تطور الإدراك لدى الأنواع المختلفة، فإذا كانت الأسماك الصغيرة تشارك الإنسان في الوقوع في الخداع نفسه، فإن ذلك يعني أن بعض آليات الرؤية تطورت مبكراً في شجرة الحياة، أما الطيور التي تتفادى الخداع، فربما طوّرت استراتيجيات إدراكية أكثر دقة تخدم نمط حياتها القائم على الانتباه للتفاصيل الصغيرة.
وأظهرت التجارب أن المقارنة بين الأنواع تتيح فهماً أعمق للعلاقة بين الإدراك والبيئة، فالإدراك البصري ليس نظاماً موحداً، بل مجموعة من الحلول التطورية لمشكلات مختلفة.
فبينما تتعامل الأسماك مع عالم متغير وسريع، تحتاج الطيور إلى دقة متناهية في بيئة أكثر استقراراً، وتكشف هذه الفروق أن "الرؤية" ليست خاصية فيزيائية فقط، بل تجربة بيولوجية وثقافية أيضاً.
وقدمت الدراسة في ختامها منظوراً جديداً حول الإدراك الحيواني، مؤكدة أن فهم كيف ترى الحيوانات العالم لا يساعد فقط في علم الأحياء، بل في علم النفس التطوري وعلم الأعصاب الإدراكي أيضاً، فكل تجربة وهم بصري هي تجربة في فهم كيفية بناء الدماغ للواقع، وعندما تنخدع العين، يكون العقل هو من يكشف عن نفسه.
ورأت الدراسة أن البحث في الأوهام عبر الأنواع المختلفة لا يكشف فقط عن قدرات الحيوانات، بل عن القواعد العامة التي تحكم الإدراك في الكائنات الحية كافة، فكل دماغ، مهما كان بسيطاً، يواجه التحدي نفسه المتعلق الكيفية التي يستخدمها ليبسط تعقيد العالم الخارجي إلى صورة يمكن التعامل معها.















