قبل 15 ألف عام، عاشت مجموعات من البشر في أوروبا الغربية في موقع صخري بالقرب من وادي فيزير بفرنسا ومن ذلك المكان انطلقت لتستعمر بضع مواقع أخرى. يُطلق الباحثون على تلك المجموعات اسم "شعب مادلان".
كان ذلك الشعب يصطاد الفرائس ويأكل النباتات المحيطة بذلك الموقع الصخري. وقد اكتشف العلماء مجموعة من أثار تلك المجموعة في شتى بقاع أوروبا الغربية. من ضمن تلك الأثار لوحات حجرية في جزيرة "جيرسي" الواقعة على بُعد 150 كيلومتراً من جنوب إنجلترا ومجموعة أخرى من لوحات شبيهة تم اكتشافها في فرنسا.
تمثل تلك اللوحات -الموجودة الآن في المتحف البريطاني- مشاهد من عمليات صيد الحيوانات وهي رسومات كانت منتشرة في ذلك العصر. لكن تلك اللوحات تختلف بشكل جذري عن مثيلتها؛ حسب دراسة نُشرت الأربعاء في دورية "بلوس" العلمية.
ووجد الباحثون أنماطاً من التلف الحراري تعلو حواف تلك التصميمات الفنية؛ ما يُشير إلى أنها منحوتة قرب الضوء الوامض للنيران.
ويقول الزميل في الأكاديمية البريطانية والباحث بجامعة يورك، أندي نيدهام، المؤلف الأول لتلك الدراسة لـ"الشرق"، إن "أسلافنا صنعوا تلك الأعمال الفنية المعقدة على ضوء النيران".
ويضيف: "الأمر لم يقتصر فقط على الرسم ليلًا، إذ استخدموا ذلك الضوء لعمل تأثيرات على ذلك التصميم ليبدو وكأنه يتحرك.. وهذا نوع من أنواع سينما ما قبل التاريخ".
نظرت الدراسة في 50 حجراً من تلك الأحجار المنقوشة، ونجح الباحثون في تحديد أنماط أضرار الحرارة الوردية حول حواف بعض الحجارة، مما يدل على أنها نُقشت ووُضعت بالقرب من النار.
تظهر النتائج أن الأحجار وُضعت عمداً حول الحرائق في بعض الحالات. يقول نيدهام: "يبدو أن أسلافنا كانوا يستخدمون التأثير المرئي للضوء الناري، لتعزيز الفن، وخلق انطباع بأن الحيوانات كانت تتحرك داخل وخارج الظلام، وتتحرك عبر سطح الحجارة".
وشكلت النيران مركزاً اجتماعياً لمجتمعات العصر الحجري القديم، إذ كان يتجمع الأشخاص لرواية القصص أو التحدث عن يومهم، "وربما كان الفن مركزياً في هذه الأنشطة الاجتماعية وربما أصبح جزءاً من سرد القصص بجانب الدفء على الحجارة"، بحسب نيدهام.
وبحسب الدراسة، كان إنشاء الفن باستخدام الضوء الناري تجربة عميقة للغاية، تساهم في تنشيط أجزاء مختلفة من الدماغ البشري. ويعزز الضوء والظلال الوامضة قدرتنا التطورية على رؤية الأشكال والوجوه في الكائنات الجامدة وهذا قد يساعد في تفسير سبب شيوع رؤية تصميمات اللوح التي استخدمت أو دمجت الميزات الطبيعية في الصخر لرسم الحيوانات أو الأشكال الفنية.
وخلال الفترة المادلانية، كانت الطقس شديدة البرودة وكانت المناظر الطبيعية أكثر انكشافًا. بينما كان الناس يتأقلمون جيدًا مع البرد، ويرتدون ملابس دافئة مصنوعة من جلود الحيوانات والفراء، كانت النار لا تزال مهمة جدًا للتدفئة.
وتعزز النتائج التي توصل إليها الباحثون النظرية القائلة بأن الوهج الدافئ للنار كان يجعلها مركزًا للمجتمع للتجمعات الاجتماعية، ورواية القصص وصنع الفن.
لكن؛ هل من الممكن أن تكون أنماط التلف الحراري على الأحجار قد حدثت لأنها وُضعت بجوار المصباح الناري ليلاً بعد الانتهاء من رسمها أثناء النهار؟
يجيب نيدهام على تساؤل "الشرق" بقوله: "يبقى من الممكن أن تكون اللوحات قد صنعت في وقت ما وتم تعريضها للنيران في وقت آخر مثل صنعها أثناء النهار ووضعها بجانب النار أثناء الليل، هذا احتمال وارد بالفعل".
ويضيف: "نحن نعلم من فن الكهوف الذي بدأ في الوقت ذاته تقريبًا، أن الناس كانوا يذهبون إلى الكهوف المظلمة ويصنعون قطعًا فنية جميلة فقط بمصادر الضوء الخافتة مثل الشموع أو المشاعل أو النار".
ويتابع نيدهام: "في بعض الحالات، تُستخرج اللوحات الحجرية أيضًا من الكهوف، لذلك كانت نفس الظروف موجودة بالنسبة لهؤلاء. ولأن صنع اللوحات في ظروف مظلمة ليلاً خارج كهف في مساحة اجتماعية أكثر سيكون متسقًا مع هذه الأنواع الأخرى من الإنتاج الفني. ولأن ساعات النهار هي الوقت الأساسي الذي قد تحتاج فيه إلى البحث عن الطعام أو جمع الموارد، وبالتالي نتوقع أن العمل في الأنشطة الأخرى -كالرسم- سيتم إنجازه ليلًا أثناء التواصل الاجتماعي حول النار".
كان من شأن ضوء النار الديناميكي المتغير أن يعزز تجربة هذا الفن المعتمد على الظلال المتحركة والضوء الوامض اللذان يسببان الغموض في المحفزات البصرية، والتي يمكن أن تجعل الأشياء - أو في هذه الحالة الحيوانات المحفورة - تبدو وكأنها متحركة، مما يضيف حقًا إحساسًا بالسرد لهذا الفن.
يقول نيدهام: "يمكنك أن تتخيل بعد ذلك أن هذا الفن قد يكون مشجعًا على سرد القصص حول النار مع ظهور شخصيات الحيوانات من تلك القصص على ضوء النار".
ويتابع حديثه: "أن صنع الفن على ضوء النار ربما أثار أيضًا ظاهرة نفسية معينة تسمى الباريدوليا pareidolia (حيث ترى أشكالًا في أنماط عشوائية، مثل رؤية سحابة تشبه وجهًا أو حيوانًا). عند مشاهدة الأسطح المتموجة للحجر الجيري المستخدم في هذا الفن تحت ضوء النار، قد يُنظر إلى بعض الميزات مثل الشقوق على أنها تشبه الحيوانات. يبدو أن هذا ينعكس أيضًا في تلك اللوحات أيضًا، حيث تُستخدم الشقوق لتمثيل أرجل الحيوانات أو تشير حافة اللوحة إلى جزء من أذن أو ظهر حيوان".
نقطة أخرى مثيرة للاهتمام حول النتائج التي توصل إليها هي أن هذا يشير إلى أن ذلك الشعب كان يتلاعب عمدًا بالضوء لتعزيز و"تنشيط" فنهم.
ويوضح نيدهام: "لدينا أمثلة أخرى في أماكن أخرى في أوروبا خلال هذه الفترة الزمنية، حيث يتم رسم الحيوانات في الكهوف برؤوس أو أرجل متعددة لخلق انطباع بالحركة عند مشاهدتها تحت ضوء اللهب الخافت".
كما يُظهر مدى أهمية الحيوانات بالنسبة للشعب المادلاني "ليس فقط فيما يتعلق بصيدها أو مشاهدتها في الأماكن الطبيعية ولكنه أيضًا كانوا قادرين على إنشاء تمثيلات طبيعية مفصلة حقًا لهذه الحيوانات من الذاكرة"، بحسب نيدهام.