"هابيل".. ديناصور شرس عاش في مصر قبل 98 مليون عام

مجسم افتراضي للديناصور "هابيل" الذي عاش في مصر قبل 98 مليون عام - الشرق
مجسم افتراضي للديناصور "هابيل" الذي عاش في مصر قبل 98 مليون عام - الشرق
القاهرة -محمد منصور

خلف شجرة "منجاروف" متوسطة الحجم، اختبأ "هابيل" منتظراً فرصة الهجوم كي تتمكن قامته المتوسطة التي يبلغ طولها نحو 6 أمتار من التوغل رويداً وبهدوء يليق بقاتل محترف في الغابة الواقعة على ضفاف نهر يعبر منطقة الواحات المصرية، حيث كانت الضحية تقتات على ثمار تلك الغابة، بينما هو في الانتظار.

وفي الوقت المُحدد، انقض "هابيل" على الضحية، وقطعها إرباً بأسنانه الحادة وتناولها في هدوء، ثم استلقى قرب ضفاف النهر، ولسبب ما غير معروف إلى الآن، نفق الديناصور "هابيل" وطُمر سريعاً بالطين.

عملية الطمر السريع حفظت رفات الديناصور لملايين السنوات، واستُبدلت عظامه بمعدن الحديد، وطيلة نحو 100 مليون عام، باتت العظام وحفظت ملايين السنوات في غلاف من الرمال ومن أكاسيد الحديد، وقاها الغلاف عوامل التعرية، وحفظ للعلماء تفاصيلها وسماتها.

بقايا مكتشفة للديناصور هابيل
بقايا مكتشفة للديناصور هابيل - الشرق.

في عام 2014، كان بلال سالم يُمسك بيديه عدداً من مجلة الجمعية الجغرافية الأميركية الشهيرة، كان الموضوع الأساسي للعدد يتحدث عن اكتشاف ديناصور قدمه للعالم الباحث المغربي المعروف نزار إبراهيم.

وقتها، تصاعد اهتمام سالم، وهو الآن باحث ضمن مجموعة "سلام" للحفريات الفقارية، بالديناصورات، وقرر وقتها العمل على تلك الكائنات المُذهلة.

عائلة "هابيل"

وبعد 4 سنوات من تلك الواقعة، أمسك سالم عينة حفريات قيمة قدمها له أستاذه هشام سلام، كانت العينة فقرة عُنقية لكائن مجهول، طلب منه الأستاذ التعرف على العينة وتوصيفها، ومعرفة الكائن الذي تنتمي إليه، وبعد 3 سنوات أخرى من العمل الشاق كانت المفاجأة، فالعينة تعود إلى ديناصور آكل للحوم من عائلة "هابيل" التي اكتشفها بالأرجنتين العالم روبرتو هابيل وأُطلق عليها ذلك الاسم تيمناً به.

في بداية الثمانينات، اكتشف الباحث هابيل، هيكلاً شبه كامل للديناصور. وفي عام 1985 تمكن فريق بحثي من توثيق الديناصور وتسميته، بعد ذلك توالت الاكتشافات للعديد من حفريات "عائلة هابيل" في الأرجنتين، والبرازيل، ومدغشقر وشبه القارة الهندية وحتى المغرب.

الباحث بلال سالم. - ������������������������������������
أحد القائمين على الدراسة الباحث بلال سالم - الشرق

وظهرت "العائلة الهابيلية" على الأرض، والتي ينتمي إليها الديناصور المكتشف في مصر أخيراً، قبل نحو 170 مليون سنة، ويعتبر العلماء تلك العائلة "تي ريكس جندوانا" نسبة إلى أشرس الديناصورات المكتشفة في القارة الشمالية "تي ريكس".

وفي بداية الوقت الذي تواجد فيه ذلك الديناصور، كانت الكتلة الأرضية "جندوانا" لا تزال تضم كل من إفريقيا، وأميركا الجنوبية، وشبه القارة الهندية، والقارة القطبية الجنوبية.

ويقول بلال سالم، وهو الباحث الأول في تلك الدراسة، في تصريحات لـ"الشرق"، إن تلك العائلة "كانت شرسة للغاية كما كانت من أكثر الديناصورات الناجحة في البقاء، إذ أنها انقرضت مع حدث انقراض الديناصورات الأكبر قبل 66 مليون سنة، على الرغم من أن بعض الديناصورات انقرضت قبل ذلك الحدث".

وتعود قدرة البقاء لمدة 100 مليون سنة، حسبما يقول سالم، إلى التكيف على ظروف معيشة، حيث "كانت عائلة هابيل تتغذى على صيد وافتراس (الكائنات الأصغر منها) والترمم (الكائنات الميتة)، كما كانت تتناول لحوم بعضها البعض في سلوك يُشبه آكلي لحوم البشر".. كان ذلك الكائن "قاتل لا يرحم".

بدية قصة الاكتشاف

عندما بدأ مستكشفو القرن العشرين التنقيب في الواحات البحرية، فوجئوا بالعدد الكبير لهياكل الديناصورات آكلة اللحوم، مقارنة بالديناصورات العشبية التي استوطنت المنطقة.

وتمكن العلماء من اكتشاف حفريات هياكل شبه مكتملة لثلاثة ديناصورات آكلة للحوم، هي "سبينوصورس" (أضخم ديناصور مفترس عاش علي الأرض) و"كاركردونتوصورس" و"بحرياصورس"، إضافة إلى "إيجيبتوصورس" (آكل للعشب)، ومنذ ذلك الحين، وحتى بعد أن دُمرت الحفريات الأصلية لتلك الديناصورات في الحرب العالمية الثانية، لم يتم الكشف عن أي ديناصورات من هذه المنطقة.

بقايا عظام تم العثور عليها من قبل الفريق البحثي. - الشرق
بقايا عظام تم العثور عليها - الشرق

وفي مطلع القرن الحالي، اكتشف فريق أميركي ديناصور عملاق آكل للعشب سمى "باراليتايتان" لتظل بقية وحوش أرض الواحات من الديناصورات آكلات اللحوم مطمورة في الصخور، وبعد عقود من الجفاف في ما يخص دراسات الديناصورات من الواحات البحرية، ظهر ديناصور "هابيل" ليزيد من دموية المشهد في المنطقة، ويثير التساؤل من جديد بشأن أعداد الديناصورات آكلة اللحوم في المنطقة آنذاك.

وفي عام 2016، عثرت بعثة مشتركة من علماء مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية ووزارة البيئة، على حفرية لفقرة مغطاة برواسب صلبة من الرمال المتشبعة بالحديد قرب منطقة جبل "الدست"، الواقع شمال شرقي منخفض الواحات البحرية التي تبعد عن القاهرة بنحو 300 كيلومتر.

وقال عالم الحفريات المصري الشهير هشام سلّام في تصريحات لـ"الشرق": "أحتفظ طيلة الوقت بذلك النوع من العينات لطلابي المصريين لإجراء أبحاث تخرج من علماء مصريين بالكامل عليها". 

وأعطى هشام سلّام، العينة إلى سالم الذي بدأ رحلة دراستها. 

في البداية استخدم الفريق مجموعة من التقنيات، مثل قلم الهواء لتنظيف العينة من الرواسب خاصة أن العينة احتاجت إلى ترميم وإزالة للزوائد والترسبات التي تراكمت عليها طيلة ملايين السنوات، وبعد إجراء تلك العملية، أصبحت الفقرة واضحة المعالم من الناحية التشريحية، وكان ارتفاع الفقرة في حدود 15 سنتيمتراً.. فكيف عرف الفريق البحثي أنها من العنق؟ وكيف استنتجوا أنها تنتمي لديناصور أكل للحوم؟

فريق MUVP   - الشرق
صورة تجمع فريق مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية "MUVP" في الواحات البحرية - الشرق

يقول سلام، إن علّم الحفريات له طرق عدة موثقة يتم وصف العظام بها، فخلال عملية القياس "يُتاح معرفة الكائن صاحب الحفرية في أغلب الأحيان عبر مجموعة من البيانات التي تُعرف باسم شجرة الأنساب".

ويُكمل سالم حديث أستاذه: "عظام الديناصورات آكلة اللحوم يجب أن تكون أكثر كثافة، كما أن شكل الفقرة ونسب قياساتها وأماكن اتصالها بالضلع تُحدد لنا مكانها بدقة".

من تلك الفقرة الصغيرة عرف الفريق البحثي موضعها بالجسم، وتأكد أنها تنتمي لديناصور آكل للحوم.

بدأت مرحلة أصعب.. إلى أيّ عائلة تنتمي تلك الفقرة؟

سلام أوضح أن "هذا أمر تُحدده شجرة الأنساب عن طريق استخدام تكنولوجيا الحاسوب بالتعاون مع ما نُسميه المصفوفة".

وفي تلك المصفوفة، يقوم الباحثون بإدخال بيانات العينة لمقارنتها بقائمة ضخمة من البيانات للديناصورات الأخرى، وأظهرت مجموعة البيانات الأولى، أن ذلك الديناصور ينتمي إلى عائلة "هابيل"، ويُشبه نظيره الموجود في أميركا الجنوبية.

وتابع سالم: "كان ذلك الاكتشاف مُذهلاً ولا يُصدق".

وطلب منه أستاذه التأكد بمجموعة أخرى من البيانات، فأكدت المجموعة الثانية صحة النتائج، فطلب منه الأستاذ التأكد بمجموعة ثالثة من البيانات، فجاءت النتائج متطابقة "هذا ديناصور ينتمي للعائلة الهابيلية بما لا يدع مجالًا للشك"، وفقاً لسالم.

وتُضيف تلك العائلة ديناصوراً سادساً للمجموعة التي عاشت في الواحات المصرية: "أصبح لدينا 6 أنواع من الديناصورات مُقسمة إلى نوعين من آكلي العشب و4 أنواع من آكلي اللحم"، بحسب سالم.

ويقول سالم إن "ذلك الديناصور تكيف مع بيئة عاشت فيها ديناصورات تأكل اللحم وأكبر منه في الحجم بسرقة بعض الفرائس منهم أو بالصيد بنفسه أو حتى بأكل بني جنسه".

جانب من محاكاة تظهر كيف كانت الحياة في الواحات البحرية قبل 95 مليون سنة - الشرق
جانب من محاكاة تظهر كيف كانت الحياة في الواحات البحرية قبل 95 مليون سنة - الشرق

وتتميز الديناصورات التي تنتمي لعائلة "هابيل" بشكلها المرعب وجمجمتها المُخيفة، وأسنانها الحادة، بينما تُظهر قدماها الخلفيتان كتلة عضلية ضخمة لتساعدها في الهجوم والافتراس، وعلى الرغم من قصر طرفيها الأماميين لدرجة الضمور، إلا أنها كانت من بين الأشرس على الإطلاق. 

ويُعد ذلك الديناصور الأول من تلك العائلة من الواحات البحرية. ويقول سلام، إن تلك الواحات في ذلك الوقت كانت "واحة الديناصورات بحق"، إذ تسود فيها صراعات دامية بين عمالقة الكائنات وصغارها بصورة تجعل الواحة تبدو وكأنها ساحة حرب مخيفة وقاتلة "البقاء فيها ليس للأقوى فحسب.. بل للأقدر على التكيف والمراوغة".

وأفاد مات لمانا عالم الديناصورات الأميركي والمؤلف المشارك في الدراسة، بأن الواحات البحرية اتخذت مكانة شبه أسطورية بين علماء الأحافير، لأنها أنتجت أول أحافير معروفة للديناصورات التي أدهشت العالم، مضيفاً أنه "لقرابة القرن، كانت تلك الحفريات موجودة فقط كصور بسبب تدميرها أثناء قصف متحف برلين بألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية".

"هابيل المصري"

الأستاذ بجامعة أوهايو الأميركية والمؤلف المشارك في الدراسة، باترك أوكانور يقول: "ألقيت نظرة على فقرات ديناصورات عدة، من جميع أنحاء القارات الجنوبية، من باتاجونيا إلى كينيا مروراً بتنزانيا ومدغشقر، ولكن عندما رأيت صورة هذه الفقرة للمرة الأولى عام 2016، عرفت على الفور أنها عظام رقبة ديناصور (أبيليصوريد) مميزة للغاية".

الجدير بالذكر أن ديناصورات "هابيل" كانت تجوب القارات الجنوبية القديمة (جندوانا) وأوروبا، لذلك قارن الفريق البحثي تلك الفقرة مع مثيلاتها من مختلف القارات، وأظهرت نتائج شجرة الأنساب وجود قرابة وثيقة بين ديناصور "هابيل المصري"، وبين أقرانه في أميركا الجنوبية، أقرب حتى من ديناصورات مدغشقر وأوروبا، ما يدعم نظرية انفصال مدغشقر عن إفريقيا قبل انفصال أميركا الجنوبية عنها.

وفي هذا السياق، يضيف سالم: "على النقيض من ديناصورات تي ريكس الشرسة التي عاشت في أميركا الشمالية، جابت ديناصورات (هابيل) القارات الجنوبية القديمة (جندوانا) وأوروبا، إلا أن التشابه بين ديناصورات (تي ريكس) وديناصورات (هابيل) في القوة والشراسة جعل المجتمع العلمي يُلَقب عائلة (هابيل) بـ(تي ريكس قارات العالم الجنوبية القديمة)".

وتقول الباحثة المشاركة بالدراسة وعضو بمجموعة "هشام سلام" للأبحاث، سناء السيد، إن اكتشاف هذه العائلة الجديدة من الديناصورات من الواحات البحرية يؤكد أن أرض مصر "ما زالت تحوي الكثير من الكنوز التي لا تحكي فقط تاريخ مصر القديم، بل أيضاً تساهم في تغيير رؤيتنا لتاريخ الحفريات الفقارية في العالم، ولذلك لا يتوقف مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية عن الرحلات الاستكشافية في كل ربوع مصر".

وفي عام 1915، وضع العالم الألماني الكبير ألفريد فيجنر نظرية الانجراف القاري، والتي تقول إن الأرض كانت قارة واحدة عملاقة ثم انقسمت إلى أجزاء، وشرح نظريته، بقوله إن "قارات إفريقيا وأميركا الجنوبية والقارة القطبية الجنوبية وشبه الجزيرة الهندية كانت في كتلة واحدة ثم انفصلت تباعاً".

وأضاف: "في البداية انفصلت القارة القطبية الجنوبية ومدغشقر ثم انفصلت أميركا الجنوبية عن إفريقيا".

وعلق سالم على ذلك بأن اكتشاف "هابيل" يؤكد صحة النظرية.

فبشكل درامي، يُشبه "هابيل المصري" نظيره الأميركي الجنوبي، أكثر من الشبه بينه وبين أفراد عائلته من الهند ومدغشقر، على الرغم من المسافة الجغرافية التي تبدو أقرب بين مصر وبين مدغشقر، إلا أن التسلسل الزمني للانجراف القاري جعل المسافة في الوقت الذي عاش فيه هابيل بين إفريقيا وأميركا الجنوبية أقرب وهو ما يجعل الديناصور المصري يُشبه نظيره الأميركي الجنوبي، وفقاً لسالم.

ويقول سالم، إن علم الحفريات "يتواكب مع نظرية الانجراف القاري ويؤكدها"، مشيراً إلى أن جوهر العلوم بشكل عام هو محاولة الإجابة على تساؤل "ما نحن.. ومن أين أتينا.. وإلى أين نحن ذاهبون".. وهو ما يفعله علم الحفريات، وعلم البيولوجيا، وعلم الفيزياء الفلكية، وغيره من العلوم التي يرى سالم أنها "ترتبط بخيط خفي مع بعضها البعض".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات