يسعى العلماء منذ أكثر من 35 عاماً، إلى الكشف عن الكيفية التي يتكون بها الجليد على المستوى الكمي.
ويعرف الجميع أنَّ الجليد هو الشكل الصلب للسوائل، وأنه يتكون حين تلتصق جزيئات السائل ببعضها البعض جراء انخفاض درجة الحرارة، لكن العلماء يجهلون تماماً سلوك السائل في اللحظات الأولى لتشكيل الجليد.
والآن، نجح فريق من "جامعة برينستون" الأميركية، في محاكاة الخطوات الأولية لتشكيل الجليد بدقة من خلال تطبيق الذكاء الاصطناعي لحل المعادلات التي تحكم السلوك الكمي للذرات والجزيئات الفردية.
ويمكن أن تؤدي القدرة على نمذجة الخطوات الأولية في الماء المتجمد، وهي عملية تسمى "تنوي" الجليد، إلى تحسين دقة نمذجة الطقس والمناخ، إضافة إلى عمليات المعالجة الصناعية الأخرى مثل الأطعمة المجمدة.
ويُمكِّن النهج الجديد، الباحثين من تتبع نشاط مئات الآلاف من الذرات عبر فترات زمنية أطول بآلاف المرات، وإن كانت لا تزال في إطار أجزاء من الثانية، مقارنة بالدراسات المبكرة.
شبكات التعلم العميق
وتصف المحاكاة، كيف تتحول جزيئات الماء إلى جليد صلب بدقة كمّية. الأمر الذي كان من المعتقد أنه لا يمكن الوصول إليه بسبب مقدار قوة الحوسبة التي يتطلبها، أصبح ممكناً عندما قام الباحثون باستخدام شبكات التعلم العميق، وهي شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي، أثناء إجراء الدراسة التي نُشرت في دورية وقائع الأكاديمية الأميركية للعلوم.
ويقول أستاذ الكيمياء في جامعة "برينستون"، روبرتو كار الذي شارك في مقاربات تهدف لمحاكاة السلوكيات الجزيئية على أساس قوانين الكم الأساسية لمدة تزيد عن 35 عاماً: "بمعنى ما، هذا يشبه الحلم الذي تحقق".
خلال تلك السنوات، تطلع الباحثون إلى دراسة أنظمة مثل عملية تحول المياه إلى ثلوج، ولكن لم يكن ذلك ممكناً من دون مزيد من التطور في المفاهيم والتقنيات. وأضاف كار أن هذا التطور جاء عبر مجال مختلف تماماً، وهو مجال الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات.
تنوي الجليد
وشارك كار مع عالم إيطالي، في ابتكار طريقة استخدام قوانين ميكانيكا الكم الأساسية، للتنبؤ بالحركات الفيزيائية للذرات والجزيئات ونشرها في دورية علمية متخصصة عام 1985. وتملي قوانين ميكانيكا الكم كيفية ارتباط الذرات ببعضها البعض لتكوين جزيئات، وكيف تتحد الجزيئات مع بعضها البعض لتشكيل منتجات نراها في حياتنا اليومية.
لكن حسابات ميكانيكا الكم معقدة وتتطلب كميات هائلة من قوة الحوسبة. في الثمانينيات، كان بإمكان أجهزة الكمبيوتر محاكاة 100 ذرة فقط على مدى بضعة تريليون جزء من الثانية.
وقد أدَّت التطورات اللاحقة في الحوسبة وظهور الحواسيب العملاقة الحديثة، إلى زيادة عدد الذرات والمدى الزمني للمحاكاة، لكن النتيجة كانت أقل بكثير من عدد الذرات اللازمة لمراقبة العمليات المعقدة مثل تنوي الجليد.
وتنوي الجليد هي عملية تتجمع فيها ذرات المياه مع بعضها البعض لتكوين نواة لكريستال الجليد. وفي تلك الدراسة، قدم الذكاء الاصطناعي حلاً محتملاً جذاباً يشرح تلك العملية المعقدة.
قوة الحوسبة
في البداية، قام الباحثون بتدريب شبكة عصبية حاسوبية، سميت بسبب تشابهها في آلية عملها مع الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، للتعرف على عدد صغير نسبياً من الحسابات الكمومية المختارة.
وبمجرد التدريب، يمكن للشبكة العصبية حساب القوى بين الذرات بدقة ميكانيكية الكم. ويتم استخدام نهج التعلم الآلي هذا بالفعل في التطبيقات اليومية مثل التعرف على الصوت والسيارات ذاتية القيادة.
وقبل تطبيق الذكاء الاصطناعي على النمذجة الجزيئية، جاءت مساهمة كبيرة في عام 2018، عندما وجد طالب الدراسات العليا في جامعة "برنستون" لينفينج زانج، والذي يعمل مع كار على طريقة لاستخدام الشبكات العصبية العميقة في عمل نمذجة القوى بين الذرات الميكانيكية الكمية.
وفي الورقة البحثية الحالية، طبق العلماء هذه التقنيات في محاولة لعمل محاكاة لعملية تنوي الجليد.
وقد تمكنوا من إجراء عمليات محاكاة لما يصل إلى 300 ألف ذرة باستخدام قوة حوسبة أقل بكثير ولفترات زمنية أطول بكثير مما كان ممكناً في السابق.
وقد أجرى الباحثون عمليات المحاكاة على جهاز "Summit"، وهو أحد أسرع أجهزة الكمبيوتر العملاقة في العالم، ويقع في مختبر أوك ريدج الأميركي الحكومي والتابع لوزارة الطاقة الأميركية.
صندوق أسود
وتتكون جزيئات الماء من ذرتين هيدروجين وذرة أكسجين. وتحدد الإلكترونات حول كل ذرة كيف يمكن للذرات أن تترابط مع بعضها البعض لتشكيل الجزيئات.
وتبدأ المعادلة التي وضعها الباحثون في وصف الكيفية التي تتصرف الإلكترونات. تحدد الإلكترونات كيفية تفاعل الذرات، وكيف تشكل روابط كيميائية، وتقريباً كل ما يحدث من عمليات كيميائية.
ولأن الذرات يمكن أن توجد فعلياً في ملايين من الترتيبات المختلفة، قام العلماء في الدراسة بعمل المعادلة في محاولة لقراءة ما يحدث في عدد صغير نسبياً من التكوينات، لمجموعة صغيرة من الذرات لترتيبات لا حصر لها لنظام أكبر بكثير، وهو ما مكنهم من محاكاة عملية تنوي الجليد بشكل دقيق على مستوى الذرات والجزيئات.
ورغم أنَّ أساليب الذكاء الاصطناعي كانت متاحة منذ سنوات، إلا أنَّ الباحثين كانوا حذرين بشأن تطبيقها على حسابات الأنظمة الفيزيائية، فعندما بدأت خوارزميات التعلم الآلي في الانتشار، كان جزء كبير من المجتمع العلمي متشككاً "لأن هذه الخوارزميات عبارة عن صندوق أسود. لا تعرف خوارزميات التعلم الآلي أي شيء عن الفيزياء ، فلماذا نستخدمها؟"، وفق ما ذكر الباحثون.
ولكن في العامين الماضيين، حدث تغيير كبير في هذا الموقف، ليس فقط لأن الخوارزميات تعمل، ولكن لأن الباحثين يستخدمون معرفتهم بالفيزياء لإبلاغ نماذج التعلم الآلي. والتي تُكون مجموعة من الخبرات التي يمكن استخدامها لاحقاً لوصف الظواهر أو حل المشاكل.
ويقول عميد جامعة "برينستون" للأبحاث وأستاذ الهندسة والعلوم التطبيقية بابلو ديبنديتي، إن "هذه من أفضل الدراسات بشأن تنوي الجليد.. فالتنوي هو أحد العمليات الرئيسية غير المعروفة في نماذج التنبؤ بالطقس وهذه خطوة مهمة جداً إلى الأمام لأننا تمكنا من محاكاة أنظمة كبيرة جداً، والتي لم يكن من الممكن تصورها في السابق للحسابات الكمومية".
في الوقت الحالي، تحصل النماذج المناخية على تقديرات لمدى سرعة تنوي الجليد في المقام الأول من الملاحظات التي تم إجراؤها في التجارب المعملية، ولكن هذه الارتباطات وصفية وليست تنبؤية وصالحة على نطاق محدود من الظروف التجريبية.
في المقابل، يمكن أن تنتج المحاكاة الجزيئية من النوع الذي تم إجراؤه في هذه الدراسة عمليات محاكاة تنبؤية للمواقف المستقبلية، ويمكنها تقدير تكوين الجليد في ظل الظروف القاسية لدرجة الحرارة والضغط، كما هو الحال على الكواكب الأخرى.
ويقول الباحثون إن منهجية الإمكانات العميقة المستخدمة في الدراسة ستساعد على تحقيق الوعد بالديناميات الجزيئية -العمليات التي تحدث على مستوى الجزيئات- لإنتاج تنبؤات قيمة للظواهر المعقدة، مثل التفاعلات الكيميائية وتصميم مواد جديدة.
اقرأ أيضاً: